كمال ذبيان
قبل أكثر من عامين وتحديداً في حزيران من العام 2012، عندما قرّر «حزب الله» المشاركة في القتال الى جانب الجيش السوري في المناطق السورية الحدودية مع لبنان، ومنها قرى وبلدات لبنانية، إنما كان يخوض حرباً استباقية في مواجهة القوى التكفيرية والظلامية التي رفعت شعارات إلغائية ضد كل مَن لا يدين بما تدّعيه «إسلامها الجهادي»، وممارستها العنف الدموي والتدميري، وهو ما فعلته كجماعات منتمية الى تنظيم «القاعدة» الذي أسسه أسامة بن لادن وفروعه، ومن يبايع أمراءه، كما حصل في أفغانستان عبر ارتكاب مجازر بحق الشيعة «الهزارة» والسّنّة من غير الذين يتبعون نهجهم الإقصائي، وهي الأعمال الإجرامية التي قاموا بها في العراق، وقبل ذلك في السودان ودول شرق آسيا، وفي القوقاز وكازاغستان في آسيا الوسطى، كما في شمال أفريقيا وغربها.

فهذه الجماعات أخذت من سوريا وبعد عام على بدء الأزمة فيها، قاعدة «لجهادها»، وهي حرفت الثورة عن أهدافها بإلدعوة الى اصلاحات في تحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق التعددية السياسية والحزبية بديمقراطية أكثر بإلغاء نص المادة الثامنة من الدستور التي تعتبر حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، وقامت الجماعات الإسلامية المتطرفة من «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» و«كتبية الفاروق» و«الجبهة الإسلامية»، وغيرها من المسميات المتعددة التي تحمل شعارات إسلامية، وكان آخرها «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، فخرجت عن المطالب الإصلاحية التي قبل بها معارضون للنظام وحاوروه عليها، وأقرّ بها وشارك بعضهم في الحكومة كما في الانتخابات لأعضاء مجلس الشعب، حيث نقل المتطرفون الثورة من إصلاحية الى دموية تدعو لاجتثاث النظام من أساسه وبالعنف وإقامة حكم الله وتطبيق شريعته واستعادة «الخلافة الإسلامية»، وإلغاء وجود «الروافض» – الشيعة – وفرض اعتناق الإسلام على المسيحيين أو عمل السيف بأعناقهم أو إجبارهم على دفع الجزية، وإذا لم يفعلوا فيهجرون من أرضهم وتصادر أملاكهم، وهذا ما حصل في العراق وكانت آخر ارتكاباتهم في الموصل، وهو ما مارسوه في سوريا في المناطق التي خضعت لسيطرتهم.
أمام كل هذه الوقائع، كان قرار قيادة «حزب الله» إرسال مقاتليه الى سوريا، للوقوف بوجه المشروع التكفيري الذي يلجأ الى الإرهاب الذي يضرب في كل العالم، وحتى في الدول التي تساند ما سمي «ثورة في سوريا» ضد النظام، وعقدوا من أجلها مؤتمرات باسم «أصدقاء سوريا»، فكانت النتيجة أن هذا الدعم المالي والتسليحي واللوجستي والسياسي والإعلامي، تحوّل ضد هذه الدول التي جاء منها «جهاديون» للقتال في سوريا لإقامة «الخلافة الإسلامية» التي أعلنها أبو بكر البغدادي مؤسس «داعش»، وطالب مبايعته.
فكانت معارك «حزب الله» في سوريا، لاسيما عند الحدود مع لبنان، وطرد المجموعات المسلحة من القصّير في ريف حمص، ثم في جبال القلمون عند السلسلة الشرقية للبنان، استباقاً لإنتقال الحرب الى الداخل اللبناني لاسيما في البقاع الشمالي والهرمل ذات الكثافة الشيعية والحاضن الشعبي للمقاومة، إذ بدأت الجماعات التكفيرية تهدد أمن المواطنين بالقصف والخطف ومنع المزارعين من استثمار أراضيهم، كما في طرد لبنانيين من بلداتهم داخل الأراضي السورية، فكان قرار «حزب الله» القتال في سوريا، دفاعاً عن لبنان الذي حاول الجيش اللبناني بإمكاناته صد تسلّل المسلحين، لكن اتساع الحدود الشمالية والشرقية مع سوريا، أجبر المقاومة على أن تكون المعركة ضد التكفيريين في البلدات السورية في تلكلخ وقلعة الحصن شمالاً وفي قارة والنبك ويبرود ورنكوس والقلمون شرقاً، وقد تمكّنت المقاومة مع الجيش السوري من تطهير هذه المناطق الاستراتيجية من المسلحين وتأمين الطرقات الدولية والفرعية، وإقفال مصانع ومراكز تفخيخ السيارات عبر سد معابر الموت، وقد نجحت العملية العسكرية بنسبة 90 بالمئة، وتوقف إرسال السيارات المفخخة بالإنتحاريين التي زرعت الرعب في المناطق اللبنانية، لاسيما تلك التي تدين بالولاء للمقاومة.
وقد نجحت الحرب الاستباقية التي قام بها «حزب الله» بمنع إلحاق لبنان بـ «الدولة الإسلامية» التي أعلنها البغدادي من ضمن «بلاد الشام»، وهو كان مع «جبهة النصرة» التي اختلف فيما بعد مع مؤسسها أبو محمد الجولاني على أن يعملان على التمدد العسكري من البقاع والشمال وقد أقاما لتنظيميهما بنية تحتية عسكرية وأمنية، وسموا كلا منهما أميراً في لبنان، بعد أن اتّخذ مسلحوهما من عرسال وجرودها وبعض مناطق عكار قواعد بشرية وخلايا نائمة بقصد إعلان إمارات إسلامية، إلا أن الهزيمة العسكرية التي لحقت بهما وبحلفائهما من الجماعات التكفيرية أحبط مشروعهما الذي لو نجح شمالاً وبقاعاً لكان تمدّد باتجاه مناطق أخرى وسقطت بالقبضة العسكرية والإرهابية، واجتاحوا المناطق المسيحية في الشمال وجبال لبنان الشمالي الفاصلة بينها وبين بيروت، وصولاً الى الضاحية الجنوبية ومناطق اخرى.
هذا هو مخطط الجماعات التكفيرية التي أوقفها «حزب الله» عند السلسلة الشرقية، دون أن يمنع خطرها كلياً، وقد تنبّه لما حصل في الموصل ومناطق أخرى في سوريا، فقرّر أن يستكمل تطهير المناطق الحدودية التي تسلل إليها المسلحون بعد فرارهم من القصير وريف حمص وجبال القلمون، وقد أقاموا لهم في الجرود قواعد عسكرية، إذ تشير المعلومات الأمنية أن عددهم هو ما بين خمسة وعشرة آلاف مسلّح ينضم إليهم آخرون من النازحين السوريين الى عرسال والبالغ عددهم نحو أكثر من مئة ألف، بحيث أصبحت سيطرتهم على عرسال شبه كاملة، و قرار البلدة معهم، وارتكبوا فيها عمليات قتل وخطف وابتزاز بقيادة «أبو حسن الفلسطيني» الذي سُمي أميراً على المنطقة من داعش بعد ان ابتعد عن النصرة التي غرّرت بأحد العسكريين من المجندين في الجيش اللبناني ويدعى عاطف سعدالدين، وطلبت منه الفرار من مركزه العسكري في عرسال مع سلاحه وما يستطيع الاستيلاء عليه من سلاح لرفاقه، وهذا ما حصل، ليظهر في شريط مصوّر مع أحد مسؤولي «جبهة النصرة» يبرز فيه بطاقته العسكرية، باستنساخ لما كان يحصل في الجيش السوري مع بداية اندلاع الأزمة، ليظهر أن أفراداً فروا، ولم ينشق عنه لواء أو كتيبة أو فرقة، وأن كل ما حصل هو هروب عدد من الضباط والجنود لا يتعدون العشرة آلاف، لم تتمكن المعارضة من تأليف أو هيكلة ما سمي «الجيش السوري الحر» الذي اندثر وتحوّل الى جماعات إسلامية.
ففرار المجند من الجيش اللبناني هو حالة فردية وشاذة، حاولت «جبهة النصرة» استغلالها إعلامياً، علّها تؤثر على وحدة المؤسسة العسكرية التي يشكك بها نواب من كتلة المستقبل مثل خالد الضاهر ومعين المرعبي ومحمد كبارة وآخرين، كانوا يحرضون على الجيش وقائده العماد جان قهوجي ويصفونه بـ«الجيش الصليبي»، وأنه «يأتمر بأوامر «حزب الله»، ويلاحق أهل السّنّة وشبابهم ويعتقلهم ويزجهم بالسجون»، ومن أجل خلق بيئة معادية للجيش في الطائفة السّنّيّة، ودعوة الضباط والجنود منها للإنشقاق عن الجيش، وقد حاولوا في 7 أيار 2008، كما مع بداية الأزمة السورية، لكن خطتهم لم تنجح، وحافظت المؤسسة العسكرية على انضباطها ووحدتها، لأن محاولات شقها سيساعد على أن تمسك الجماعات الإسلامية بالأرض، لكن فشل هذه المحاولة وهزيمة المسلحين عند الحدود، أعطت «حزب الله» كل الأسباب الموجبة لمشاركته في المعارك مع النظام واستمراره بملاحقة فلول المسلحين، إذ أن معركة الجرود في عرسال ورأس بعلبك ومشاريع القاع إضافة الى السيطرة على رنكوس والطفيل، سينهي مشروع «الدولة الإسلامية» في لبنان التي أعلنها البغدادي، وباتت قوى 14 آذار محرجة جداً أمام جمهورها، بعدما تكشف ما تفعله الجماعات الإسلامية، من اعمال ارهابية واجرامية لاسيما في سوريا والعراق، وما حلّ بمسيحيي الموصل.
فلم تعد لديهم الحجة في أن يعلنوا أن مشروعهم هو العبور الى الدولة، ليتبيّن لهم أن موقفهم من الأزمة السورية ودعمهم لما سمي معارضة أوصلهم الى أن «الدولة الإسلامية» تتقدم على الدولة اللبنانية التي حماها «حزب الله» من السقوط أمام جحافل «داعش» وما يوازيها ويشبهها، وسقطت كل مقولات 14 آذار، إن مشاركة «حزب الله» تسببت بظهور المجموعات التكفيرية، دون أن ينظروا الى المشهد بأوسع من نظرتهم الفئوية والتحاقهم بلعبة المحاور، وسقوط ما كانوا يراهنون عليه، من أن النظام السوري آيل الى الانهيار والرئيس بشار الأسد لن يكمل ولايته، ليبدأ ولاية ثالثة ويحقق الجيش انتصارات ميدانية ترجمت في الانتخابات الرئاسية وتقدم مشروع الدولة السورية على مشروع «الدولة الإسلامية»، التي يُظهرها «الداعشيون» على جاهليتها وتخلفها ومعاداتها للحداثة والتطور وحقوق الانسان والقيم والمبادىء الاسلامية .
إن استمرار معارك الجرود عند السلسلة الشرقية، هو دفاع عن الحدود والسيادة اللبنانية والدولة اللبنانية ووحدتها، فكما تقف المقاومة بوجه «الدولة العبرية» ومشروع كيانها الغاصب التوسعي عند الحدود الجنوبية وحررت الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، فهي تقف عند الحدود الشرقية، لتمنع إقامة «دولة إسلامية داعشية»، تمارس الإرهاب والمجازر والتطهير الديني والمذهبي، كما هي حال دولة «إسرائيل» التي كانت نشأتها على المجازر والتهجير والتطهير.
Leave a Reply