كمال العبدلي
تمرُّ فـي مسيرةِ حياتنا القراءاتيّة، نماذج فـي الكتابةِ من الصعب تجاوزها أو نسيانها أو وضعها على الرفوف، إذ هي تمتلك طاقة التعبير الحسّيّة عبر الغور نحو مديات غير متوقّعة..مفاجئة..جديدة فـي طرحِها، واسعة فـي انتشار دلالاتِها، لا تتعكّز على ما سبقها من التكرار الببغاويّ الممِلّ إلى حدِّ القرف، كما لا تتورّط أو توحي بالتصنّع أو التكلّف أو الإقحام، وإنّما هي تنساب إلى منطقة التلقّي بعفويّة ودراية تخفـي وراءها سعة المطالعات وانتقاءاتها النوعيّة، إنّها الموهبة التي يستجيب لدعوتها الكاتب بكلّ الجوارح وبإخلاصٍ فطريٍّ فعّال، ممّا ينتج عن كلِّ ذلك إحراز نماذج فـي الكتابة كما لو ذهب جامعُ الألماس واليواقيت لينتقي ما يرغب فـي سوق المجوهرات، أقدّم هنا نماذج متواضعة ممّا مرّ بي:
الشاعر فاروق سلوم يكتب عن المعرض التشكيلي للفنّان ستّار كاووش
«إبتكار لبُعد الأنثى»
حين يقيم الفنان ستار كاووش معرضاً جديداً، فإنّه يشير إلى نبوءة، خلق جديد، أو إيماءة تجعل وجودَنا يشهد رشاقةَ العالم فـي حضورمخلوقٍ أو امرأة تحاور شيئاً من أشيائه، فتكسبه المعنى..معرض «نساء التركواز» تذهب به الألوان ودقّة الرسم إلى أصل الراحة البصرية التي يريدها متذوِّقُ الفنِّ التشكيلي، وتذهب به الألوان إلى عالمٍ إنساني يفـيض بالمشاعر الأنثويّة الناعمة، فقد ابتكر كليرك فنّاً قريباً من عالَم الفنِّ الكلاسيكي القديم، وستّار كاووش رسامٌ عاشق ومتوهّج فـي اهتدائه إلى أُفقِ نشوتنا فـي لونٍ أو حركة، وهو فـي «نساء تركواز» ينزع نحو استحضار شخصيّاته بصريّا عبر تشخيصات متعدِّدةِ الأبعاد، إنّه ينجز حدودَ الشخصية بخطوطٍ حرّة وإن كانت عميقة، ليجمع شتات فكرته عن أنثى، هي الصورة التي سكنت مخيالَه وهو يورث لوحته كلَّ تفصيل سجّلته الذاكرة.
وفـي الجانب الإنساني يرسم بأفق مستقبلي باعتبار أنّ الأسلوب ليس غير إطلاق فنتازيا لكلِّ متخيَّلٍ مُمكِن ولكلِّ حضورٍ جدلي متغيّر وغير ثابت.. إنّه إنصاتٌ لوَعدٍ قادم على سطح لوحةٍ معلّقة بإناقة وعزلةٍ وخصوصيّة وفـي أعمال كاووش لاينبغي التحرُّر من حدَس التأويل، لم يعد غير فضلة المعاني، الحدس هنا هو إطلاق الحرية البديهيّة للتعامل مع مكوّن اللوحة رسماً وإشاراتٍ ودلالات، الخروج إلى أفضية خارج كلّ ماهو عقلاني يجعل كشف جماليات اللوحة أبعد عن كل قانون مسبَّق لتفسيرِ عملٍ فنّي ينطوي على أبعاد متعدِّدة وزوايا نظَر مختلفة.)
كُتِبَتْ بمناسبة افتتاح معرض (نساء التركواز) للفنّان ستّار بدارِ الأندى فـي عمّان الأردن وبرعاية السفـير الهولندي.
القاصّ الأديب كاظم الجمّاسي ينعى نفسَه
«الصديقات.. الأصدقاء.. وداعاً
أيام ليس إلّا، وسأكون هناك.
سأفتقد الأمرَ الذي ينشرُني وجعاً منذ الآن، الشمس والهواء والنهر والشجر ومرأى الأقمار والنجوم، وكلّ عطفةِ حُسنٍ من عطفات هذه الورقاء المعطاء المسمّاة «الحياة».
نعم، ولكن سأفتقد حضورَكم أكثر، صديقاتي أصدقائي، فـي البيت والمحلّة والعمل والمكتبة والشارع، ليس فـي العراق وحده، بل عبر العالم أيضاً، وليس الآن فقط بل عبر الزمن كذلك.
سأفتقدُ أيضاً، وهو أمرٌ بالغ الشدّة عليَّ، أحلامي، ياه أية قلاع شاهقة شديدة التماسك عديدة الطوابق والغُرَف، آه.. هناك حيث غفوتُ، ولهوت، وضحكتُ وبكيت، كيما أعدّ العِدَّةَ لأقطّرَ ذلك كلَّه فـي «كتاب» حياتي، الذي غدا اليوم دعابةً غاية فـي السماجة، حيث سيبدو فصلاً ساخراً، إلباس ثوب الأيّام القشيب هذه الرؤى العملاقة.
الصديقات.. الأصدقاء
أجمعَ أمس أهلُ الحلِّ والعَقد من معشر الأطبّاء، أنّ لا بقاءَ للجمّاسي صديقكم، فـي هذه «الدنيا الفانية» سوى أيّام معدودات، فالشقُّ عريض والرقعةُ متصاغرة، مرضي عِضال «سرطان رأس البنكرياس المتقدم» الذي كشفَ عنه الرنينُ المغناطيسيّ بنحوٍ واضح، ويمتاز تداخله الجراحي بتعقيدٍ من الدرجة الأولى، ولا يتناسب ومقدراتنا الطبّية المحليّة، وبالتالي ليس من سبيل سوى طبّ الخارج المتقدّم، وليس من سبيلٍ إليه سوى المال، المال الذي فوق طاقة ظهري بكثير على احتماله.
على أيّة حال، أجدُ أنّني عَبرتُ كما أفراد جيلي، عشراتِ الميتات بسلام، وأنا اليوم ألعب فـي المستقطع لـ«الوقت الضائع»، شعوري اللحظةَ سلامٌ عميق.
ها.. لا أكتمُكم، هو سلامٌ مُداف بأسى الوداع المرير»
Leave a Reply