عماد مرمل
بات واضحا ان خطر التطرف والتكفير عابر للطوائف والمذاهب.. وللتاريخ والجغرافيا، وان أية محاولة لوضعه في سياق صراع سني- شيعي، إنما ترقى الى مستوى الخطيئة السياسية والاخلاقية.
وعليه، فإن هذا الخطر يشكل تهديدا أمنيا وحضاريا لكل مكونات المنطقة ودولها، كما يتبين من سلوك التكفيريين الذين تبدأ مشكلتهم مع أنفسهم أولا، إذ ان كل جماعة منهم تحاول إلغاء الاخرى وشطبها من الوجود، وما الاقتتال بين تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» في سوريا وتبادل الاغتيالات سوى مثال بليغ على هذا النهج الإقصائي والإلغائي.
والى جانب الحرب مع الذات، يخوض أصحاب هذا النهج حربا على «الآخر» في كل الطوائف والمذاهب، من دون تمييز بين سني وشيعي ودرزي ومسيحي، ذلك ان الاحكام والفتاوى المعلبة جاهزة «غب الطلب»، لإنزال القصاص بحق كل هؤلاء، بأشكال مختلفة، تبدأ من مصادرة الخصوصيات والحريات، وتنتهي بالقتل على أيدي الانتحاريين المضللين.
وامام هذا الواقع، يغدو من العبث والوهم ان يفترض اي طرف، سواء اكان لبنانيا او إقليميا، ان بإمكانه الاستثمار على ظاهرة التطرف بمسمياتها المتعددة، والاستفادة من طاقتها الدموية، لتصفية حسابات مع الخصوم أو لتحقيق مكاسب سياسية، مفترضا انه يستطيع في الوقت ذاته ان يبقى بمنأى عن تداعيات العاصفة، لاسيما ان التجربة أثبتت ان الجماعات التكفيرية انقلبت أكثر من مرة على رعاتها او مستثمريها بمجرد ان اشتد عودها، وبالتالي فان اللعب معها على حافة الهاوية محفوف بالمخاطر ولا يقود إلا الى.. قعر الهاوية.
وعلى قاعدة ان التحدي مشترك ويعني الجميع، حتى من يحاول تجاهله، فان مواجهته ينبغي ان تكون أيضا مسؤولية مشتركة، لا «وكالة حصرية» لهذه الجهة او تلك، إذ كلما اتسعت جبهة المتصدين لغزوات التطرف والتكفير، اتخذ الصراع وجهته السياسية والحضارية الحقيقية، بمعزل عن اي فرز او اصطفاف مذهبي، من شأنه ان يفيد بالدرجة الاولى المجموعات الارهابية التي تنمو في المناخ الموبوء.
ولعل أحد أبرز شروط تحصين المناعة في مواجهة فيروس التطرف الذي تسلل الى الجسم الاسلامي، يكمن في وقف الخطاب التحريضي من قبل البعض في لبنان والمحيط الاقليمي، الذي يستخدم لزيادة الشعبية او للضغط على الخصم السياسي، ذلك ان هذا الخطاب الذي يشحن النفوس ويستنفر الغرائز يقود بشكل او بآخر، عن قصد او غير قصد، الى التبرع بنوع من التبريرات لسلوك الجماعات المتشددة.
وبرغم الاصوات التحريضية النافرة التي تعلو من هنا وهناك، من حين الى آخر، فلا توجد في لبنان بيئة حاضنة «حقيقية» للمجموعات المتطرفة والارهابية، فالذين يقدمون الدعم والمساعدة لهذه المجموعات هم بضعة أفراد، لايعكسون مزاجا عاما.
والدليل الاكبر على افتقار الارهابيين الى بيئة خاضنة هو ان العديد من الانتحاريين لا يجدون ملاذا لهم سوى الفنادق، كما هي حال الانتحاريين السعوديين ضبطا في فندق «دو روي» في الروشة قبل أيام، إضافة الى انه تبين ان منفذي العمليات الارهابية في الآونة الاخيرة معظمهم من غير اللبنانيين.
يؤشر ذلك الى ان الفكر المتطرف الذي يحمله التكفيريون ، وان كان له موقع ما في بعض الدول العربية، فهو دخيل على البيئة اللبنانية خصوصا، ولا يمكن ان يشكل جزءا من نسيجها الاجتماعي، فالاسلام الوسطي كان وما يزال يمثل سمة الغالبية الساحقة من المسلمين في المنطقة، وإن يكن الدوي الذي يخلّفه التطرف قد يعطي انطباعا مغايرا، في بعض الاحيان.
كما ان النموذج الذي قدمته «داعش» و«النصرة» في سوريا، سواء من حيث الاقتتال بينهما، او من حيث نمط العيش، جعل من الصعب تسويقه، ودفع الكثيرين الى النفور منه، الامر الذي ساهم في تقليل فرص نشوء بيئة حاضنة لمثل هذا النموذج الدموي والمتخلف الآتي من كهوف التطرف والتعصب.
هذا يوجب تسليط الضوء والعناية على مكامن الخلل التي تتسم بها العلاقة بين مكونات شيعية وسنية في العديد من الدول العربية، وصولا الى لبنان، خاصة وانها تشكل ثغرات ونقاط ضعف من شأنها إضعاف المناعة ومنح ذرائع للمتطرفين الذين يقدمون أنفسهم تحت شعار حماية حقوق المسلمين السنة والذود عن كرامتهم، في مواجهة محاولات التهميش والاقصاء والاضطهاد والقهر.
من هنا ، فإن «الاسلحة السياسية» لا تقل شأنا عن الجهد الامني والقوة العسكرية في الحرب على الارهاب، بل لعلها تتجاوزهما في الأهمية، مشددة على ان المطلوب في هذا السياق الاستعانة ب«لقاحات وطنية» لتمتين الساحة الداخلية في كل دولة تواجه تحدي التطرف وخطر الانزلاق الى مستنقع الفتنة المذهبية.
ولعل المدخل الإلزامي الى اكتساب الحصانة المطلوبة يكمن في تعزيز المشاركة والشراكة في الحكم وتصحيح الخلل في التوازن حيث يوجد، مع ما يستدعيه ذلك من تشكيل حكومة وحدة وطنية في العراق حتى لو كانت نتائج الانتخابات البرلمانية الاخيرة تتيح تأليف الحكومة على اساس معادلة الموالاة والمعارضة، وتحقيق المصالحة في البحرين على قاعدة العدالة في توزيع السلطة، وإطلاق حوار مباشر بين حزب الله وتيار المستقبل في لبنان وتفعيل حكومة المصلحة الوطنية برئاسة تمام سلام، لاسيما انها أصبحت خط الدفاع السياسي الاساسي بعدما أصيب موقع رئاسة الجمهورية بمرض الشغور.
فلقد تبيّن بعد أشهر من تشكيل الحكومة ان الموافقة على منح حقيبتي «الداخلية» و«العدل» الى صقرين من تيار المستقبل هما نهاد المشنوق وأشرف ريفي كانت «ضربة معلم» من فريق 8 آذار، وتحديدا «حزب اللهى، خلافا للانطباع المعاكس الذي ساد البعض في البداية، إذ ان توليهما هاتين الحقيبتين، ألزمهما وتيارهما بالانخراط في الحرب على الارهاب – خصوصا في ما يتعلق بوزير الداخلية، المعني مباشرة بالملف الامني- بدل ان يكون «حزب الله» وحيدا في تحمل أعباء هذه المواجهة، علما ان أهم ما في هذه الشراكة ضد الارهاب انها تخفف من الطابع المذهبي لأي تفرد في التصدي له.
Leave a Reply