بيروت – نبيل هيثم
«كوباني بداية نهاية الارهاب الداعشي»…
عبارة رفعها طفل خلال مسيرة للأكراد فـي بيروت دعماً لعين العرب، المدينة ذات الغالبية الكردية فـي شمال سوريا، والتي استعصت، ببضع مئات من المقاتلين، على تنظيم «داعش»، الذي تهاوت امامه جيوش ضخمة، والذي يبدو حتى الآن بمنأى عن تأثير الضربات الجوية التي تنفذها الولايات المتحدة تحت مظلة «التحالف الدولي».
لم تكن مبالغة حين أطلق احد الناشطين الأكراد على عين العرب تسمية «كوبانيغراد»، فالمدينة الواقعة على الحدود السورية – التركية اصبحت محور الحرب الجديدة على الارهاب، وعندها تجتمع كل العقد، سواء فـي ما يتعلق بتنظيم «داعش» نفسه، الذي اضطر الى تهدئة جبهات قتالية اخرى، وسحب مسلحيه من مناطق عدّة داخل سوريا، لسحق المقاومة الكردية، أو فـي ما يتعلق بالمكاسب التي تسعى كل من الولايات المتحدة وتركيا إلى تحقيقها من التدخل العسكري فـي العراق وسوريا.
وليست مبالغة فـي ان كثيرين باتوا يرون ان مصير «كوبانيغراد» سيحدد وجهة السياسات الدولية والاقليمية الجديدة ازاء تنظيم «داعش»، تماماً كما ساهم حصار لينينغراد فـي تبديل وجهة الحرب العالمية الثانية، حين وقف الزعيم النازي ادولف هتلر على ابوابها، عاجزاً عن تحقيق الهدف الايديولوجي للعملية «بارباروسا»، فـي ما وصل يومها بأنه نقطة تحوّل كرّست بداية النهاية لجيوش دول المحور.
ومهما اثير من تساؤلات، يميل بعضها إلى التشكيك فـي اهداف الاكراد، وتحديداً فـي ما يتعلق بالمشروع الانفصالي الذي ترفعه بعض قواهم، وخصوصاً فـي العراق، ويذهب بعضها الآخر نحو نظرية المؤامرة، فإنّ صمود عين العرب طوال شهر من الهجمات المستمرة، وما رافق ذلك من معطيات ميدانية واخرى سياسية تتعلق بتركيا والولايات المتحدة من قد ازال الضباب الذي ظل يلف المنطقة الكردية فـي شمال سوريا، وبعدها التحالف الدولي ضد «داعش».
حتى الآن، يبدو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاكثر وضوحاً فـي الموقف من معركة عين العرب، فـ«السلطان العثماني الجديد» تخلى بوضوح عن مشروع الحل السلمي الذي لاح فـي افق القضية الكردية قبل نحو عامين، وبات جلياً ان هذا الحل الذي تعامل معه «حزب العمال الكردستاني»، وزعيمه عبد الله اوجلان، بإيجابية واضحة، لم يكن سوى ورقة انتخابية سعى أردوغان لاستخدامها فـي الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ليكشر عن انيابه تجاه الاكراد مجدداً ما ان وطأت قدماه قصر … الرئاسة فـي انقرة.
ولعل المقاربة التي ينتهجها أردوغان تجاه معركة عين العرب يمكن اختصارها فـي ان الأكراد بنظر «السلطان الجديد» هم اكثر خطورة على تركيا من «داعش»، وهو ما عبّر عنه احد قادة «حزب العدالة والتنمية» بالقول إن «قتل الكردي لا يختلف عن قتل الداعشي»!
ولا يمكن انكار حقيقة، تأكدت طوال السنوات الثلاث من الصراع فـي سوريا، ان أردوغان، «الإخواني» المتخفـي فـي عباءة «الاسلام المعتدل»، ذهب بعيداً فـي رهانه على الحركات الاسلامية المتطرفة، بداية عبر «جبهة النصرة»، واليوم عبر «داعش»، لتحقيق اهدافه المعلنة وغير المعلنة، وابرزها اسقاط النظام «العلوي» فـي سوريا، وتقويض النفوذ «الشيعي» فـي العراق، وذلك عبر الدفع بالصراع المذهبي فـي المنطقة العربية إلى اكثر صوره توحشاً، والتي تبدّت مع ظهور تنظيم «داعش» واكتساحه مناطق واسعة فـي العراق وسوريا، تمهيداً لتقسيم هاتين الدولتين، تحت مسمّيات مختلفة، كان اخرها ربط محاربته لـ«داعش» بإقامة منطقة عازلة – أو «منطقة آمنة» بحسب التوصيف التركي، فـي الشمال السوري.
ولا يمكن هنا الفصل بين حديث أردوغان عن المنطقة العازلة، وبين ايديولوجيته الالغائية، والتي يبدو انها انتقلت الى مرحلة متقدمة عبر تصفـية القضية الكردية بأشنع الطرق اللاإنسانية، وهي توفـير الغطاء للتكفـيريين لتنفـيذ ابادة جماعية بحق اكراد سوريا، بما يحقق له هدفـين: الأول، هو انهاء فكرة وجود حزام كردي خارج عن سيطرته عند حدوده الجنوبية؛ والثاني، ردع اي حراك للأكراد فـي الداخل الكردي.
واذا كان الحديث عن غطاء أردوغاني للتكفـيريين قد اقتصر فـي السابق على تقارير استقصائية من الميدان، فإن معركة عين العرب قد اكدت كل ما كان مدرجاً فـي خانة الشكوك، ولعلّ اسهل ما يمكن رصده فـي هذا الإطار، الى جانب ما كشف النقاب عنه بشأن تسليح «داعش» وتسهيل تمويلها، هو وقوف الدبابات التركية عند السياج الحدودي المحاذي لعين العرب، ليس لردع «داعش» عن ارتكاب الجرائم بحق الأكراد، وانما لسد اي منفذ انساني للمدنيين، ومنع وصول المقاتلين الاكراد لمؤازرة اخوانهم ضد هجمات التنظيم المتشدد.
لكن الوقاحة الاردوغانية بلغت ذروتها فـي ميدان السياسة، اكثر منه فـي ميدان الحرب، فعين العرب بالنسبة إلى الرئيس التركي باتت ورقة ابتزاز يستخدمها علناً فـي وجه المجتمع الدولي، وقد خطت عليها كلمات اربع: المنطقة العازلة مقابل التدخل العسكري.
وفـيما كان أردوغان واضحاً منذ البداية فـي سياسته تلك، فإن الموقف الاميركي ازاء ما يجري فـي شمال سوريا ظل ملتبساً إلى ان جاءت المعطيات الميدانية فـي عين العرب لتكشف النقاب عنه، فالتقدم الاخير لمقاتلي «الدولة الإسلامية» باتجاه المناطق ذات الغالبية الكردية قد تم بوضوح امام أنظار الولايات المتحدة والدول الستين المشاركة فـي «التحالف الدولي» ضد الارهاب. وفـيما كان المقاتلون الاكراد يخوضون اشرس المعارك للدفاع عن مدينتهم المحاصرة، فإنّ جل ما قامت به طائرات «التحالف» كان الإغارة استعراضياً على اطراف عين العرب، وبالتالي غض الطرف عن احتمال سقوط المدينة فـي ايدي التكفـيريين، وهو ما عبّر عنه احد المراسلين الأجانب حين تساءل، فـي تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» غداة هجوم بشاحنة مفخخة سعى التكفـيريون من خلاله إلى توجيه ضربة قوية لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية فـي كوباني: «كيف تمكن مقاتلو داعش من تحميل شاحنة بالمتفجرات وارسالها إلى كوباني على مرأى من الطائرات الاميركية التي تحوم فـي سماء المنطقة على مدار الساعة؟!».
هذه الوقائع الميدانية جاءت لتعزز الفرضية بشأن تواطؤ اميركي – تركي على تصفـية الاكراد تمهيداً لاقامة منطقة عازلة، تأتي فـي سياق مناطق عازلة اخرى سواء على محور شبعا-عرسال فـي لبنان او على محوري سنجار وسهل نينوى فـي العراق.
وفـيما تدخل المقاومة فـي كوباني شهرها الثاني، فإنّ صمود اهلها من شأنها ان يحمل الكثير من التداعيات، سواء لتركيا او الولايات المتحدة. اولى تلك التداعيات الانتفاضة التي فجّرها الاكراد داخل تركيا على خلفـية حصار كوباني، والتي حرّكت بدورها مناطق لم تكن فـي حسبان أردوغان، وتحديداً المناطق ذات الغالبية العلوية فـي الجنوب التركي.
ومن التداعيات الاخرى لمعركة كوباني هو ان الحل السلمي للقضية الكردية فـي تركيا قد بات معرّضاً للسقوط، وهو ما حذر منه زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله اوجلان المسجون فـي جزيرة امرالي، فـي الأيام الأولى لبدء الحصار «الداعشي» على المدينة، علماً بأن انهيار الحل السلمي بات احتمالاً شبه مؤكد، مع اعلان الزعيم الثاني فـي «حزب العمال الكردستاني» جميل باييك عودة المقاتلين الاكراد من جبال قنديل الى الداخل التركي، وهو ما ينذر بصدّام جديد، لاحت بوادره فـي الافق مع قيام الطائرات التركية بالإغارة على مواقع «الكردستاني».
ولعل النتائج السلبية لما يجري فـي عين العرب لن يقتصر على الجانب المتعلق بالقضية الكردية فثمة اصوات تتعالى فـي اوروبا لوقف مسيرة انضمام تركيا فـي الاتحاد الاوروبي، فـيما برز موقف ملفت من الفـيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفـي الذي اكد انه إذ تركت تركيا مدينة كوباني السورية تسقط فـي ايدي داعش، فإنه «سيتعين طرح مسالة انتمائها الى الحلف الاطلسي».
وفـيما يتعلق بالولايات المتحدة، فإن سقوط عين العرب فـي ايدي «داعش» سيشكل فشلاً للضربات الجوية، فـيما يعد نكسة مبكرة لباراك أوباما، وستثور حتما تساؤلات سواء فـي ما يتعلق بتعهد أوباما بإبعاد القوات البرية الأميركية عن القتال وبشأن قوة تحالفه الدولي، أو بشأن مدى ضلوع الولايات المتحدة فـي مخطط تركي لتصفـية الاكراد وخلق المناطق العازلة وتقسيم المنطقة العربية.
هل يجر أردوغان تركيا إلى «حرب أهلية»؟
يثير حصار «داعش» لمدينة كوباني مخاوف داخل تركيا من حرب اهلية على خلفـية الغليان الكردي، الذي تبدّى فـي انتفاضة شعبية خلفت عشرات القتلى والجرحى، وتزعزع مسيرة الحل السلمي مع «حزب العمال الكردستاني»، وتنامي النقمة الشعبية فـي اوساط العلويين.
وما اسهم فـي تأجيج الغضب الكردي تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي صب الزيت على النار، حين ساوى فـيها «داعش» بـ«الكردستاني»، وقوله إن «كوباني على وشك السقوط».
وبتصريحاته هذه، بدا أردوغان راغباً فـي الانتقال من المناورة الى المغامرة، علماً بأن الموقف من الاكراد، وبحسب ما يشير محللون اتراك، يبدو محاولة من الرئيس التركي لحصد تأييد الفئات القومية الموالية لـحزب «الحركة القومية» من خلال رفع المنسوب القومي، بعدما فقد الأمل فـي الحصول على تأييد الاكراد على خلفـية الوضع فـي عين العرب.
ويجمع المراقبون فـي تركيا على ان سيطرة «داعش» على كوباني يعني اجهاض مسيرة الحل السلمي مع «حزب العمال الكردستاني»، ذلك ان اكراد تركيا لن يغفروا لمن سمح بقتل اخوانهم على الجانب السوري.
وإذا ما اضيف الى الغليان الكردي الغضب الذي يسود المناطق التركية ذات الغالبية العلوية، على خلفـية سياسة أردوغان فـي سوريا، والمس بتلك الطائفة فـي محافل عدّة، فإن ثمة مخاوف جدية داخل تركيا من احتمال ان تواجه البلاد خطر «الحرب الأهلية».
Leave a Reply