فعلاً يحيا العدل في أميركا التي وَإِنْ وقفنا ضد سياستها الخارجية الملتوية، إلاَّ أنَّها في سياساتها الداخلية تبقى تعمل ضمن سقف القانون رغم الاستثناءات التي تحصل من حين إلى آخر.
ففي قرار تاريخي قد تكون له دلالات وانعكاسات وتداعيات على تحقيقات الشرطة وحقوق الأفراد في أميركا، أصدرت المحكمة الاميركية العليا في الاسبوع الماضي حكماً بالإجماع بعدم قانونية قيام عناصر الشرطة بتفتيش الهاتف الخليوي للمشتبه بهم من دون مذكَّرة تفتيش قضائية.
وقبل صدور الحكم من أعلى سلطة قضائية، كانت عادة الشرطة تفتيش كل شيء يحمله المشتبه به قيد الاعتقال. ولكن كما لاحظ رئيس المحكمة العليا جون روبرتس فإنَّ «تفتيش الهواتف المحمولة الحديثة، كفئة، بحد ذاتها تثير قلقاً من حيث التورط المدان في مسألة خرق الخصوصية الشخصية أكثر من مجرد التفتيش في علبة السجائر أو المحفظة أو الحقيبة».
يستحق قضاة المحكمة العليا التقدير والثناء على هذا القرار المفصلي الهام رغم إقرارهم بأنه يمكن أنْ يحدَّ من قدرة رجال القانون على مكافحة الجريمة «فالخصوصية لها ثمن» على حد تعبير روبرتس. إلا أن حكم المحكمة العليا يتماشى مع مبدأ العدالة الاميركية وحقوق الانسان ومع مشعل الحرية الذي حملَتْه الولايات المتحدة وتريد أنْ يصل إشعاعه إلى العالم أجمع.
لكن هذا القرار رغم تاريخيته يبقى، برأينا، منقوصاً ومجتزءاً ما لم يلحظ إنتهاكاً آخر يحصل يومياً وبلا حدود على حدود ومعابر الولايات المتحدة وبحق العديد من الأميركيين الأبرياء الذين لا يزالوا يخضعون لعمليات تفتيش لهواتفهم الجوَّالة من قبل المكلفين بإنفاذ القانون من دون إذن قضائي. فعناصر إدارة «الجمارك وحماية الحدود الاميركية» لايزال لديهم الحق والسلطة القانونية الكاملة لتفحُّص أجهزة الهاتف أثناء دخول المواطن الأميركي إلى بلده وبطريقة تعسُّفية وأحياناً كثيرة نمطية. «رجال الجمارك والحدود» يملكون سلطة طلب فحص هواتف المسافرين ولا يفوتون فرصة في إستخدام هذه السلطة بحق الأميركيين العائدين إلى بلادهم. فبينما يدعو قرار المحكمة العليا إلى احترام الفرد ولو كان يشتبه بأنه مجرم عن طريق اتباع القوانين المرعية الإجراء فيما يتعلق بتفتيش هاتفه ضمن القانون، يُعامَل المسافر الأميركي كالمجرم ويجري تفتيشه من دون مذكَّرة قضائية. أي في الحالة الأولى المتهم المشتبه به بريء حتى تثبت إدانته والمسافر متهم حتى تثبت براءته!
ويشكِّل القانون الحالي الذي تعتمده إدارة «الجمارك وحرس الحدود» انتهاكاً واضحاً للتعديل الرابع لدستور الولايات المتحدة، حيث ينص على أن عناصر «الجمارك وحرس حماية الحدود» يمكنهم فحص الأمتعة الخاصة بك، بما في ذلك المعدات الإلكترونية، أو سيارتك، ولديهم السلطة القانونية للقيام بذلك. اي بإمكان «الجمارك وحرس الحدود» أن يستعرضا حياتك كلها علناً كشريط وثائقي لا لتهمة، بل لأنك تجرأت وغادرت بلدك وعدت إليه لأي سبب.
ف«معداتك الالكترونية» الحديثة يمكن أنْ تمنح الجمارك وحرس الحدود الوصول إلى حسابك المصرفي وصورك وملاحظاتك المكتوبة وسجلات الهاتف، وجردة على المواقع التي تزورها على شبكة الإنترنت والبريد الإلكتروني والتفاعل مع شبكات التواصل الاجتماعي. إذن عند الحدود، تفقد خصوصية المسافرين كل حد من حدود الحماية القانونية ويتم تجريد المسافرين من حقوقهم المدنية كافة ويصبحون فريسة لا حول لها ولا قوة أمام العناصر الأمنية في الحكومة الفيدرالية. وبينما قد تترتب على منع الشرطة من فحص هواتف المشتبه بهم كلفة معينة على حساب القانون، إلا انّ حماية الأجهزة الإلكترونية الشخصية من قبل «الجمارك وحرس الحدود» لن يؤثر على قدراتهم لتأمين سلامة حدودنا. وبالتالي، ينبغي أن يمتد حكم المحكمة العليا الشجاع لحماية الخصوصية الشخصية من رجال الشرطة إلى عناصر «الجمارك وحرس الحدود».
وينص التعديل الدستوري الرابع على أنه «لا يجوز انتهاك حق الناس في أن يكونوا آمنين في أشخاصهم ومنازلهم وأوراقهم واشيائهم ومضبوطاتهم، ضد عمليات التفتيش غير المعقول أو المبرَّر، ولا يجوز إصدار مذكرة قضائية بهذا الخصوص إلاَّ اذا كانت لأسباب مقنعة ومدعومة ومسندة بتأكيد وقسم يمين وتحدِّد المكان المراد تفتيشه والأشخاص أو الأشياء المراد احتجازها». هذا النص هو الأكثر خرقاً من قبل عناصر «الجمارك والحدود». وبناءً عليه فمن غير المعقول أن يجري تفتيش هاتف المسافر لمجرَّد أنه كان خارج البلاد وكأنه يُعاقب على ذلك حين يعود! ولعل أكثر المكتوين بنار إجراءات «الجمارك وحرس الحدود» هم العرب الأميركيون والمسلمون الذين خبزوا وعجنوا هذه الإجراءات التعسفية والمعاملة النمطية خصوصاً في معبر الحدود الاميركية الكندية عندما يعبر العرب لزيارة الأهل والأقارب والأصدقاء إلى الجزء الكندي من نهر ديترويت فيتعرضون للإهانة والمعاملة القاسية والرديئة والانتظار لساعات طويلة قبل أن يُفرج عنهم وبعد أن تُعرض سيرة حياتهم كلها أمام الملأ ويجري تفتيش سياراتهم ومعداتهم الإلكترونية من ضمنها هواتفهم النقالة. وقد رويت مرات عدة قصصاً مخيفة حول تجارب العرب الأميركيين والمسلمين وكل من «يشبههم» ولو كانوا ممن ولدوا في هذا البلد، فالصور النمطية لا تميز بين عربي وآخر وكلهم سواسية كأسنان المشط: متهمون حتى يثبت العكس، وهذا ما جنته عليهم هجمات أيلول (سبتمبر) الإرهابية على نيويورك. يجب أن تكمل المحكمة العليا «مكرمتها» القضائية وعدالتها بوقف هذا التمييز والمهزلة على الحدود ومنع عناصر «الجمارك والحرس» من التدقيق بهواتف المسافرين كالأزواج الذين نهشتهم الغيرة، وإلا بقي قرارها التاريخي غير مكتمل ونهشاً للعدالة وانتقاصاً من الحق الذي يجب أنْ يشمل كل المرافق.
Leave a Reply