صبحي غندور
إسرائيل هي اليوم عبء مالي وسياسي كبير على أميركا وعلى مصالحها فـي العالمين الإسلامي والعربي، فلم تعد إسرائيل وشواطئها فقط هي المتاح الأساس للتسهيلات العسكرية الأميركية فـي الشرق الأوسط (كما كانت فـي حقبةٍ طويلة خلال الحرب الباردة)، ولم تعد إسرائيل مصدر امنٍ وحماية للمصالح الأميركية، بل إنَّ تلك العلاقة الخاصَّة معها أضحت هي السبب فـي تهديد مصالح واشنطن فـي بقعةٍ جغرافـيةٍ تمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، ويعيش عليها مئات الملايين من العرب وغير العرب، وترتبط ثروات هؤلاء أصلاً بل وسائر خيراتهم الاقتصادية ارتباطاً شديداً الآن بالشركات والمصالح الأميركية.
ولأنَّ واشنطن رفضت سابقاً دعواتٍ عربيةٍ ودولية لعقد مؤتمرٍ دولي لتحديد مفهوم الإرهاب وللفرز بينه وبين حقِّ مقاومة الاحتلال، فإنَّ المفهوم الأميركي للإرهاب أصبح هو نفسه مصدر تشجيع للإرهاب، عوضاً عن الحدّ منه ومن أسبابه ومن ظواهره.
فقد أعطى هذا المفهوم الأميركي للإرهاب شرعية أميركية للممارسات الإسرائيلية العدوانية المتكررة على الشعبين الفلسطيني واللبناني. وكانت حصيلة هذا المفهوم الأميركي، ونتيجةً للجرائم الإسرائيلية، ردود فعلٍ عديدة من المظلومين فـي ظلِّ هذا المفهوم وممَّن هم ضحايا لهذه الجرائم.
ولم تعترف واشنطن وإسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية إلا حينما أكّدت المنظمة كتابةً (فـي رسالة شخصية من رئيسها ياسر عرفات ثمّ فـي وثائق اتفاقات أوسلو) على رفض أسلوب العنف (وهو هنا المقاومة) وتعهّدت باستبداله بأسلوب وحيد فقط هو التفاوض والعلاقات الثنائية المباشرة دون وسطاء. لذلك نرى الضغط الأميركي دائماً على السلطة الفلسطينية لجعلها تلتزم بالإدانة الصريحة والعلنية لأي عملية عسكرية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
إنَّ واشنطن تعتبر أيّ عدوان إسرائيلي نوعاً من الدفاع عن النفس، بينما تنظر (واشنطن) إلى المقاومة ضدّ الاحتلال كما لو كانت حالةً إرهابية، تستوجب منها الردع والعقاب!.
فالموقف الأميركي من القضية الفلسطينية سيبقى موضع شكٍّ ونقدٍ لدى العرب والعالم كلّه طالما استمرّت واشنطن فـي إغفال التعامل مع العدوان الإسرائيلي على أنَّه حالة احتلال يتوجَّب وقفها فوراً، وأنَّ إنهاء الاحتلال يعني أيضاً بناء دولةٍ فلسطينية مستقلةً على كلّ الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 بما فـيها القدس الشرقية، وضرورة تلازم ذلك مع ضمانٍ لحلٍّ عادل لحقوق اللاجئين الفلسطينيين.
فلقد تحدَّثت واشنطن كثيراً عن «دولة فلسطينية»، لكن دون تحديدٍ لحدود هذه الدولة وسكانها وعاصمتها. فلا يكفـي الحديث بالعموميات عن «الدولة الفلسطينية»، فحكّام إسرائيل أنفسهم قالوا بتلك العمومية، بينما هم يقتلون الفلسطينيين ويدمّرون ممتلكاتهم ويصادرون أراضيهم.
إنّ إدارة أوباما معنيّة حالياً بالرؤية الشاملة للصراعات الدائرة بالمنطقة، وحتماً فإنّ الملفّ الفلسطيني هو أساس مهم فـي هذه الصراعات رغم التهميش الحاصل الآن للقضية الفلسطينية.
فالتشويه الطائفـي والمذهبي يحصل حالياً للصراعات الحقيقية فـي المنطقة ولمواصفات الأعداء والخصوم والأصدقاء، بحيث لم يعد واضحاً من هو العدوّ ومن الصديق، وفـي أيِّ قضية أو أيّة معركة، ولصالح من؟!
نعم هناك صراع دولي/إقليمي على المنطقة العربية. نعم هناك محاور تتصارع الآن فـي منطقة الشرق الأوسط. لكن ما الذي أوصل المنطقة إلى هذا الحال من الصراع والتصعيد؟
المسؤول الأوّل عن ذلك هو الإدارة الأميركية السابقة التي وضعت غزو العراق، منذ مطلع العام 2001، فـي قمّة أولوياتها، وقبل الأعمال الإرهابية فـي أميركا، وتجاهلت تماماً الصراع العربي/الإسرائيلي بعدما كانت الأولوّية هي لملفّات هذا الصراع فـي نهاية إدارة جورج بوش الأب عبر مؤتمر مدريد عام 1991، ثمّ فـي سنوات إدارة كلينتون حتى آخر شهر من وجوده فـي البيت الأبيض.
فلو ضغطت الإدارات الأميركية فـي السابق على إسرائيل للانسحاب من الجولان والضفة والقدس وغزّة، ومن الأراضي اللبنانية كلّها، هل كان للمنطقة أن تشهد ما شهدته من تصعيد عسكري وتأزّم سياسي خطير فـي العقدين الماضيين؟!
لو تجاوبت إدارة بوش الأبن بشكلٍ جدّيٍّ مع «مبادرة السلام العربية» التي أعلنتها قمّة بيروت عام 2002، وأقامت على أساسها مؤتمراً دولياً لتحقيق تسوية شاملة على كلّ الجبهات، وإعلان دولة فلسطينية مستقلة، هل كان لأمور المنطقة أن تتعقد وتتأزم كما جرى لاحقاً؟! فلو تمّ ذلك، لما كانت هناك مشكلة تتعلّق بسلاح المقاومة فـي لبنان أو فـي فلسطين. لكن إدارة بوش اختارت الحرب على العراق ودعم حكومة شارون فـي حربها على الفلسطينيين، مما زاد من انتعاش حركات المقاومة وكلّ مظاهر الغضب على السياسة الأميركية فـي الشرق الأوسط.
إنّ غياب السلام الحقيقي يستحضر الحرب والعنف ويدفع بالخاضعين للاحتلال إلى ممارسة حقّ مقاومته. وغياب الدور العربي الفاعل هو الذي يستحضر الدور الأجنبي الدولي والإقليمي. وغياب الوفاق الوطني الحقيقي فـي أيّ بلد عربي هو الذي يشجّع الآخرين على التدخّل بشؤونه وتحويل أرضه إلى ساحة صراعات ..
وكم هو جهلٌ عربي كبير حينما يحصل هذا التهميش للقضية الفلسطينية حتّى فـي تفاصيل الأوضاع العربية الداخلية. ولعلّ بعض الشواهد التاريجية مهمّة فـي هذا الحديث: عدوان ثلاثي إسرائيلي/ فرنسي/ بريطاني على مصر فـي العام 1956 لأنّ جمال عبد الناصر قام بتأميم شركة قناة السويس لأسباب داخلية مصرية. أمّا فـي لبنان، فقد بدأت فـيه حربٌ أهلية دامية وطويلة فـي العام 1975 ارتبطت بمسألة الوجود الفلسطيني على أرضه، الوجود المسلح وغير المسلح. فهل يمكن أن يشهد المشرق العربي استقراراً دون حلولٍ عادلة لحقوق الشعب الفلسطيني؟! أليست أوضاع المنطقة العربية كلّها تتأثر بمجريات الصراع العربي مع إسرائيل وبالمشاريع الاستعمارية الداعمة لها؟! ألم يكن تفكيك السودان مؤخراً ومحاولات تقسيم العراق ولبنان وغيرهما، مصلحةً وهدفاً إسرائيلياً يتمّ العمل لأجلهما منذ حصول نكبة فلسطين قبل أكثر من ستة عقود؟!
أليس كذلك هو حال كثيرٍ من الدول العربية التي يرتبط الاستقرار السياسي والاقتصادي فـيها بمصائر الحروب والتسويات مع إسرائيل؟! أليس أيضاً تحجيم التدخّل الإقليمي الإيراني والتركي فـي الشؤون العربية أمراً يرتبط فـي مستقبل القضية الفلسطينية وما لهاتين الدولتين من علاقات وتأثير فـي الصراع العربي مع إسرائيل؟!
ففلسطين هي جغرافـياً فـي قلب الأمة العربية، وهي دينياً محطة الرسل والأنبياء، ومن يسيطر عليها يهيمن على مربط الوصل بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، ويتحكم بمصير الدول العربية الفاعلة المجاورة لها. لذلك كانت فلسطين هي البداية فـي «وعد بلفور»، قبل تقسيم المنطقة العربية فـي «سايكس بيكو» بمطلع القرن العشرين قبل مئة عام. وفلسطين كانت هي المدخل فـي حروب «الإفرنج» قبل ألف عام. وفلسطين كانت هدف المستعمرين الجدد فـي القرن الماضي. وستبقى فلسطين، فـي مطلع هذا القرن الجديد، حجر الزاوية فـي أي مشاريع تسوية لأزمات المنطقة كلّها.
لكن مشكلة الرئيس أوباما الآن، فـي أجندته الشرق أوسطية، هي ليست مع خصومه الدوليين والإقليميين بل مع أقرب حلفائه الآن، فالأشد خطورة على إستراتجية التحرّك السياسي الأميركي الآن مصدره إسرائيل وما لديها من نفوذ سياسي وإعلامي مؤثّر فـي الولايات المتحدة وفـي دول أوروبا. وقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو واضحاً وصريحاً فـي اعتراضاته على التقارب الأميركي/الأوروبي مع طهران، وأطلق التحذيرات العلنية من الوصول إلى اتّفاقات مع إيران حول ملفّها النووي، إذ أنّ إسرائيل ترفض من حيث المبدأ وقف الصراع مع إيران، فكيف بتحقيق تفاهماتٍ دولية معها؟.
إنّ إسرائيل تعمل منذ سنوات، على جعل أولويّة الصراعات فـي المنطقة مع إيران وحلفائها بالمنطقة، وعلى إقامة محور عربي/إقليمي/دولي تكون إسرائيل فـيه هي الرائدة لإشعال حرب عسكرية ضدّ إيران ومن معها فـي سوريا ولبنان وفلسطين، فالمراهنة الإسرائيلية هي على تهميش الملف الفلسطيني وعلى كسب الوقت لمزيدٍ من الاستيطان فـي القدس والضفة الغربية، وعلى تفجير صراعات طائفـية ومذهبية وقبلية تؤدّي إلى تفتيت الكيانات العربية الراهنة، وإنهاك وإنهاء حركات المقاومة ضدّها فـي فلسطين ولبنان، وتدمير الجيوش العربية الكبرى فـي المنطقة، وتراهن على إقامة تطبيع سياسي وأمني مع كل الأطراف العربية التي تقبل السير فـي المحور الإسرائيلي المنشود.
لذلك، من الصعب أن تخضع إسرائيل الآن للمطالبة الأميركية والدولية بوقف الاستيطان، وهي لن تقبل حتماً بتقسيم القدس ولا بحلّ قضية اللاجئيين ولا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود العام 1967. ثمّ إن إسرائيل لا تجد مصلحةً إطلاقاً فـي الإئتلاف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد «داعش» والذي يقوم الآن على التوافق الغربي مع إيران وعلى العمل لإنهاء الأزمة الدموية السورية بتسوية سياسية تحافظ على وحدة الكيان السوري وتعيد بناء الدولة السورية على أسس سليمة.
هو تباينٌ كبير حاصلٌ الآن بين إسترايجية إسرائيل وبين أجندة أوباما التي تأخذ بعين الاعتبار المصالح الأميركية أولاً، لكن يبقى الأساس فـي عدم تراجع إدارة أوباما نفسها عن هذه «الأجندة»!
Leave a Reply