بقلم: كمال العبدلي
ما إن دحرَ العراقيّون جيشَ الإحتلالِ البريطانيّ بصلابتِهم وانضمامهم بمختلف انحداراتهم الإثنيّة تحت راية ثورةِ العشرين العظيمة، حتّى سارع المحتلّون إلى إجلاء جيوشهم، وابتداع لعبةِ الإنتداب، فأتبعوها بتنصيبِ ملكٍ على العراقيّين، جاؤوا به من أشرافِ الحجاز بمباركةٍ من بعض شيوخِ العشائر العراقيّة الكبرى، فأعلن العراقُ بمقدمه وتنصيبه، دولةً ملكيّةً دستوريّة، حاول عقب تسنّمه الملك فيصل الأوّل رحمه الله، لمهامّ سلطاته، أن يُرسي دعائمَ حكمٍ مدنيٍّ دستوريّ، وقد نجح أيّما نجاحٍ في جهودهِ القيّمة بذلك المضمار، حتّى غدت المملكة العراقيّة من الدول التي يُشار لها بالرفعة والإحترام في منظومة البلدان المتقدّمة في العالَم وخلال فترةٍ زمنيّةٍ قياسيّة تبهرُ العقول، إذ عمّم المدارسَ والتعليمَ في كلّ بقعةٍ من بِقاعِ العراق، وبمختلف المراحل الدراسيّة، وأرسلَ المتفوّقين من الخرّيجين ببعثاتٍ إلى أرقى جامعات العالَم، وعادوا بشهادات اختصاصاتٍ لم تقتصر على الندرةِ وحدها، وإنّما على التنوّعِ ذي الجدوى، وخاصّةً في الطبّ والهندسة والإقتصاد والقانون والعلوم التطبيقيّة، ممّا جعل من العراق، وما امتلكه من كوادر التكنوقراط، في المصافّ المتقدّم بين الدول النامية، وقد انبرى التكنوقراط العراقيّون مثالاً، ستظلُّ الأجيالُ اللّاحقة مدينةً لهم، لِما تحلّوا به من قِيَمِ النزاهةِ الماليّة والإداريّة، وكفاءة الأداء العالية، والإخلاص المطلَق لمهنيّة العمل ولمستقبل البلاد، وقد كان لمبدأ توظيف الموارد الإستراتيجيّة لخزينة المملكة، وأهمّها النفطيّة، الأثر البارز في تحقيق المكاسب الشعبيّة على الأرض، وخاصّةً في مجالَيْ مجّانيّة الطبّ والتعليم، وما تبعهما من إنجازاتٍ فذّةٍ في إنشاء السدود والحركة الدؤوبة في تبليط الطرق، وإحياء وإنشاء المعالم الحضاريّة التي يُعتبر زرعُ المكتبات العامّة في جميع مدن وقصبات العراق، أحد أهمّ الأوجه في نضارة تلك المعالِم.
حتّى إذا أعقبَ الملكَ الراحلَ فيصل الأوّل، نجلُهُ الملك غازي الأوّل، أخذ الأخير على عاتقِه مواصلةَ مسيرةِ أبيه، والسير بمسيرةِ العراق على منهاجه، ليتفاجأ الشعبُ العراقيّ بحادث اصطدام سيّارته بإحد أعمدة الكهرباء الذي لو نطقَ لشهدَ بتدبيره، كما تروي المصادرُ التاريخيّةُ الموثوقة، حصل ذلك في العام 1939، ليدخل العراق تحت إدارة الوصي عبدالإله، الذي انحاز إلى مخطّطات أسياده الإنكليز ضدّ مصالح الشعب، ممّا استدعى القوى الوطنيّة إلى تنظيم العديد من التظاهرات واستنهاض الطاقات الشعبيّة لمناهضة تلك المخطّطات، وكانت أشهرها وثبة كانون 1948 التي أسقطت «معاهدة بورتسموث»، ولإطّلاع القاريء، ولو باقتضاب، أنقل هنا ما أوردهُ الكاتب فائز الحيدر، حول المعاهدة والإنتفاضة ضدّها ضمن بحثه المنشور في العدد 1419من جريدة «الحوار المتمدّن»:
«صُدم الشعب بما نشرته وكالات الأنباء في 6 كانون الثاني / 1948 بتصريحات فاضل الجمالي عضو الوفد العراقي المفاوض في لندن والتي جاء فيها إن الحكومة على وشك أن توقع معاهدة جديدة مع الحكومة البريطانية وإن هذه المعاهدة ستلاقي رضى واستحسان الشعب العراقي ، وأصبح الأمر حديث الشعب كله لأنه يدرك إن عقد معاهدة جديدة في ظروف شاذة ومن قبل وزارة لا تستند الى ثقة الشعب لابد أن تكون مجحفة بحقوق العراق وسيادته.
أثارت هذه التصريحات إستنكار جميع الأحزاب والقوى الوطنية، وصار إحتمال الإضراب العام والتعبير المكشوف بالتظاهرات هوالخيار الوحيد المطروح لإلغاء تلك المعاهدة. وشكلت الأحزاب والقوى الوطنيّة فيما بينها لجنة سميت بلجنة التعاون الوطني إستعداداً لمواجهة الأوضاع المقبلة.
وهنا جاء هدير الطلبة الأكثر حماساً وتضحية ليطارد الصمت ويلاحق ملف المعاهدة فخرج طلبة الكليات والمعاهد بتظاهرة سلمية تعبيراً عن شعورهم الوطني واستنكاراً لتصريحات فاضل الجمالي فاستعملت السلطة منتهى القسوة والإهانات ضدهم لكبت شعورهم وأوقفت عدداً كبيراً منهم وعطلت الدراسة في جميع الكليات ممّا أثار استنكار جميع القوى الوطنية.
كيف تم التوقيع على المعاهدة الجديدة؟
في 15 كانون الثاني وفي تكتم مريب تم التوقيع على المعاهدة الجديدة والتي سميت بمعاهدة بورتسموث في ميناء بورتسموث البريطاني وعلى البارجة البريطانية فكتوريا، من قبل الوفدين العراقي والبريطاني حيث قضى الوفد العراقي يوماً بهيجاً في ضيافة الأسطول البريطاني.
نشرت نصوص المعاهدة التي جوبهت بانتقادات شديدة من جميع القوى الوطنية في اليوم الثاني، وجاء مضمونها كما توقعه الشعب، إذ حتمت هذه المعاهدة على العراق أن يسمح للجيوش البريطانية بدخول أراضيه كلما أشتبكت في حرب في الشرق الأوسط، كما وحتمت أن يمد العراق هذه الجيوش بكل التسهيلات والمساعدات في أراضيه ومياهه وأجوائه.
أصبحت الأجواء متوترة وكل شئ يدعوا للتأمل، أضرب طلاب الكليات والمعاهد استنكاراً لتلك المعاهدة الجائرة ورافق ذلك تظاهرات صاخبة طافت شوارع بغداد متحدية قرارات الحكومة بمنعها وحصلت مناوشات واشتباكات مع الشرطة مما بعث الحماسة لدى جماهير الشعب خصوصاً بعد أن راح وزير الداخلية يهدد ويتوعد الجماهير ببيانات متتالية.
الأيام اللاحقة مثقلة بالأحداث
الشرطة ما زالت تطوق الشوارع مدججة بأسلحتها وتلقيها الأوامر بإطلاق النار وملاحقة المتظاهرين ومصادرة الصحف الوطنية، المحال التجارية والمقاهي والحوانيت تغلق أبوابها إستشهاد الطالب شمران علوان وجرح العديد من الطلبة، إستقالة الهيئة التدريسية لكلية الطب بسبب مقتل طالب آخر أمام مبنى الكلية واحتجاز بعض أساتذة الكليات وبعض الصحفيين بأمر من وزير الداخلية، وكرد فعل لذلك عمّت التظاهرات جميع محافظات الوطن وتحرج الموقف في بغداد مما حمل الوصي عبد الإله إلى دعوة الوزارة وممثلي الأحزاب الوطنية المعارضة وبعض رجال السياسة لعقد مؤتمر في البلاط الملكي لتدارس الوضع المتأزم وقد أجمع ممثلو الأحزاب الوطنية ورجال السياسة الذين حضروا الإجتماع على استنكارهم للمعاهدة ومعارضتهم لها، مما جعل عبد الإله يصدر بياناً صريحاً بعدم إبرام أي معاهدة لا تضمن حقوق الشعب وأمانيه الوطنية، فقوبل هذا البيان من أحزاب البرجوازية الوطنية بالإرتياح، وسارعت إلى تطمين الشعب ودعوته للإخلاد والسكينة، أما الأحزاب المتحالفة في لجنة التعاون الوطني فقد اعتبرت البيان وسيلة لتخدير الشعب وإسكاته، ودعت الجماهير الى مواصلة التظاهر حتى إسقاط الحكومة التي عقدت المعاهدة وإلغاء المعاهدتين 1930 وبورتسموث إلغاءً تاماً، وفي لندن هدد صالح جبر بأنه سيعود إلى بغداد ويقضي على من يقف بوجه الماهدة من مثيري الشغب. بيد أن المظاهرات الصاخبة ظلت تجوب شوارع بغداد تهتف بسقوط الوزارة وإلغاء المعاهدة.
يتبع..
Leave a Reply