بقلم: كمال العبدلي
من أين تُستنبَطُ مصادر وحدةِ العراقيّين ومثلها مصادر وحدةِ العرب؟ سؤالٌ يستعصي على الأجهزة والدوائر والكيانات السياسيّة أن تُجيبَ عليه، ذلك لأنّها بالإضافةِ إلى قوقعتِها وعزلتِها في أبراجِها الإستعلائيّة، تمثّلُ أحدَ خطَّيْن متوازِيَيْن، فهي إمّا ضالِعة في إنجاز مهمّة تفتيت هذه الوحدة، عبر وسائل جهنّميّة وإمكاناتٍ جبّارة – آخر التقليعات المفضوحة «داعش» الصهيونيّة مثلاً – وإمّا أن تتّخذ من الوحدة شِعاراً إستهلاكيّاً فارغ المحتوى واتّباع الأساليب التضليليّة المُفضِية إلى المعنى المتقاطع ضِدِّيّاً معها كما مرّ علينا من تجارب لا حصرَ لها خاصّةً خلالَ الفترة الممتدّة من منتصف خمسينات القرن المنصرم ولغاية اللحظة الراهنة.
إنّ جملةً من الوقائع المُعاشة، وممّا لا يُحصى من المواقف التي يحياها أو يمرّ عليها العراقيّون والعرب بعامّة على أرضِ الواقع، تشي بسطوع روحِ الوحدة، وتؤكّد الحياة المتوهِّجة والدافقة بالحيويّة للوحدة بينهم، وسأتناول بتفصيلٍ مقتضَب وقائعَ عايشتُها خلالَ مراحل متعدِّدة من حياتي، لأدلّلَ بالبراهين الدامغة على ما أسلفتُهُ من حقائق.
أيّام الدراسة الإبتدائيّة
في العام 1957، كنّا تلاميذَ ندرجُ في مرابِعِ الطفولة، بين أرباض حيِّ الأعظميّة الزاهر، وفي مدرسة المثنّى الإبتدائيّة للبنين، القريبة من المقبرة الملكيّة، يضمُّ الصفُّ أكثرَ من ثلاثين تلميذاً متحابّين متآلفين، ننحدرُ من قوميّات متعدّدة، عرب، كرد وتركمان، لكنّنا لم نكن نشعر بتدخّل مثل هذه الإنحدارات في علاقاتِنا، كنّا تلاميذ في المدرسة وحسب، نزهو جميعاً بعراقيّتِنا، وفي إحدى المرّات، بينما كانت حصّةُ درس الدين تذيّلُ آخرَ الحصص، قال المعلّم: «إن كان بين التلاميذ مسيحيّين، فبإمكانهم المغادَرَة والذهاب إلى بيوتِهم»، فنهضَ أربعةٌ يحملون حقائبَهم المدرسيّة، وغادروا، لحظتَها هبّتْ علينا عاصفةٌ من الحزن، كم شعرنا بالأسى إذ رأينا خلوَّ الصفِّ منهم، لقد أصبحَ ناقصاً، إنّهم جزءٌ منّا كما نحن جزءأً منهم تماماً، فافتقدنا البهجةَ ساعةَ انتهاء الدرس على عكس مثل كلّ يوم، حيث نتبادل التعليقات المختلفة حول ما يُحيط بطفولتِنا من مظاهر، خاصّةً ما كنّا نقرؤه في مجلّتي (سمير) و(السندباد) اللتين تصدرهما دارُ الهلال حيث تصل بالطائرة من القاهرة، وكذلك نتبادل الآراء ونستعيد ما يقدّمه لنا التلفزيون من برامج غاية في التشويق والمتعة والفائدة التربوّية مثل مشاهد حلقات «لاسي» و«فيوري» و«روبن هود» وبرنامج «عمّو زكي» وتمثيليّات «جحا» وغيرها، إنّ المفارقةَ في الأمر لم تقتصر على مشاعر الحزن التي انتابتنا في غيابِ أقرانِنا المسيحيّين عن حصّة الدرس، وإنّما تكمن في أنّنا لم نكن ندري بأنّهم مسيحيّون لغاية تلك اللحظة، ممّا يعني بأنّ الدينَ لم يتدخّل هو الآخر في إضمامة إلفتنا واحترامِنا المتبادَل بيننا، ولم نكن نتطرّق إلى مثل مواضيعِه في تفاصيلِ علاقاتِنا، حيث نشأنا معتبِرين أنّ الدينَ شأنٌ شخصِيّ يمثّلُ علاقةَ المخلوق بالخالِقِ العظيم، لاسيّما ونحن نتشابه في كلِّ شيءٍ من الملبس والعادات إلى الكلام والإنطباعات ووشائج المودّةِ والإحترام، بحيث استمرّت معنا هذه المشتَرَكات الجميلة إلى مرحلة ابيضاض شعرِ رؤوسِنا، وستصاحبنا إلى المثوى الإخير من حياتِنا، أجل إنّها تجلِّيات الطفولة العراقيّة وما تتوهّج به من براءةٍ وسلامٍ واكتنازٍ إنسانيّ.
أيّام الدراسة الإعداديّة
في العام الدراسي 1964-1965 كنا على مقاعد الصفّ الرابع الثانوي- الفرع الأدبي، في ثانويّة الشمّاسية للبنين بمنطقةِ الكريعات الخضراء، حيث دخل علينا ثلاثة طلّاب أفارقة عرب قادمين من أريتريا العربيّة الإفريقيّة، جاءوا ضمن بعثة دراسيّة للحصول على شهادة الدراسة الإعداديّة، وما أن مرّت أيّام حتّى تطوّرت علاقةُ المعرفة بهم إلى مستوى الصداقة الحميمة، حيث كنّا نزورهم في القسم الداخلي للطلّاب الذي يسكنونه، والواقع في البابِ المعظّم، لم يَحُل اللون أو اختلاف بلدهم على خارطة الأرض، بيننا وبين انعقاد عُرى الصداقة، وكثيراً ماكنّا نرتاد سويّة دورَ السينما، إذ أذكر من جملةِ الأفلام التي شاهدناها سويّةً «إنّي راحلة» و«بين الأطلال ..اذكريني» وكلاهما روايتان من تأليف الروائي الراحل الكبير يوسف السباعي، ولأنّنا كنّا نعتبرهم ضيوفاً فمن آدابِ اللياقة أن نشترك في أثمان اقتطاع التذاكر، كانت سينما النصر في أوجّ ألقِها الستّينيّ، حيث شاهدنا في صالتِها العَرضَيْن المذكورين، كذلك كنّا نستضيفهم أثناء السفرات المدرسيّة، وكثيراً ما تذاكرنا سويّةً معهم في القسم الداخلي خاصّةً أيّامَ الإمتحانات، وآخر العهد معهم كان تبادل الدموع حيث أسدل البعاد الستارةَ على اللقاء، مازلتُ أحسّ اللوعةَ لفراقِهِم إلى اليوم، فما تعني الوحدةُ العربيّة خارج هذه الحميميّة؟
Leave a Reply