صبحي غندور
يعيش العرب الآن فـي ظلّ هوياتٍ غير واضحة وغير محسومة، وأيضاً مع انعدام وجود لمشروع عربي حضاري محدّد. وهاهم الآن يختلفون حتّى على الهوية الوطنية نفسها، وعلى ما فـيها من تعدّدية داخل المجتمع الواحد. ولم تستطع الطروحات العربية الفكرية السائدة الآن أن تضع أمام الأجيال العربية الجديدة رؤيا فكرية سليمة تمكّن هذه الأجيال من أن تعمل على ضوئها لبناء مستقبل عربي أفضل.
لكن تبرز الآن على سطح الأحداث مسألة «الهويّة الدينية» وكأنها أصبحت بديلاً عن الهويات الوطنية والقومية. فهل يمكن اعتبار «الهويّة الإسلامية» بديلاً عن الهويّة العربية؟
هذا التساؤل ليس بموضوع جديد على منصّة الأفكار العربية. إنه موضوعٌ لا يقلّ عمره عن مائة سنة، فمنذ مطلع القرن العشرين يدور التساؤل فـي المنطقة العربية تحديداً حول ماهية هويّة هذه المنطقة، وهي المرحلة التي بدأ فـيها فرز العالم الإسلامي إلى دول وكيانات بعد انتهاء الحقبة العثمانية. لكن ما حدث خلال القرن العشرين أثبت عدم إمكان الفصل فـي المنطقة العربية ما بين العروبة الثقافـية والإسلام الحضاري. فالعروبة والإسلام فـي المنطقة العربية حالة متلازمة مترابطة ومختلفة عن كل علاقة ما بين الدين كإسلام والقوميات الأخرى فـي العالم الإسلامي. فقد كان على تركيا، لكي تبتعد عن الدين (الإسلام) ولتأخذ بالعلمانية وبالمنحى الأوروبي.. كان عليها أن تتمسّك بقوميتها التركية. وهذا المثال الذي حدث فـي تركيا جعل الكثيرين من العرب المتمسّكين بدينهم الإسلامي يعتقدون أنَّ الحديث عن القومية العربية يعني التخلّي أيضاً عن دينهم قياساً على التجربة التركية، بينما هناك فـي الواقع خصوصية العلاقة بين العروبة والإسلام، وهي خصوصية محصورة بالعرب ولا تشترك فـيها معهم أيّة قومية أخرى فـي العالم الإسلامي. فالعربية هي لغة القرآن الكريم، والثقافة العربية هي التي انتشرت من خلالها الدعوة الإسلامية فـي العالم. فحينما يتمّ فصل العروبة الثقافـية عن الإسلام الحضاري، فكأنّ ذلك هو فصل لغة القرآن الكريم عن القرآن الكريم نفسه، وكأنّه فصل للأرض العربية التي تضم المقدّسات الإسلامية عن الدين الإسلامي. هذه الخصوصية فـي العلاقة تجعل من إضعاف العروبة إضعافاً للإسلام، والعكس صحيحٌ أيضاً.
لقد كانت حالة الجزائر، حينما كانت تحت الاحتلال الفرنسي، خير مثال على ذلك، فقد حاولت فرنسا أن تضع بديلين فـي الجزائر: بديلاً حضارياً، وهو الحضارة الغربية بدلاً من الحضارة الإسلامية؛ وبديلاً ثقافـياً حينما حاولت «فَرْنسة» الجزائر وفرض اللغة الفرنسية بدلاً من اللغة العربية. فكيف حافظت الجزائر على عروبتها وعلى إسلامها؟ لقد فعلت ذلك من خلال التمسّك بالقرآن الكريم. فمن خلال التمسّك بالإسلام نفسه، تمسّكت الجزائر بعروبتها. وقد عاش المشرق العربي فـي مطلع القرن العشرين حالة معاكسة لتجربة الجزائر مع الفرنسيين حيث رفضت بلاد الشام محاولات «التتريك» التي كانت تحصل، فتمسّكت بعروبتها حيث ساهم ذلك بالحفاظ على لغة القرآن الكريم ووعائه الثقافـي العربي.
ورغم خصوصية العلاقة بين العروبة الثقافـية والإسلام الحضاري، فإنّ هذا الموضوع الشائك لم يٌحسم خلال القرن العشرين، ورغم أنّه ما زال أيضاً هو الأساس لنهضة هذه المنطقة فـي القرن الجديد، حتى لو كانت هناك ممارسات كثيرة، وما تزال، باسم العروبة وباسم الإسلام، تسيء إلى العروبة نفسها أو للإسلام نفسه.
فقد كان من الخطأ مثلاً، طرح القومية العربية خلال القرن العشرين وكأنها أيديولوجية عقائدية، بينما يُفترض أن تكون القومية العربية إطاراً للهوية الثقافـية، بغضّ النظر عن العقائد والأفكار السياسية. إذ يمكن أن تكون قومياً عربياً علمانياً؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً إسلامياً؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً ليبرالياً.. أي نستطيع وضع أي محتوى «أيديولوجي» داخل هذا الإطار القومي. فالقومية هي هويّة، هي إطار تضع فـيه محتوًى معيناً وليست هي المحتوى. فالمشكلة التي حدثت، خاصّةً فـي النصف الأول من القرن العشرين، تكمن فـي أنّ معظم من طرحوا فكرة القومية العربية قد طرحوها بمضمونٍ إمَا علماني ليبرالي (غربي)، أو علماني ماركسي (شيوعي)، وفـي الحالتين كان هذا الطرح متناقضاً مع الإسلام بشكل أصبحت معه دعوة القومية العربية تعني للبعض الإلحاد أو الابتعاد عن الدين، عوضاً عن طرحها كهويّة أو كإطار ثقافـي يشترك فـيه العرب ككلّ، مهما كانت اختلافاتهم الأيديولوجية أو انتماءاتهم الفكرية أو عقائدهم الدينية.
لقد كان الخيار القومي العربي – وما يزال- يعني القناعة بأنّ العرب أمَّة واحدة تتألف الآن من أقطار متعدّدة لكنها تشكّل فـيما بينها امتداداً جغرافـياً وحضارياً واحداً، تتكامل فـيها الموارد والطاقات. والمتضرّرون من هذا الخيار هم حتماً من غير العرب الذين فـي الماضي، كما هم فـي الحاضر، يمنعون توحد الأمَّة العربية حفاظاً على مصالحهم فـي المنطقة وعلى مستقبل استنزافهم لخيراتها ومواردها وطاقاتها المادية والبشرية.
وإذا كان من المفهوم أن يحارب غير العرب (على المستويين الإقليمي والدولي) فكرة القومية العربية، فما هي المصلحة العربية فـي إطلاق السهام على هذه الفكرة من بعض العرب أنفسهم، أو من بعض من ينتمون لأقليات إثنية وفدت للمنطقة العربية بفعل جرائم حصلت ضدّها من أممٍ أخرى (كما حصل تاريخياً مع الأكراد والأرمن)، فاحتضنت المنطقة العربية هذه الأقليات اللاجئة اليها، وكان ذلك شهادة للعروبة كما كانت شهادة للعرب المسلمين وجود ملايين من أتباع الطوائف الدينية المسيحية واليهودية لقرون عديدة، قبل عصر «التتريك» والاستعمار الغربي والوجود الصهيوني وجماعات التطرّف الديني التي نشهدها الآن.
ربما تكون المشكلة هي فـي كيفـيّة فهم «الهويّة العربية»، حيث يراها البعض وكأنّها «هويّة» عنصرية تقوم على العرق والدم، كما هي معظم «الهويّات» القومية فـي العالم، بينما المثال الصحيح على طبيعة «الهوية العربية» هو «الهويّة الأميركية» التي تحتضن فـي ظلّها أصولاً قومية وثقافـية ودينية متعدّدة، ورغم ذلك يفتخر الأميركيون بـ«هويّتهم» المشتركة التي صنعها مزيج وحدة التاريخ والأرض واللغة والمصالح، وفـي إطار كيانٍ اتحادي دستوري يُعبّر عن «الأمّة الأميركية». فأين العرب والعروبة من كلّ ذلك؟ ولماذا يتمّ التخلّي عن «الهوية العربية» لـ«أمّة عربية» تملك كل عناصر التكامل ومقوّمات التوحّد فـيما بينها لتكون هي أيضاً قوة دولية كبرى اسمها «الولايات العربية المتحدة»، بدلاً من حال الانقسام وتجزئة المجزّأ الذي يعيشه العرب لقرنٍ من الزمن؟!.
إنّ «الشخص العربي» هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافـية عربية. فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي. والعروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتى فـي دائرة العالم الإسلامي. فالانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكلٍ من أشكال التكامل أو الاتحاد بين بلدانها.
إنّ «الهويّة الثقافـية العربية» كانت موجودةً كلغة وثقافة قبل وجود الدعوة الإسلامية، لكنّها كانت محصورة بالقبائل العربية وبمواقع جغرافـية محدّدة .. بينما العروبة – كهوية انتماء حضاري ثقافـي – بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بواسطة روّاد عرب .. هكذا أصبحت «العروبة الحضارية» هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافـية إلى الأفق الحضاري الواسع، الذي اشترك فـي صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتالي خرجت الهويّة الثقافـية العربية من دائرة العنصر القبلي أو الإثني، ومن محدودية البقعة الجغرافـية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتّسع فـي تعريفها لـ«العربي»، لتشمل كل من يندمج فـي الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية والإثنية. ودخل فـي هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من أصول عربية من حيث الدم أو العرق. ويؤكّد هذا الأمر تاريخ العرب القديم والحديث من حيث اعتبار الطوائف الدينية المسيحية العربية نفسها كجزء مساهم بالحضارة الإسلامية، ومن حيث تفاعل الأقليات الإثنية (الإسلامية والمسيحية) مع الثقافة العربية باعتبارها ثقافة حاضنة لتعدّدية الأديان والأعراق.
فهل يصحّ، بعد كلّ ما سبق ذكره، الحديث عن «هويّة دينية» بديلاً عن الهويّة العربية؟! ولصالح من، ووصولاً إلى ماذا؟!
Leave a Reply