كمال ذبيان
حصل ما كان متوقعاً في عرسال وجرودها، ونفّذت الجماعات التكفيرية مشروعها لإقامة «إمارة إسلامية» في البقاع، تكون قاعدة للتمدّد نحو لبنان لضمّه الى «الدولة الإسلامية» التي أعلنها أبوبكر البغدادي، بعد أن بويع خليفة للمسلمين وطلب منهم الطاعة ومبايعته، وكل مَن يمتنع يكون مصيره القتل، وهذا ما حصل مع «جبهة النصرة» التي يتزعمها أبو محمد الجولاني، ويدين كما البغدادي لفكر تنظيم «القاعدة»، لكنه رفض طاعته ومبايعته، وانتصر له زعيم القاعدة أيمن الظواهري، فوقع قتال بين «النصرة» و«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، سقطت فيه آلاف القتلى في سوريا، ومازال مستمراً ولم يتوقف، حيث تدور معارك السيطرة على المدن والبلدات، في صراع نفوذ على الإمارة والخلافة، إذ لا يريد الجولاني للبغدادي أن يتمدّد الى سوريا، وأن يبقى في العراق، لكن الأخير قرّر أن يفرض نفسه خليفة للمسلمين في كل العالم، على أن يبدأ من بلاد الشام والعراق، ولأن لبنان يقع من ضمن جغرافية الخلافة المزعومة، بايع «أبوحسن الفلسطيني»، (ذُكِر أنه قُتل في المعارك الأخيرة في عرسال)، البغدادي خليفة لينصّبه أميراً على القلمون وعرسال، ومثله فعل عماد أحمد جمعة (أبو أحمد) الذي كان في «النصرة» وأسّس ما يسمى «لواء فجر الإسلام» بعدد مسلحين يبلغ نحو 400، لينضم الى «داعش»، ويحضّر مع «أبوحسن الفلسطيني» لمعركة عسكرية ضد الجيش ينهي وجوده في عرسال وجرودها لإعلان الإمارة والتمدّد بها نحو كل لبنان، وقد سبق ان قتل الرائد بيار بشعلاني والرقيب محمد زهرمان بطريقة وحشية وتعرضت حواجزه للقصف حيث يقف الجيش عائقاً أمام المجموعات التكفيرية، وتصفه بـ«الصليبي» لأن قائده مسيحي، وهو الوصف الذي أطلق أيضاً على قائد الجيش السابق الرئيس ميشال سليمان أثناء معارك مخيم نهر البارد في نهاية ايار العام 2007 مع تنظيم «فتح الإسلام» الذي قاده شاكر العبسي ليقيم «إمارة إسلامية» في لبنان، سبقت ما حصل في سوريا وغيرها من الدول العربية ما سمي «ثورات عربية»، حيث تتلمذ العبسي كما البغدادي على يد «أبو مصعب الزرقاوي» الأردني الأصل والذي انتقل الى العراق لإقامة «إمارة إسلامية» في غرب بلاد الرافدين حيث الأكثرية السّنّيّة وقتال الرافضة – الشيعة – وهو ما نفّذه البغدادي لتنفيذ وصية أميره الزرقاوي، باحتلال الموصل بعد سيطرته على محافظات صلاح الدين والأنبار وديالي، وهو ما كان سينفّذه العبسي في لبنان الذي قدم إليه في صيف 2006، وتمركز في مخيم برج البراجنة لدى «فتح – الإنتفاضة» موحياً لمسؤوليها أنه حضر لمقاومة العدو الإسرائيلي الذي كان يشنّ حربه على لبنان ويستهدف المقاومة فيه، حيث انطلت الحيلة على مسؤولي «فتح – الإنتفاضة» ومنهم مسؤولهم المركزي في بيروت «أبو فادي حمّاد» الذي أقيل من منصبه هو و«أبو خالد العملة» الذي وقع أيضاً في فخ العبسي الذي كان سابقاً مقاتلاً في حركة «فتح – المركزية» ثمّ لجأ الى الزرقاوي كتنظيم ديني.
فالمعركة في عرسال هي امتداد لمعارك مخيّم نهر البارد بين الجيش و«فتح الإسلام»، والتي كان سبقها اشتباكات بين الجيش و«جماعة التكفير والهجرة» في جرود الضينية مطلع عام 2000، وهي امتداد لمعركة عبرا شرق صيدا في حزيران 2013 التي اجتثّ فيها الجيش ما سمي «ظاهرة الشيخ أحمد الأسير» الذي تمّ تجنيده للقتال ضد «حزب الله» خصوصاً والشيعة عموماً، لزج المقاومة واللبنانيين في فتنة مذهبية، وهو ما يسعى إليه التكفيريون في عرسال التي احتلوها بعد أن باغتوا الجيش في مراكزه وحواجزه، فشنت مجموعات مسلحة عملية عسكرية محضّرة ومخطّطة، وقامت بقتل ضباط وعسكريين وفقدان آخرين، ذكرت قيادة الجيش أن عدد الشهداء 14 بينهم ضابطان و86 جريحاً و22 مفقوداً، كما تمّ احتلال فصيلة الدرك في البلدة واحتجاز 16 عنصراً منها والاستيلاء على أسلحة وذخائر، وهذه العملية كانت البداية لمعركة تمكّن الجيش فيها من استرداد بعض مراكزه وحواجزه، وسقوط شهداء وجرحى له، وأخذ المبادرة على الأرض، كما فعل في جرود الضينية ومخيم نهر البارد وعبرا، وهي المعركة الرابعة له في عرسال والتي تختلف ظروفها عن سابقاتها، وإن كان عنوانها واحد هو محاربة الإرهاب ومنع إسقاط الدولة اللبنانية لصالح «الدولة الإسلامية»، إذ لم تعد المعركة مَن يناصر النظام السوري ومَن يؤيّد المعارضة في لبنان، حيث لقي الجيش تأييداً وطنياً شاملاً وواسعاً من كل الأحزاب والتيارات السياسية والمراجع الدينية من مختلف الطوائف والمذاهب، واتّخذت الحكومة بالإجماع القرار السياسي للجيش لمواصلة معركته ضد الإرهابيين مهما كانت تكلفتها البشرية والمادية، لأن التخاذل فيها أو المساومة سقوط للمؤسسة العسكرية والمؤسسات الأخرى، ولم تنفع بعض الأصوات النشاز التي صدرت عن النواب محمد كبارة وخالد الضاهر ومعين المرعبي التشكيك بالجيش وقيادته واتهامه أنه يخوض معركة إيران والنظام السوري و«حزب الله» ضد أهل السّنّة وعرسال السّنّيّة، حيث لاقى موقفهم المذهبي والتحريضي ضد الجيش استنكاراً واسعاً، وهو لا يمثّل ما أعلنه رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري ولا كتلته النيابية، وما يواكبه إعلامه من دعم وتأييد للجيش، وهو ليس بالأمر الجديد، إذ سبق للحريري وتياره أن غطّى الجيش سياسياً وشعبياً في معركتي البارد وعبرا، كما فعل والده الرئيس رفيق الحريري بدعم الجيش في معركة جرود الضينية، وكان الضاهر حينها مع مسلحي «جماعة التكفير والهجرة»، كما هو الآن مع «داعش» و«النصرة»، لأنه ملتزم بفكر «الإخوان المسلمين» الذي كان ينتمي إليه عبر «الجماعة الإسلامية». والجيش يخوض معركة في منطقة جغرافية واسعة، قريبة من الحدود السورية ولها امتداد على نحو أكثر من 70 كلم وبمساحة كبيرة، وبطبيعة جبلية وعرة فيها تلال ووديان ومعابر عدة، تؤمن للمسلحين التنقل فيها بحرية، وإن كانت باتت محدودة بعد سيطرة الجيش السوري وبمشاركة «حزب الله» على بلدات القصيّر في ريف حمص ثم جبال القلمون من قاره الى يبرود ورنكوس وصولاً الى الطّفيل، إلا أن المسلحين استطاعوا العبور الى السلسلة الشرقية من جبال لبنان وتحصنوا فيها وأقاموا في مغاورها، حيث قُدّر عددهم بأكثر من خمسة آلاف مسلح، انضمّ إليهم في المعركة بعرسال آلاف من المسلحين كانوا مزروعين في صفوف النازحين الذين بلغوا نحو 140 ألفاً.
والمعركة العسكرية لن تكون سهلة على الجيش الذي قد يكون أخطأ في التقدير بعدم تعزيز وجوده بشرياً ولوجستياً، بعد أن بلغته معلومات استخبارية أن التكفيريين سيشنّون حملة على مراكزه، وهو ما اعترف به الموقوف جمعة لمخابرات الجيش وأكّده قائد الجيش العماد جان قهوجي في مؤتمر صحافي، معتبراً أن ما حصل هو أخطر ما واجهه لبنان، وأن الأوضاع العسكرية مفتوحة على كل الإحتمالات، وقد يقوم هؤلاء بعمليات مباغتة أخرى، وهم متغلغلون في كل المناطق اللبنانية بين النازحين الذين بلغ عددهم نحو مليون ونصف المليون، ويتم تجنيد نحو مئة ألف منهم في كل لبنان لمقاتلة الجيش ودعم الجماعات الإسلامية في الداخل اللبناني التي تدين بالفكر السلفي ولها ارتباطات بتنظيم «القاعدة»، كما تبيّن من التحقيق مع عدد من قادة المحاور في طرابلس وبينهم الشيخ حسام الصباغ الذي شارك في القتال مع «القاعدة» من أفغانستان الى العراق وانتقل الى لبنان ليشارك في معارك باب التبانة مع 300 مسلح، إضافة الى «هيئة العلماء المسلمين» التي نظّمت وجودها في لبنان وتضم ما بين 400 و600 شيخ يتوزعون على كل المناطق ويخطبون في المساجد، وباتوا مؤثرين وفاعلين في الساحة السّنّيّة، ويمكنها تحريك الشارع في كل لبنان، وهذا ما حصل في أكثر من اشكال امني او حادثة وقعت معهم، فكانوا يفتعلون الحوادث ويقطعون الطرقات، وقد سحبوا البساط من تحت أرجل «تيار المستقبل» الذي يمثل الاعتدال داخل الطائفة السّنيّة، وبات على هامش الأحداث، بعد الانتصارات التي حققتها «داعش» في العراق وسوريا، فاستنهضت الحالة السّنيّة في لبنان، ليهدّد كل من الشيخ سالم الرافعي الرئيس السابق لهيئة العلماء والنائب خالد الضاهر وقوى اسلامية متطرفة، أن ما حصل في العراق بسيطرة «داعش» على الموصل سيتكرّر في لبنان لرفع الظلم عن «أهل السّنّة والجماعة»، مصوبين سهامهم نحو الجيش أنه يعتقل «شباب السّنّة» وينكّل بهم وهو لا يقوم بذلك إلا لأن المطلوبين موجود بحقّهم مذكرات توقيف قضائية، ولهم علاقات بتنظيمات إرهابية.
فما جرى في عرسال، بداية خطيرة لما ستؤول إليه الأوضاع في لبنان والمنطقة عموماً، إذ أن مشروعاً إسلامياً جهادياً يحمل فتاوى تكفيرية يتقدّم في العالم العربي ويتوسّع في العالم، منذ إنشاء أسامة بن لادن تنظيم «القاعدة» برعاية واحتضان من المخابرات الأميركية التي درّبت عناصره وبتمويل خليجي لمحاربة الحكم الشيوعي في أفغانستان، هذا التنظيم قرّر استعادة الخلافة الإسلامية، وهو ما كان بدأه في أفغانستان مع استيلاء «طالبان» على الحكم فيها، وقبل أحداث 11 أيلول، وهذا المشروع لم يتوقّف، وقد ينهزم في دولة، لكنه يعود من جديد، وها هو أطلّ من العراق وامتدّ الى سوريا ووصل الى لبنان، كاسراً حدود «سايكس – بيكو»، ليقيم الخلافة الإسلامية التي سقطت قبل قرن بالكامل في الحرب العالمية الأولى، وقامت مكانها دول وطنية وأنظمة بعض منها اعتمد دستوراً وضعياً من صنع البشر وليس من الشريعة الإلهية بشيء، وتأثّر بالمناخ العلماني والحداثة الغربية، وهو ما يحاربه «الإسلاميون الجدد»، في «حرب حضارات» مدمّرة.
Leave a Reply