بقلم: كمال العبدلي
* تنتمي لجيل شعري يسمّى جيل ما بعد الحرب العراقية ـ الإيرانية، ألا تبدو لك هذه التسمية مرعبة؟
ـ بعيداً عن التحقيل والتبجيل، أجد من المناسب أن أرمي بنفسي فـي أتون الفرن الشعري الذي تسعَّرَ عقب الحرب الدامية ذات الثماني سنوات، خرجنا منها إلى ما كنّا نعتقد أنها الحياة فوجدناها المزبلة، نحن إضافات بشرية إلى القمامة التي تلمع فـيها قصائدُنا.
* حسناً برأيك ما هي أهمّ مميزات وملامح ونقاط الإختلاف فـي جيلك عن الجيل الذي سبقه؟
ـ إنّه جيل الملامح بامتيار، كل شيء فـي كلماتنا يذهب مباشرة ليطابق مدلوله فـي الخارج، فمثلاً عندما أقول لك فـي قصيدةٍ ما (شارع الرشيد) فإنك ستسمع معي كلَّ ضجيح هذا الشارع وتتنفّس هواءه الرطب، بمعنى لا مجال للغة أن تتهرّب من سجن المعنى الذي تقترحه لها.
* ولماذا تريد الهروب من سجن اللغة، مع انها إحدى أدوات الشعر الأساسيّة؟
ـ لا. أنا لا أريد الهروب من سجن اللغة، أنا فقط أصوّرها من قوة التسمية فـي مفرداتها، أريد لها أن تكون هي كما تقولها أمي، وليس كما يتفكر بها إفلاطون.
* إذا كان الأمرُ كذلك ففـيم تختلف لغة الشاعر، عن لغة الشارع العادي؟
ـ هي لغة واحدة بكلّ تأكيد، لكن الأولى مقبلة من وعي وإرادة والثانية عفوية.
* نشأتَ فـي ظلّ دخان الحروب، كيف انعكست الحرب ـ فـي تصوِّرك ـ على قصائدك؟
ـ اليوم وهنا فـي القاهرة كنتُ أقول لنفسي أنا محظوظ لأنني عشتُ حروباً، الحياة بمعنى ما، هي مرورٌ فـي الأشياء ومروري بالحرب جزء مهم من تشكل وجداني، وانعكس ذلك بشكل مباشر وصريح فـيما كتبتُ، حيث روايتي «بيضة هولاكو» تتحدّث عن جندي يربي أسلحة صغيرة فـي حديقة بيته، وقصائدي تتراوح عناوينها وموضوعاتها بين الدبابة، والهاون 60 ملم وسرية المشاة.
* ألا تخشى من أن يسقطكَ هذا فـي مباشرة غير فنية؟
ـ لا، أنا اكتب حياتي والدبابات التي تصطف على بوابات عمري كثيرة، ومزمجرة وكذلك الهاونات والراجمات وسائر الأسلحة.
* يبدو فـي إبداعاتك، ولعك بالحديث عن إنسانيّة الحرب، وإنسانية الآلة، ألا يبدو هذا متناقضاً مع حزنك على أهلك، وأصدقائك الذين يسقطون ضحيّة الحرب والآلة؟
ـ الحرب فاعلية إنسانية مخطَّطة، الحرب واحدة من حالتين، ومقابلها كما تعرف هو السلام، والسلام بالنسبة لي ـ كجندي سابق ـ هو التفاهة والخمول والخواء، الشاي فـي الحرب شاي حقيقي والسيجارة فـي الحرب سيجارة سماويّة، وكذلك الأحاديث والعلاقات والليالي والنهارات، ثم إنّ الموت فـي الحرب هو الموت الذي وقفت الإنسانية طوال عمرها لتحييه، الحرب ليست بشعة كما يقول محبّو السلام، انظر إلى سماوات المدن التي مزّقتها الطائرات، لكَم هي جميلة وفاتنة وحيوية، أمّا السماوات الخاملة فتلك حصة السلام، الحرب هي الإستثناء الذي يجعل للمأساة معنى، والحرب التقنية هي الشكل الإنساني المتحضر لحروب السيف البشعة، أحبُّ سنواتي التي تتقاز كالفئران أمامي، تلك السنوات التي قضّيتها فـي الخنادق والمزاغل والأنفاق، أحبُّ أسلحتي التي تربّتْ قريباً منّي إنّها حياتي، الحرب لولا الخسائر هي رقصة الوجود وموسيقاه فـي آن.
* كيف يرى الشاعر الذي ربّى ابنه كي يصبح هاوناً ـ كما تقول فـي إحدى قصائدك ـ ما يجري فـي العراق الآن؟
ـ ما يجري فـي العراق، وفـي بغداد تحديداً أمرٌ طبيعي ينتمي لمعنى بغداد، تخيّل أنّها آخر مدينة فـي العالم تسقط وهكذا صرنا نؤرِّخ من جديد لأولادنا بسقوط بغداد، وهذا قانونها هي وليس قانوناً آخر من خارجها، والذي يجري لا يمكن أن يشمل بمقولة واحدة، الذي يجري هو واحد من أكبر مفارقات التاريخ الذي ينبغي لبغداد أن تعيشه، ديكتاتورية تسقط تحت أقدام الإحتلال، رعب الديكتاتور وحرية الدبابة يتناوبان، سقوط مدينة وحرّية أبنائها فـي لحظ تاريخية فريدة، إنّها واحدة من احتفالات القدر الذي يحتاج إلى إجابة شكسبيرية خالصة.
* كيف ترى مستقبل الشعر العراقيّ بعد الحرب؟
ـ كما ظهرَ الأميركان وحلفاؤهم فـي شوارع بغداد، سيظهرون حتماً فـي قصائد الشعراء، كما عاش الناس ببغداد سيعيش الشعر، ومنذ جلجامش إلى غيلان العراق، فإنَّ العراق هو العافـية الشعرية للوجود.
Leave a Reply