بقلم : د. لبيب قمحاوي
إذا كان العرب هم قلب الإسلام، فإن المسيحيين العرب هم رئة العرب الثقافـية ونافذتهم على العالم وهم اليد التي إمتدت لتغرف من حضارات العالم المختلفة لتعيد بناء الحضارة العربية الحديثة. إن الماضي المشرق للإسلام السمح المتسامح العادل يتعرض الآن للتشويه والإغتيال على يد بعض التنظيمات المارقة التي تدعي الانتساب للإسلام والتي تضرب مثالاً على القسوة والدموية والإرهاب وظلم ذوي القربى بشكل لم يشهده الإسلام والمسلمون طوال قرون مضت.
![]() |
كنيسة تعرضت للتدمير من قبل الجماعات الإرهابية في بلدة معلولا السورية |
التاريخ لا يكذب بينما البشر يكذبون ويزيفون التاريخ بالطريقة التي تناسبهم. التاريخ يؤكد أن العرب المسيحيين هم أساس العرب والعروبة. والآية الكريمة «إنا أنزلناه قرآناً عربياً» تأتي لتؤكد أن العروبة سبقت الإسلام. فالعالم العربي كما نعرفه حالياً هو فـي أصوله أوطان مسيحية، والمسيحية انطلقت من فلسطين حيث ولد السيد المسيح وعاش. والعرب المسيحيون بذلك ليسوا دخلاء على المنطقة العربية. الإسلام فتح أراضي بلاد الشام المسيحية، ومصر المسيحية وفلسطين المسيحية والعراق المسيحية. ولم يقطع أحد رأس أحد لأنه مسيحياً أو مسلمـاً. وعمر بن الخطاب عندما دخل القدس رفض الصلاة فـي الكنيسة بل صلى بجانبها خوفاً من أن تتحول تلك الكنيسة إلى جامع. هذا هو الإسلام الحقيقي، فمن أين جاءت «داعش» وأمثالها بالسيرة الدموية للإسلام؟ ومن يجرؤ على تزوير التاريخ من خلال اعتبار العرب المسيحيين حالة طارئة فـي المنطقة فـي حين أنهم هم الأصل. إن محاولة إعادة التاريخ إلى الوراء بهدف إعادة كتابته قد تصطدم بالواقع لتتحول إلى إعصار مدمر لا فائدة ترجى منه سوى الخراب والدمار.
عند الحديث عن «داعش» والمخططات الخفـية المرسومة للمنطقة فإن الشيطان لا يكمن فـي التفاصيل فقط لأنه على ما يبدو فـي كل شئ وفـي كل مكان. هو فـي ضمير المستتر وهو أيضاً الهدف الخفـي وراء كل هدف مُعلن. الشئ المحزن الذي تعاني منه المنطقة العربية الآن أن الأدوات والتمويل والتدريب اللازمين لتنفـيذ كل تلك المخططات الشيطانية يتم بشكل أساسي بأيدٍ عربية سواء طوعاً فـي حالة الأنظمة الحاكمة أو بالخديعة أو الإكراه فـي حالة الشعوب.
ما يجري الآن للعرب المسلمين والعرب المسيحيين من ترهيب وتخويف وقتل وتهجير وترحيل طوعي أو قسري أمرٌ يأتي فـي سياق ماهو مخطط للمنطقة. إن تفريغ الوطن العربي من مواطنيه المسيحيين يصب فـي مخطط إعادة تقسيم المنطقة على أسس غير وطنية بل طائفـية ومذهبية. فخطر «داعش» وما يماثلها من تنظيمات اسلامية أصوليه على العرب المسلمين يوازي خطرهم على العرب المسيحيين، إن لم يَفـُقـْه بمراحل.
الأصولية تهدف إلى ارجاع البشر إلى الوراء وهذا لا يمكن. والظروف التي سادت العالم قبل أربعة عشر قرناً لم تعد قائمة الآن. أما إذا كان الهدف اطلاق مثل هذه الشعارات للوصول إلى أهـداف أخرى خفـية واستعمال الدين بشكله الباطني العنيف كأداة للوصول إلى ذلـك، فـإن هذا ممكن الحدوث. إن السلوك الدموي والإجرامي لا يستهدف العرب المسيحيين فقط بل يمتد ليشمل العرب المسلمين اللذين يرفضون فكر ومسار ودموية «داعش» ومثيلاتها من التنظيمات الأسلامية المارقة.
ولكن لماذا يتم إستهداف العرب المسيحيين من قبل تنظيم إسلامي مثل داعش ؟ لا بد وأن يكون هنالك أسباب لذلك.
الأسباب الحقيقية وراء خلق تنظيم «داعش» وتدريب منتسبيه الأوائل وتمكينه بسرعة غير مسبوقه من الإستيلاء على الأسلحة والأموال وتسهيل احتلاله لأراض ٍ واسعه فـي كل من العراق وسوريا كان يهدف إلى تمهيد الأرضية لإعادة تشكيل المنطقة ورسم حدود جديدة لدول جديدة تحل محل الدول القائمة. هذا الأمر كان يتطلب خلق قواسم مشتركة جديدة تربط بين الناس وتستعمل كأساس لإعادة تشكيل الأوطان.
من المعروف أن العروبة هي فـي النهاية فكرة جامعة. وبغض النظر عن ما جرى من مآسي على يد الدول الوطنية والأحزاب القومية واليسارية والدينية التي حكمت، فإن الناس إستمروا فـي التصرف بشكل مستمر وعفوي باعتبارهم عرباً. وحتى الآداب والفنون والغناء يفهمها جميع العرب ويطربوا لها بغض النظر عن هويتم الوطنية أو الدينية أو المذهبية. إذ لا يوجد هنالك طرب أو غناء عربي اسلامي أو طرب أو غناء عربي مسيحي. كما لا يوجد طرب سني أو طرب شيعي. فأم كلثوم أو عبد الوهاب أو فـيروز مثلاً يغنون للجميع لأن الجميع عربً قبل أن يكونوا أي شئ آخر. كما لا يوجد قرآن سنى وقرآن شيعي وإنما يوجد قرآن عربي واحد لجميع المسلمين. اذا كان هذا هو واقع الحال، فما هو الشئ الذي يبرر خروج عفريت الطائفـية والمذهبية من قمقمه ؟
باستئناء لبنان، لم تكن الطائفـية أو المذهبية أساساً للنظام السياسي أو للصراع السياسي فـي العالم العربي الحديث. ومع ذلك فإن الإنتماء الوطني اللبناني كان دائماً جامعاً لكل الأطراف بالرغم من الخلافات الطائفـية والمذهبية باستثناء التطورات التي أعقبت نهاية الحرب الأهلية فـي تسعينيات القرن الماضي.
إن ما يجري الآن فـي العالم العربي يهدف إلى تغيير أسس الصراع فـي المنطقة من صراع سياسي وطني كما هو الحال فـي صراعنا مع اسرائيل وتحويله إلى صراع طائفـي ومن ثم مذهبي. والهدف بالطبع هو اخراج اسرائيل من دائرة الصراع من جهة وإلغاء الإنتماء الوطني والقومي وتحويله إلى إنتماء طائفـي ومذهبي من جهة أخرى. وهذا الهدف لا ينسجم والإنتماء الطائفـي للعرب المسيحيين. فالمشروع الخفـي لا يشمل إنشاء دولة مسيحية بل يركز على تحويل الدول العربية المعنية إلى مجموعة من الدول الصغيرة المذهبية.
إن النقاء المذهبي سوف يكون أساس التقسيم المقبل لدول المنطقة. وهكذا يصبح الموضوع الطائفـي بالتالي أمراً غير مطلوب بل ويشكل عثرة فـيما هو مخطط للمنطقة.
وهكذا، فإن الأولوية هي لمذهبية الصراع كونه الطريق الأمثل لإعادة تقسيم المنطقة. ووجود واضح للعرب المسيحيين فـي هذه الدولة أو تلك سوف يخل بالميزان المذهبي ويُبقي الصيغة الطائفـية بين المسيحيين والمسلمين هي السائدة طبقاً لمنظور القوى التي تقف خلف «داعش»، فـي حين أن المطلوب لخدمة أهداف مخطط تقسيم المنطقة ووجود الخلاف المذهبي بين أبناء الطائفة الواحده حصراً.
وفـي هذا السياق، فإن النقاء المذهبي للدول الجديدة التي سترث دول سايكس- بيكو ودول عربية أخرى، يتطلب تركيز تلك الأغلبيات المذهبية فـي مناطق وجودها أصلاً وتنقيتها من الطوائف الأخرى من خلال اما التهجير القسري أو تبادل السكان أو الغزو العسكري.
إن المشكلة ليست بين العرب المسلمين والعرب المسيحيين، ولكنها بين العرب المسيحيين والمسلمين من جهة و «داعش» وأمثالها من المنظمات المارقة من جهة أخرى. وفـي هذا السياق ، يجب أن يكون واضحاً أن الهدف من الدموية والإجرام والقتل ليس العرب المسيحيين حصراً بل العرب المسلمين كذلك. وما يحصل للعرب المسيحيين الآن يشابه ماحصل للفلسطينيين فـي مذبحة دير ياسين عام 1948 وهو التخويف والتهجير من خلال الذبح والقتل والإرهاب إلى الحد الذي أرغم البشر الخائفة على الهرب وترك أوطانها.
الحديث فـي موضوع العرب المسيحيين باعتبارهم مسيحيين وليسوا عرباً هو أمر يدمي قلب الأمة ويعكس حالة الإنهيار الذي وصلنا إليه و البؤس وانعدام الخلق الذي نعيشه. المسيحي العربي هو عربي أولاً تماماً كما أن المسلم العربي هو عربي أولاً. والمعارك الدائرة الآن بتخطيط أميركا وتنفـيذ «داعش» هي بالضبط ضد هذا المفهوم. فالداعشيه الأميركية لا تريد عرباً بل مسلمين ومسيحيين ، ولا تريد مسلمين بل سنيين وشيعيين ، وهكذا إلى يتم تقسيم المنطقة إلى دويلات مذهبية صغيرة.
إن هذه الرؤيا لا تتطلب تقسيماً طائفـياً لأن ذلك سيجعل من المسلمين بمذاهبهم المختلفة وحدة واحده. ومن هنا كان من الضروري اخراج العرب المسيحيين من المعادلة حتى يتم اختزال كل العرب المسلمين إلى مذاهبهم الصغيره ومن تم ترجمتها بدول صغيرة.
هنالك حالة من الخوف المشروع بين أوساط إخوتنا من المواطنين العرب المسيحيين على مستقبلهم فـي المنطقة بعد أن شاهدوا الإجرام والظلم الداعشي ضد العرب المسلمين والعرب المسيحيين و الزوار الأجانب خصوصاً فـي العراق المرشح الأول للتقسيم والمرشح الأول لخسارة المكون المسيحي فـي مجتمعه والذي ساهم مساهمة فعـﱠالة فـي بناء العراق الحديث.
والعرب المسيحيون فـي تخوفاتهم وتساؤلاتهم تلك ينطلقون من المجهول الذي أخذ يعصف بالمنطقة إلى الحد الذي أفقد الجميع الرؤيا. واستفحل هذا الخوف إلى الحد الذي بدأ فـيه البعض ببيع موجوداتهم بصمت وهدوء خوفاً من الإمتداد الداعشي وأن يحصل لهم ما حصل لأخوتنا العرب المسيحيين فـي العراق.
وفـي ظل هذا الوضع البائس ، ما العمل؟
هنالك الكثير مما يمكن عمله ، ولكن الأهم هو الإنتباه إلى ثلاث نقاط تشكل الأساس والمرتكز لأي جهد يهدف إلى وضع حد لهذا المنزلق الذي يسير فـيه العرب الآن سواء عن وعي أو بدون وعي:
أولاً : على جميع العرب ، مسلمين ومسيحيين ، التوقف عن اعتبار «داعش» ومثيلاتها كمشكلة اسلامية تهم العرب المسلمين أو تتعلق بهم فقط. فالموضوع وطني وليس دينياً. و«داعش» ومَنْ وراءَها يستعملون الدين كغطاء ووسيلة لتدمير الوطن. ومن هنا فإن المشكلة ليست دينية بل سياسية ووطنية مما يستوجب من جميع المواطنين التصدي لها بغض النظر عن انتمائهم الديني.
ثانياً : على جميع العرب المسيحيين أن يخلعوا ثوب الخوف والرهبة ، والتوقف عن النظر إلى أنفسهم كأقلية فـي وطنهم ومجتمعهم. فهم مواطنون لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.
ثالثاً : على كافة المواطنين ، مسلمين ومسيحيين ، التعاون فـي التصدي لتلك التنظيمات المارقة واتباع كل السبل ودعم كل الجهود التي تهدف إلى وضع حد لتلك التنظيمات. وعليهم العمل على تهدئة النفوس والإبتعاد عن الخوف وتخويف بعضهم البعض.
الاستسلام للخوف سوف يؤدي إلى ضياع الوطن. وقهر الخوف الناتج عن الإرهاب الدموي هو نصف النصر. وباقي النصر يأتي بأن نعمل جميعاً من منطلق أن «الدين لله والوطن للجميع»
Leave a Reply