عماد مرمل
عندما تدخل حزب الله عسكريا في سوريا، قبل قرابة عامين، تعرض- ولا يزال- لحملة سياسية عنيفة من قوى 14 آذار التي اتهمته بانه أسقط سياسة النأي بالنفس، واغرق لبنان في وحل الازمة السورية خدمة لنظام الرئيس بشار الاسد، بطلب من إيران، وبالتالي فإن هذه القوى اعتبرت ان سلوك الحزب هو الذي استدرج الارهاب والمجموعات التكفيرية الى لبنان، وتسبب في وضعه على خط الزلازل الاقليمي.
أكثر من ذلك، هناك حلفاء للحزب تعاطوا، في حينه، بحذر مع خياره بالمشاركة في القتال داخل سوريا، وبدا انهم كانوا مترددين ومحرجين في تغطيته بالكامل، على قاعدة انه يصعب الدفاع عن اي نشاط يقوم به، خارح الحدود.
لم يكن سهلا على الحزب، في تلك اللحظة، الترويج أبعد من ساحته وجمهوره لفكرة انه يخوض معركة وقائية في سوريا، تهدف الى الدفاع ليس فقط عن وجوده وبيئته الشعبية وإنما عن كل اللبنانيين في مواجهة خطر الارهاب التكفيري. لقد اضطر الحزب في البداية الى بذل جهد كبير لمحاولة توضيح الصورة وتفسير الاسباب الموجبة لتدخله العسكري، ربطا بضرورات حماية الداخل اللبناني، انطلاقا من خط دفاع متقدم يبدأ من العمق السوري.
اقتنع البعض بوجهة نظر الحزب، وبقي الكثيرون على ارتيابهم في حقيقة الاهداف الكامنة خلف دوره القتالي في سوريا، الى ان دارت الايام دورة كاملة وأعلن تنظيم «داعش» عن قيام دولة الخلافة التي كان مسيحيو الموصل في طليعة ضحاياها، بعدما اضطروا تحت الضغط الى مغادرة مدينتهم المستباحة من قبل مسلحين عاثوا فسادا بمعالمها الحضارية وكنائسها التاريخية.
وامام هذا المنعطف، أعاد الكثيرون في لبنان مراجعة حساباتهم والتدقيق في خياراتهم، بعدما ثبت بالعين المجردة ان مشروع التطرف عابر للحدود، ويأخذ في طريقه كل الطوائف والمذاهب، استنادا الى فهم خاطئ للدين الاسلامي، يرفض «الآخر» الى حد تكفيره وهدر دمه.
لقد شكلت ممارسات «داعش» غير الإنسانية على امتداد الاراضي الخاضغة لسيطرته في سوريا والعراق دليلا قاطعا على «المخاطر الوجودية» التي يمثلها فكر هذا التنظيم وسلوكه، بمعزل عن أي أمر آخر، وسواء تدخل «حزب الله» في سوريا ام لم يتدخل.
وإزاء القناعة المتنامية بالتهديد الامني والحضاري الذي ينطوي عليه التطرف الزاحف، بات الكثيرون، حتى من بين خصوم الحزب لا يجدون مفرا من الإقرار، ولو بشكل ضمني أحيانا، بصوابية خياره وجدواه للحد من تمدد المجموعات التكفيرية التي تسرب بعض أفرادها الى الداخل، فيما يحتشد آلاف منهم على الحدود الشرقية.
وقد أتت معركة عرسال بين الجيش اللبناني والمسلحين المتعددي الجنسيات لتكشف عن مخطط كان يُعد لإنشاء إمارة متشددة، ساهم توقيف أحد الرموز الارهابية «عماد جمعة» في فضحه وتوجيه ضربة وقائية له، قبل المباشرة في تنفيذه.
ومنحت هذه المعركة، التي سقط فيها للجيش شهداء وجرحى من مختلف الطوائف والمذاهب، طابعا وطنيا للمواجهة مع الارهاب، بعدما حاول البعض تقزيمها وإلباسها اللبوس الفئوي، من خلال خطاب تحريضي يشوه الحقائق.
وإذا كانت مقولة ان «انخراط «حزب الله» في الحرب السورية جلب الارهاب للبنان» قد لاقت رواجا في مرحلة معينة، فإن الاحداث بيّنت في ما بعد عدم دقتها، استنادا الى وقائع عدة، من بينها:
– ان الجماعات المتطرفة هي صاحبة مشروع متكامل يحاول فرض نمط حياة على المنطقة، وبالتالي فان ما تفعله هو نتاج فعل مدروس ومخطط له، وليس مجرد رد فعل.
– ان إعلان تنظيم «داعش» عن تأسيس «الخلافة الاسلامية» إنما يضع كل الدول المدرجة ضمن حدود هذه الخلافة في دائرة الاستهداف المباشر الذي يرمي الى بسط عباءة ابي بكر البغدادي على تلك الدول، ومن بينها لبنان، وهذا يعني انه حتى لو لم يكن حزب الله موجودا أصلا، لما تغير شيء في هذا المخطط القائم بحد ذاته.
– ان تهجير المسيحيين المسالمين من الموصل أثبت ان «داعش» صاحب مشروع توسعي، لا يحتاج الى ذريعة للتمدد، وبالتأكيد فإن «حزب الله» ليس له أي حضور في الموصل يبرر ما تعرضت له هذه المدينة العراقية العريقة من هجمة بربرية.
– ان ربط التفجيرات التي تحصل في لبنان من حين الى آخر بتدخل الحزب في سوريا هو اختزال مشوّه للواقع، إذ ان رياح الارهاب تعصف بالمنطقة كلها، من سوريا الى مصر مرورا بتونس والعراق وليبيا واليمن وغيرها، ما يعني ان ظاهرة التطرف أصبحت همّا جماعيا عبّر عنه الخطاب الاخير للملك السعودي عبدالله. (علما بان الرياض متهمة من خصومها بانها تواجه التطرف على أرضها وتغذيه خارجها)
أمام هذه الحقائق، باتت شرائح واسعة من الشعب اللبناني تتفهم دوافع قتال «حزب الله» في سوريا، وتعتبر ان استراتيجيته التي ارتكزت على مبدأ الحرب الاستباقية نجحت في التخفيف نسبيا من ارتدادات الارهاب، لانها نقلت المواجهة مع التكفيريين الى الداخل السوري والمنطقة الحدودية، بدل الانتظار الى حين ان يتمددوا نحو العمق اللبناني، ويمسكوا بزمام المبادرة، وعندها تصبح كلفة التصدي لهم أكبر.
وحتى النائب وليد جنبلاط المعروف بعدائه الشديد لنظام الرئيس بشار الاسد وباعتراضه المبدئي على التدخل العسكري لـ«حزب الله» في سوريا، قال صراحة انه ليس صحيحا ان هذا التدخل هو الذي جلب «داعش» والارهاب الى لبنان، فيما ذهب وزير التربية الياس بوصعب (المؤيد للعماد ميشال عون) أبعد من ذلك، معتبرا انه لولا المقاومة لكان «داعش» قد أصبح في مدينة جونية (عاصمة محافظة كسروان المارونية).
في ظل هذا المناخ، انبرت شرائح شعبية وحزبية عدة الى التسلح وتأمين الجهوزية المطلوبة لمواجهة اي انفلاش محتمل للتكفيريين في المناطق اللبنانية، كما يفعل في الجبل مناصرو الوزير السابق وئام وهاب الذي أكد لـ«صدى الوطن» انه طلب من مؤيديه ان يعدوا العدة لمواجهة كل الاحتمالات، إنما تحت مظلة الدولة وخلف الجيش اللبناني.
كما ان مسؤولين في حزب «القوات اللبنانية» في منطقة البقاع أبدوا تفهمهم للمعركة التي يخوضها «حزب الله» ضد التكفيريين، لاسيما بعد التهديدات التي وُجهت الى مسيحيي البقاع، بل ان بعض أنصار «القوات» أعربوا عن استعدادهم للقتال الى جانب الحزب إذا استلزم الامر، برغم الخصومة السياسية معه، وذلك على اساس ان مواجهة الخطر الوجودي المحدق بالمجتمع اللبناني هي أولوية جامعة، لا تحتمل في هذه المرحلة ترف الخلافات الداخلية والصراعات التقليدية.
Leave a Reply