عماد مرمل
لم يغير خطر «داعش» الكثير في الخطاب السياسي لبعض الاطراف اللبنانية التي لا تزال أدبياتها ومواقفها مشتقة من قاموس ما قبل ظهور الخطر التكفيري. وبرغم ان التهديد «وجودي»، إلا ان هناك في لبنان من يصر على عدم مغادرة حالة «الترف السياسي» التي تعلو على ارض الواقع الى حد النكران، فيستمر اصحاب الحسابات الضيقة في التنظير ورفد الانقسامات الداخلية بمزيد من «المواد الملتهبة»، من دون الإلتفات الى طبيعة هذه المرحلة المصيرية، وما تتطلبه من «إعادة انتشار» سياسي، تتجاوز الاصطفافات التقليدية. ويمكن القول ان الاطراف التي تتبع هذا المنحى في سلوكها تتوزع بين من يستخف بالخطر التكفيري، ومن يتجاهله، ومن يجهله، ومن يحاول توظيفه لخدمة مصالحه والإستقواء به على الخصم. وبمعزل عن النيات والخلفيات التي تقف وراء كل خيار، فان الأكيد هو ان تحديا من وزن «داعش» وأمثاله لا يُواجه بمثل هذه التوجهات التي تسبب تفسخا إضافيا في الجبهة الداخلية، من شأنه ان يسهل تسرب «الغاز التكفيري» السام الى العمق اللبناني.
ولعل أسوأ ما سُجل في إطار «العبث السياسي» المتمادي يكمن في استسهال البعض ارتكاب «المحرمات الوطنية»، فقط من باب النكايات والمناكفات وتسجيل النقاط على الخصوم، من قبيل القول بأن «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» هما الوجه الآخر لـ«داعش»، كما صدر مؤخرا عن وزير العدل الذي يمثل «تيار المستقبل» في الحكومة اشرف ريفي، ومنسق الأمانة العامة لقوى «14 آذار» فارس سعيد، وعضو كتلة حزب «القوات اللبنانية» النائب فادي كرم..
مسلحون خارج سلطة الدولة في عرسال |
والأخطر في هذا السياق، ما صدر عن رئيس كتلة «المستقبل» النيابية الرئيس فؤاد السنيورة الذي ساوى ضمنا في أحد خطاباته بين الحزب وإيران من جهة و«داعش» من جهة أخرى، بقوله للحاضرين في لقاء سياسي في منطقة الاشرفية: أنتم أقرب إلي من الذي يرفع راية ولاية الفقيه في طهران، او راية الخليفة الحاكم في الموصل والرقة.
ولم يتوقف السنيورة عند هذا الحد، إذ اصابت شظايا كلامه الجيش اللبناني، عندما تساءل: هل نريد جيشا لحماية سيادة لبنان واستقلاله والدفاع عن مواطنيه، ام نريده ان يتحول الى فرقة في خدمة مشاريع ولاية الفقيه؟ والغريب في هذا الطرح تزامنه مع الجهد الذي يبذله الرئيس سعد الحريري للإسراع في تسليح الجيش، سواء عبر «تفويضه» من قبل المملكة العربية السعودية بمتابعة هبة المليار دولار، او عبر سعيه الى تفعيل الاتفاق السابق مع روسيا على تزويد المؤسسة العسكرية بالسلاح. ليس مفهوما أين المصلحة وأين الحكمة في استخدام بعض صقور السياسة هذا النوع من الادبيات السياسية التي تنطوي على تحريض مذهبي في لحظة لا تحتمل المغامرة والمقامرة؟
وليس مفهوما كيف ان شخصيات في «تيار المستقبل» ترى في «حزب الله» امتدادا لـ«داعش» ثم تجلس معه حول طاولة واحدة في الحكومة، وكيف ان سياسيين ينتمون الى فريق 14آذار يوجهون الاتهام ذاته الى «التيار الحر» في حين ان زعيم هذا الفريق الرئيس سعد الحريري كان يخوض حتى الامس القريب حوارا مع العماد ميشال عون حول إمكانية انتخابه رئيسا للجمهورية.
وأبعد من ذلك، تبدو مواقف السنيورة العدائية حيال طهران وحزب الله متعارضة مع التحسن النسبي الذي طرأ على مناخ العلاقة السعودية- الايرانية، بعد اللقاء الذي عقد في الرياض بين مساعد وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان ووزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل، في أعقاب قطيعة طويلة. وتتراوح التفسيرات لهذه المفارقة بين احتمال ان تكون نتائج اللقاء السعودي-الايراني لم تتبلور بعد الى الحد الذي يُلزم الحلفاء في لبنان بـ«الانضباط»، وبين ان يكون السنيورة قد اجتهد في «العزف المنفرد» علما ان هناك في قوى «8 آذار» من يصنفه اصلا في خانة الاقرب الى أميركا في المحور السعودي.
وعلى مستوى آخر، تعيد طروحات السنيورة الإضاءة على إشكالية قيادة «تيار المستقبل»، ومن يُمسك بها فعليا، لاسيما بعدما أدى الغياب الطويل للحريري عن لبنان الى تعزيز نفوذ السنيورة في التيار وإمساكه بزمام الادارة اليومية للملفات التي تشغل الساحة السياسية. في المقابل، يتصرف حزب الله على قاعدة ان الاولوية التي لا تحتمل اي مناقشة او منافسة في هذه المرحلة هي مواجهة التهديد التكفيري الذي تصغر، بالمقارنة معه، كل الاعتبارات والتحديات الاخرى.
ووفق المعطيات المستمدة من داخل الحزب، فان قيادته مستعدة لمد اليد في اتجاه كل من يُشاركها في التحسس بهذا الخطر الوجودي وضرورة التصدي له، على ان يجري تنظيم الخلاف حول القضايا المزمنة التي تشكل مادة انقسام داخلي، بحيث تُنزع منها «صواعق التفجير» في إطار واقعية سياسية سمتها الاساسية، «ربط النزاع»، ما دام ان الجميع يُقر بصعوبة حسمه او تسويته في المدى المنظور. ويعتقد الحزب ان هناك إمكانية للتلاقي «الموضعي» حتى مع «تيار المستقبل» تحت سقف مواجهة التهديد التكفيري ومؤازرة الجيش اللبناني وإطفاء محركات الخطاب التحريضي على المستويين السياسي والاعلامي، خصوصا ان الاستهداف يطال «السني المغاير»، بقدر ما يطال المكونات الاخرى.
اما الخلاف على مشاركة الحزب في الحرب السورية فلا جدوى- برأي الحزب- من مواصلة الخوض فيه، بعدما أدلى كل فريق بدلوه في شأنه، من دون ان يكون أحد مستعدا للتراجع عن قناعته في هذا المجال، فلماذا لا يُترك للتاريخ ان يقول كلمته لاحقا، ويُسحب هذا البند في الوقت الحاضر من البازار السياسي، لاسيما ان إصرار البعض على تحميل الحزب مسؤولية استدراج الارهاب الى لبنان ردا على قتاله في سوريا، يشكل تبريرا مقصودا او غير مقصود لارتكابات القوى التكفيرية وإجرامها.
وإذا كان خطر «داعش» قد فرض على الدول المتنازعة في العالم ان تلتقي حول البحث في كيفية إنشاء تحالف دولي لمواجهة الارهاب التكفيري، وإذا كانت الرياض وطهران قد تخففتا من الكبرياء والمكابرة وعاودتا التواصل بينهما لمناقشة التحولات التي تعصف بالمنطقة، فانه الاجدر باللبنانيين ان يرتقوا بدورهم الى مستوى المسؤولية وان يُغلبوا اعتبارات «الامن القومي» للبنان على الحسابات الفئوية.
Leave a Reply