نبيل هيثم
«إن اردت ان تعرف ماذا يخطط لك عدوّك، فلا يكفي ان تفكر في نواياه وانت جالس في موقعك… بل عليك ان تجلس في مكانه افتراضياً، وتحاول التفكير في ما يمكن ان تقوم به لو كنت مكانه».
انطلاقاً من هذه القاعدة الذهبية في التحليل الجيوسياسي، لا يكفي للمرء ان يجلس في بيروت أو بغداد أو دمشق، ليخمّن ماذا يدور في ذهن «ابو بكر البغدادي»، بل عليه أن ينتقل افتراضياً الى مكان ما في الرقة أو الأنبار، وان ينظر من موقعه الافتراضي الجديد الى لبنان والعراق وسوريا، وأيضاً الى تركيا والسعودية واسرائيل… واميركا.
تخيّل نفسك إذاً انك «ابو بكر البغدادي» او «امير المؤمنين» في دولة «الخلافة» الإسلامية، وانت تجتمع بأركان حربك في غرفة العمليات، واقفين أو جالسين حول طاولة ضخمة فرشت عليها خريطة مفصلة للشرق الأوسط.
ستنتشي ومعك «الأمراء» حتماً، وانتم تستمعون إلى «وزير الحرب» وهو يشرح لكم على هذه الخريطة رقعة انتشار «المجاهدين» بين اطراف حلب وتدمر غرباً والموصل شرقاً والفلوجة والرمادي جنوباً، وبعض المواقع التي تضم خلايا نائمة أو علنية هنا وهناك.
في لحظة ما، تستوضح «وزير الحرب» أو أحد قياديي «المجلس العسكري» عن احتياجات «المجاهدين»، ثم تلتفت الى وزير «بيت المال» سائلاً عن ملاءة خزائن «الدولة الإسلامية»، فيشرح لك ان عائدات النفط المهرّب بلغت رقماً قد لا يكون كافياً لتأمين العتاد والرواتب والرشاوى الضرورية للزعماء المحليين فيما «دولتك» تتسع على وقع «الغزوات المباركة».
ستمعن النظر في الخريطة، لتحصي المناطق النفطية التي باتت تحت سيطرة «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق، محاولاً التفكير في سبل زيادة عائدات تلك «الغنائم» من الذهب الأسود، فلا تجد سبيلاً الى ذلك سوى في الانتقال من عمليات التهريب عبر السوق السوداء إلى بيع النفط بصفتك قوة امر واقع عبر الطرق البحرية المعروفة أو شبكة انابيب النفط القائمة.
تتنقل بقلمك – ربما ماركته «مون بلان» ليتناسب مع ساعة «رولكس» المفضلة لدي ابو بكر البغدادي – نحو بحر العرب، لكنك تتوقف عند النجف، حيث الشيعة «الروافض» يشكلون سداً منيعاً، او عند ايران «المجوسية» التي لن تسمح لك بأن تقيم منطقة تماس قريبة من أراضيها.
قد تفكر في كردستان، حيث البنية التحتية جاهزة لتحقيق أهدافك، خصوصاً أن ثمة خط تصدير قائم فعلاً بين اربيل وجيهان في تركيا – الحليف المحتمل – ناهيك عن الملايين من براميل النفط المخزنة في جوف الارض، وقد تفكر أيضاً في خط التصدير القديم الذي يبدأ بالعراق ويمر بمناطق تخضع لسيطرتك في سوريا، ويصب في منطقة قد تشكل الحلقة الأضعف في الصراع المذهبي القائم في المنطقة: امارة طرابلس!
هذا السيناريو الافتراضي ربما يصلح لتفسير التطورات الميدانية التي شهدتها المنطقة العربية خلال الأسبوعين الماضيين، حيث خاض «داعش» حرباً على جبهتين، الاولى على تخوم اقليم كردستان، والثانية على الحدود مع لبنان. وبالرغم من اختلاف الجبهتين من حيث مستوى النيران والتعقيدات الميدانية، إلا ان ثمة عوامل تجمع بينهما: استراتيجية «داعش» النفطية، والخطوط الحمر التي يبدو ان التنظيم المتشدد يحاول تجاوزها.
لكن المعطيات الميدانية تشير الى ان معركة تحقيق هذه الاستراتيجية ما زالت في بداياتها، وربما لا تكون خواتيمها في تحقيق «داعش» حسماً عسكرياً يتيح له الوصول الى احد خطي التصدير الضروريين لاقتصاد دولته المفترضة، وإنما تسوية ما تسمح له بتحقيق مبتغاه هذا، بتفاهمات غير مباشرة – ربما برعاية تركية – مع الاميركيين، لمنحه هامشاً اوسع من الحرية في تصدير «غنائم» الآبار النفطية الواقعة تحت سيطرته.
وانطلاقاً من تلك المعطيات الميدانية، يمكن القول إن ما قام بها «داعش» في عرسال اللبنانية او في سنجار (الكردية تاريخياً) هو مجرّد اختبار ميداني لردود الفعل المحتملة، سواء من قبل الاميركيين (باقترابه من حدود اقليم كردستان) أو السعوديين (باقترابه من بلد تعتبره المملكة الخليجية احد مناطق النفوذ المتنازع عليها مع لاعبين إقليميين ودوليين آخرين، اولهم ايران).
والواقع ان «داعش»، قد حاول اختبار رد الفعل العربي والدولي بشكل متدرج، فراح يستهدف بداية المسيحيين في الموصل، لكن افعاله الاجرامية تلك لم تحرّك مراكز القرار العالمي، ثم انتقل الى مرحلة اخرى، عبر استهداف الأقلية الأيزيدية في سنجار، قبل ان يتقدم نحو تخوم اقليم كردستان العراق، ملامساً الخط الأحمر الأميركي، الذي عبر عنه الرئيس الاميركي باراك اوباما حين حذر المتشددين من مغبة الاقتراب من اربيل، التي ينتشر فيها خبراء عسكريون اميركيون.
وكذلك هي الحال في لبنان، فمن الناحية النظرية، لا يمكن اعتبار بلدة عرسال نقطة استراتيجية في ذهن ابي بكر البغدادي ومجلسه الحربي، فالبلدة البقاعية «ساقطة» بالمفهوم العسكري، في حال ذهبت الأمور نحو معركة كبرى، والمسلحون المنتشرون فيها، محاطون ببلدات ذات غالبية شيعية غرباً، وبمنطقة القلمون السورية شرقاً، التي يحقق فيها الجيش السوري ووحدات «حزب الله» تقدماً ميدانياً كبيراً.
واذا ما نظرنا الى خريطة المنطقة الممتدة بين الرقة وطرابلس باعتبار الاخيرة هدفاً نفطياً لـ«داعش» لأمكننا ملاحظة هامشية عرسال بالنسبة إلى التنظيم المتشدد مقارنة بمنطقة عكار في شمال لبنان، والتي تشير تقارير عدّة الى انها تتحول تدريجياً الى قاعدة خلفية لـ«الدولة الإسلامية». وبذلك، يمكن القول إن عرسال ربما كانت نقطة اختبار لردود الفعل على التمدد العسكري المحتمل لـ«الخلافة».
ويبدو ان ردّ الفعل السريع من قبل ادارة الرئيس الأميركي باراك اوباما، عبر الأمر الرئاسي بتوجيه ضربات جوية «موضعية» ضد مواقع «داعش» في العراق، أو من قبل الملك عبد الله بن عبد العزيز من خلال تسوية المليار دولار التي منحها للبنان، والتي اخرجت المتشددين (نظرياً) من عرسال، قد مكّنت ابو بكر البغدادي من رسم خطين أحمرين بين «إمارة نينوى» واقليم كردستان من جهة، وفي نقطة ما بين «إمارة الرقة» والحدود اللبنانية – السورية.
وبذلك، تسير الأمور بالنسبة إلى البغدادي وامراء دولته نحو خيار من اثنين:
الاول، المغامرة التي تبدو اقرب الى الانتحار بعد تجربتي سنجار وعرسال، والتي تقوم على فكرة اجتياز الخطين الأحمرين المذكورين، عبر التقدم داخل الاراضي الكردية للتحكم بخط تصدير النفط المنطلق نحو ميناء جيهان التركي، او حشد «المجاهدين» في غزوة تمد اراضي «الدولة» المفترضة غرباً نحو الشاطئ اللبناني في عكار أو طرابلس.
الثاني، تعزيز حضور «داعش» كقوة امر واقع في مناطق السيطرة الحالية، واثارة التوترات الأمنية عبر معارك صغيرة تنفذها الخلايا النائمة للتنظيم هنا وهناك، لفرض تسوية ما على الاميركيين، تصب في نهاية المطاف ضمن مخطط تحدث مراقبون كثيرون عنه منذ بداية الازمة السورية.
– دولة سنّية تمتد من تخوم بغداد، مروراً بالرقة والحسكة، وصولاً الى شرق حلب (وربما تتمدد الى شمال لبنان).
– دولة علوية على الساحل السوري.
– دولة في منطقة عازلة بين الدولة السنية المفترضة وكل من السعودية والاردن واسرائيل.
– دولة في منطقة مسيحية في سهل نينوى بين الدولة السنية والدولة الكردية. هو سيناريو وُصف مَن تحدثوا عنه في السابق بأنهم «مجانين» أو من «هواة قصص الخيال العلمي»، لكن نظرة سريعة الى خريطة التحولات الميدانية تظهر انه سيناريو قابل للتحقيق… ليبقى امامنا ان ننتظر ما ستؤول اليه التطورات السريعة لتحديد ما إذا كان امر كهذا واقعاً ام خيالاً.
Leave a Reply