بيروت – كمال ذبيان
كانت الحكومة اللبنانية برئاسة تمام سلام، تبشّر اللبنانيين أن صيفهم سيكون واعداً، وسينعمون بأمن وهدوء، مما سيعزّز الحركة السياحية وينعش موسم الإصطياف اللذين عطّلتهما أو شلّتهما الأزمة السورية وإنعكاساتها السلبية على لبنان، فجاء وقوع إنفجارين بسيارتين مفخختين يقودهما إنتحاريان، في كل من ضهر البيدر على طريق بيروت-دمشق، وفي الطيونة بمنطقة الشيّاح جنوب العاصمة، ليبدّدا التفاؤل الذي ساد لمدة ثلاثة أشهر والذي رافق تشكيل الحكومة، بتوافق داخلي بين مكوّنات «8» و«14 آذار» والوسطيين الذين يمثّلهم النائب وليد جنبلاط، وبرعاية إقليمية-دولية، ساهمت في الإستقرار، كما في تنفيذ خطة أمنية في الشمال وتحديداً في طرابلس بنزع فتيل التفجير الدائم بين جبل محسن وباب التبانة، بإنكفاء قادة المحاور واعتقال البعض منهم وتواري علي ورفعت عيد، حيث توقفت المعارك، كما ساهمت معركة جبال القلمون بإقفال معابر الموت التي كانت تمرّ منها السيارات من سوريا الى لبنان، لتنفجر في الضاحية الجنوبية والبقاع الشمالي، وقد تراجعت بنسبة 90 بالمئة، كما أكّد المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، وأيضاً وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي تحدّث عن ثلاث بؤر إرهابية لا بدّ من إغلاقها، وهي «مخيّم عين الحلوة» عبر خطة أمنية للفصائل الفلسطينية بوشر بها، و«سجن روميه» الذي يقبع فيه قادة إرهابيون يديرون عمليات إرهابية، ومنطقة «جرود عرسال» التي تمتد الى مشاريع القاع، التي لجأ إليها آلاف المسلحين الفارين من معارك يبرود ورنكوس وقارة في جبال القلمون، واتّخذوا منها قواعدهم، وفيها ماتزال تجري عملية تفخيخ السيارات وتجنيد الإنتحاريين، حيث تبيّن أن هوية مَن فجّر السيارتين في ضهر البيدر والطيونة سورية وأحدهما من منطقة الزبداني التي مازالت خاضعة لسيطرة المسلحين ولم يدخلها الجيش السوري بعد، وهو يحاول عبر المصالحة وتسليم المسلحين لأنفسهم أن يحلّ الوضع فيها.
أصيب 11 شخصا في تفجير انتحاري وقع مساء الأربعاء الماضي في فندق «دي روي» في منطقة الروشة غرب بيروت، بينهم 4 عناصر من الأمن العام. وكان التفجير الانتحاري قد وقع أثناء مداهمة وحدة من الأمن العام للفندق، حيث قام انتحاري سعودي بتفجير نفسه في غرفته بالطابق الرابع من الفندق الواقع قرب السفارة السعودية، فيما ألقي القبض على انتحاري سعودي آخر (في الصورة). |
ولقد تزامن عودة مسلسل التفجيرات مع التمدّد الذي حققه تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) في الموصل ومحافظات غرب العراق على مساحة واسعة من الأرض إنضمّت الى آخرها في شمال سوريا في الحسكة والرقّة ودير الزور وبعض مناطق ريف حلب، ليعلن أمير هذا التنظيم «أبوبكر البغدادي» عن بدء إقامة «الخلافة الإسلامية» في بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) والعراق، وهو ما أعطى دفعاً للقوى الإسلامية في لبنان لاسيما المتطرفة منها، مع بعث الخلافة من جديد، وتطبيق «حكم الله بالشريعة الإسلامية»، والقضاء على الدول التي أنشأها الإستعمار بموجب معاهدة سايكس-بيكو، حيث تلاقي هذه الدعوات تأييداً شعبياً لها في ظل التحريض ضد إقامة «الهلال الشيعي» الذي تسعى إليه إيران، كما يقول خصومها في المنطقة واستعادة «الدولة الصفوية» التي تحاربت مع «الدولة العثمانية» التي كانت تحمل راية «الخلافة الإسلامية»، حيث أظهر هذا الخطاب التحريضي، الصراع السنّي-الشيعي، وأن هلالين يتصارعان على الهلال الخصيب أحدهما شيعي تقوده إيران، وآخر سنّي تقوده «داعش» وجماعات أخرى تساندها وتقف معها دول خليجية، لمنع التمدد الشيعي بإتجاهها، وفق ما يصدر عن مسؤولين فيها، واستعادة مشهد الحرب العراقية- الإيرانية.
وفي هذه التطورات المحيطة بلبنان الذي يتأثّر بالجغرافيا، فإن نهاية أسبوعه الأمني الماضي، أعاد الأيام السوداء، إذ استفاق اللبنانيون على معلومات أمنية تبلّغها الرئيس نبيه برّي عن محاولة إغتيال ستستهدفه إذا ما حضر مؤتمراً في قصر الأونيسكو تنظّمه «حركة أمل» للمختارين، فتمّ تأجيل المؤتمر، ولم تنتهِ محاولات إغتيال الرئيس برّي الذي يتّخذ إجراءات أمنية مشدّدة، ويقلّل من تحركاته، ويقيم بشكل دائم في عين التينة، وانقطع عن الذهاب الى المصيلح، ليقطع الطريق على الفتنة التي ومنذ سنوات يعمل المخططون لها، بإستهداف شخصية بوزن وحجم وتأثير الرئيس برّي، كي يشتعل الصراع السّنّي-الشيعي، والذي كانوا يريدونه أن يحصل مع إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وقد فشل، وإن نجح في إذكاء خطاب مذهبي، وسمح لمجموعات إسلامية متطرفة أن تظهر على الساحة اللبنانية، مثل «فتح الإسلام» و«جند الشام» و«عصبة الأنصار».
فالتحذير الذي أعطي للرئيس برّي وإلتزم به، لم يمنع المخططين للفتنة من أن يستكملوا مشروعهم، فتمّ تفجير سيارة مفخخة قبل لحظات من مرور المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي تلقّى أكثر من تهديد أنه سيستهدف لموقعه الأمني البارز في كشف شبكات إرهابية، وفي إطلاق مخطوفين من سوريا، أو في منع إنزلاق لبنان نحو الفتنة عبر دوره الأمني-السياسي، بفتح قنوات إتصال بين قوى لبنانية سياسية متصارعة، حيث لبنان بقطوع أمني آخر وفي يوم واحد ولشخصيتين شيعيّتين وفاعليتين، كان سيؤدي لو أصابهما سوء الى إشتعال لبنان بحرب أهلية، وهذا هو ما يقصده العاملون للفتنة، وهم من أصحاب شعارات تكفيرية، تدعو الى محاربة «الروافض» (الشيعة)، وتطالب بإزالة المظلومية عن أهل السّنّة، وهو خطاب يؤجّجه رجال دين من أمثال سالم الرافعي عضو «هيئة العلماء المسلمين» الذي دعا الى ثورة سنّيّة على غرار ما حصل في غرب العراق بدءاً من الموصل.
فالوضع الأمني عاد ليهتزّ في لبنان الذي يمرّ بشغور في رئاسة جمهوريته، وقد مضى عليه أكثر من شهر، دون أن يظهر أي توافق داخلي لإنتخاب رئيس جديد للجمهورية، والذي قد يمتد الى أجل غير مسمى، مع إستفحال الأزمتين العراقية والسورية، وتعقّد إيجاد حل سياسي لهما، وتوجه المنطقة نحو مزيد من الحروب والمواجهات التي قد تأخذ طابعاً إقليمياً، لا يمكن للبنان في ظل هذه الإضطرابات الكبرى، وتغيير الحدود وسقوطها، أن يصمد في وجه التحولات في الجغرافيا، والتغييرات في الأنظمة السياسية، إذ أن أزمته لا يمكن فك إرتباطها عن أزمات المنطقة، وأن الأحداث في العراق أدخلت لبنان بمزيد من التعقيد الداخلي، والتصعيد الأمني، إذ أن طرفي الصراع الإيراني-السعودي على النفوذ في المنطقة، يأخذان لبنان معهما الى هذا الصراع، الذي تفجّر في العراق بين حكومة نوري المالكي الذي يسعى الى ولاية ثالثة لترؤس الحكومة مع نيله أكثرية نيابية، وبين قوى سياسية سنّيّة ترفض التعاون معه، وهو ما أفسح المجال لمشروع «داعش» أن يتقدّم، وقد يلقى له في لبنان التأييد من قبل قوى إسلامية، باتت ترى أن لبنان لا يمكن أن يخضع للنفوذ الإيراني، وهو ما لا تقبل به السعودية ودول خليجية أخرى، وقد وضع هذا الواقع لبنان أمام مفترق طرق مصيري، بعد أن أعلنت «داعش» أنه من ضمن مشروعها «للدولة الإسلامية» التي لا ترى إقامتها، إلا بغزوها واجتياحها، وإقامة «حكم الله» على سكانها، وهذا ما حصل في المناطق التي خضعت لسيطرتها بالسلاح أو بالسيارات المفخخة.
ولقد بدأ المسؤولون اللبنانيون يستشعرون الخطر القادم إليهم من التنظيمات الإسلامية التي لقيت لها أرضاً خصبة في بعض المناطق السّنّيّة المحاذية للحدود مع سوريا، أو في المخيمات الفلسطينية، إذ ما سمّي بـ«خلايا نائمة» بدأت تستيقظ لضرب الأمن والإستقرار في لبنان، وزرع الفوضى والرعب فيه، مما يخلق للقوى التكفيرية قواعد إنطلاق لها لتنفيذ مشروعها، والذي كانت بوادره بإقامة «إمارة إسلامية»، بدأت في الشمال وتحديداً في طرابلس، وجرت محاولة من شاكر العبسي أمير حركة «فتح الإسلام» في العام 2007 ولم تنجح وقد كلّفت الجيش اللبناني 170 شهيداً بين ضابط وعنصر، وآلاف الجرحى ودماراً هائلاً في مخيم نهر البارد.
إن عودة مسلسل التفجيرات، كشف أيضاً هشاشة الوضع السياسي الداخلي، الذي يزداد إهتراءً مع تعطيل المؤسسات الدستورية، وتفاقم الأزمات الإقتصادية- الإجتماعية، وتدهور الأمن وزعزعة الإستقرار، وكلها مؤشرات تدل على أن «فوضى داعش الخلاقة» تتقدّم على الفوضى السياسية والدستورية والأمنية التي يقوم بها أرباب السلطة في لبنان والطبقة السياسية الفاسدة فيه.
Leave a Reply