نبيل هيثم
مرّة جديدة تعود شبه جزيرة سيناء الى دائرة الاستهداف، بعد العملية الانتحارية التي نفذتها جماعة «انصار بيت المقدس» المرتبطة بتنظيم «القاعدة» يوم الجمعة 24 تشرين الاول الحالي، والتي وصفت بأنها الضربة الاقوى التي تتلقاها القوات المسلحة، التي خسرت فيها 27 من جنودها، والاكثر «حرفـية» من قبل التنظيمات المتشددة الناشطة فـي هذه المنطقة التي تشهد تصاعداً خطيراً فـي النشاط «الجهادي».
|
||
وأثار الهجوم الارهابي، الذي نُفذ بطريقة امنية معقدة، مخاوف بشأن قدرة الجماعات التكفـيرية فـي شبه الجزيرة المصرية على زعزعة الاستقرار فـي مصر، وتكرار النموذج «الداعشي» الذي تشهدانه سوريا والعراق، خصوصاً ان تصاعد وتيرة العنف فـي شبه الجزيرة المصرية سبقته رسالة وجهها المتحدث الإعلامي باسم تنظيم «الدولة الإسلامية» ابو محمد العدناني إلى «الجهاديين» فـي سيناء، ودعاهم فـيها الى تكثيف الهجمات على «جيش الطاغوت»، وقطع رؤوس جنوده. |
وتعد سيناء «مفتاح مصر»، باعتبارها السد الاستراتيجي لوادي النيل من ناحية الشرق، وبوابته الواسعة على المشرق العربي، الذي تشتعل جبهاته الممتدة من بغداد الى دمشق، والذي بات ساحة معركة كونية تقودها الولايات المتحدة ضمن «تحالف دولي» ضد «داعش» واخواتها التكفـيرية الاخرى.
ولعل الهجوم الاخير قد أعاد تسليط الضوء على ما تشهده شبه الجزيرة المصرية من تنامي للعنف «الجهادي»، وهي ظاهرة اتخذت منحى تصاعدياً منذ «ثورة 25 يناير»، واستمرت فـي عهد «الاخوان»، حتى صارت تمثل اليوم الشغل الشاغل للقيادة المصرية الجديدة برئاسة المشير عبد الفتاح السيسي، لكونها احد منافذ الخطر الارهابي المحدق بمصر، من ضمن منافذ اخرى هي السودان وليبيا والبحر المتوسط… والداخل. ومنذ عزل الرئيس «الإخواني» محمّد مرسي، غداة «ثورة 30 يونيو»، تضاعفت وتيرة أعمال العنف فـي «أرض الفـيروز»، التسمية التاريخية لسيناء، بحيث باتت تعادل فـي مستواها كل ما شهدته مصر من اعمال ارهابية منذ ثلاثة عقود. والواقع ان هذا المسار التصاعدي للإرهاب فـي سيناء هو نتاج لمسيرة طويلة تحولت خلالها شبه الجزيرة المصرية إلى معقل للتنظيمات والجماعات الجهادية والتكفـيرية، التي استفادت من الظروف السياسية والأمنية التي أعقبت «ثورة 25 يناير»، للتوغل فـي هذه المنطقة، وتحويلها إلى قاعدة لـ«الجهاد».
ولفهم أسباب تنامي حضور التنظيمات الجهادية فـي سيناء، لا بد من الإشارة إلى مجموعة عوامل وفرت البيئة اللازمة لنمو التنظيمات المسلحة، على اختلاف أنواعها، وهي عوامل تتداخل بين الأمن والاقتصاد والسياسة، وبين التاريخ والجغرافـيا والديموغرافـيا… الخ.
ولا بد هنا من الإشارة إلى انه باستثناء الأحداث المرتبطة بشكل مباشر بالصراع العربي – الإسرائيلي، لم تعرف سيناء فـي التاريخ المصري الحديث اضطرابات داخلية كتلك التي تشهدها اليوم.
وبالرغم من أن شبه الجزيرة المصرية، التي تغلب عليها حياة البداوة، قد شهدت منذ الخمسينيات من القرن المنصرم بعض أعمال العنف على خلفـية الصراع الخفـي بين الصوفـية والوهابية، فإن الحديث كان يدور عن معارك صغيرة، غالباً ما كانت تنتهي بصلح قبلي.
لكنّ الأمور أخذت تتبدّل منذ أواخر السبعينيات، وتحديداً منذ العام 1979، حين بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي بالانسحاب من سيناء، تطبيقاً لبنود اتفاقية كامب ديفـيد، وهي حقبة تزامنت مع بداية ظهور التيارات الإسلامية الجهادية فـي الداخل المصري.
وترافقت عودة سيناء كاملة إلى مصر، بعد الانسحاب الاسرائيلي من طابا فـي العام 1989، مع بدء المواجهة بين السلطات المصرية والجماعات الإسلامية المسلحة.
لكن المفارقة هنا، ان الجماعات الجهادية المصرية حيّدت تلك المنطقة عن صراعها مع نظام مبارك، اذ اقتصرت عملياتها آنذاك على وادي النيل، وخصوصاً فـي محافظات الصعيد.
وبالرغم من تركيز «جهاديي» التسعينات نشاطهم على وادي النيل، الا ان سيناء كانت تتحول تدريجياً إلى نقطة جذب للجماعات المتطرفة بالنظر الى طبيعتها الجغرافـية التي ساعدت الجهاديين على الاختباء فـي الكهوف والجبال الوعرة والتنقل بسهولة نسبية سواء فـي الداخل او عبر الحدود المصرية-الفلسطينية.
وثمة نموذجان مهمّان للغاية يمكن الركون اليهما لفهم مدى تأثير الجغرافـيا على النشاط الجهادي فـي سيناء.
النموذج الأول، هو جبل الحلال، الذي تنطلق منه معظم العمليات الجهادية فـي سيناء. ويعد هذا الجبل، الذي يمتد لحوالي ٦٠ كيلومتراً من الشرق إلى الغرب ويرتفع نحو ألفـي متر فوق مستوى سطح البحر، ويمتاز بالصدوع الصخرية الوعرة، ويحتوي على مئات الكهوف والمغاور، التي يصل عمقها إلى نحو 300 متر، وهو محاط بالعديد من قرى البدو وتجمعاتهم، ما يجعل أي عملية امنية هناك تصطدم بدرع بشري هائل.
أما النموذج الثاني، فهو مدينتا رفح والعريش اللتان تشهدان معظم الهجمات ضد نقاط التفتيش التابعة للقوات المسلحة، وتكمن اهميتهما فـي عامل ديموغرافـي، هو الكثافة السكانية، التي تسهل على التكفـيريين التوغل بين المدنيين، سواء بقصد الاختباء الدائم، أو بهدف تأمين طريق للفرار باتجاه جبل الحلال وغيره من المناطق الوعرة.
لكن العاملين الجغرافـي والديموغرافـي لم يكونا كافـيين لتحول «ارض الفـيروز» الى بيئة خصبة للإرهاب، فقد لعبت العزلة التاريخية لسيناء دوراً مهماً فـي جعلها بعيدة عن السلطة المركزية، فسكان هذه المنطقة، وتحديداً فـي الجزء الشمالي، ظلوا يشعرون دائماً بالتهميش، وفـي احيان كثيرة بالقمع، ما ولّد ولّد لديهم مشاعر الغضب، التي نجحت الجماعات الإسلامية فـي استثمارها.
ولعل الحكومات المتعاقبة على مصر منذ عهد حسني مبارك لم تدرك الخصوصية القبلية التي تحكم أهالي سيناء، وهو ما أضاف جرعة مكثفة على غضب السيناويين من الدولة المركزية. ويشكل البدو 75 فـي المئة من إجمالي سكان سيناء، وهم يتوزعون على 12 قبيلة كبيرة، تتفرع منها عشرات التجمعات القبلية الصغيرة.
وخلافاً لما كانت عليه الحال فـي عهد الرئيس جمال عبد الناصر، او حتى فـي عهد خلفه انور السادات، فقد شهد عهد حسني مبارك تدهوراً فـي العلاقة بين السلطة المركزية والعشائر السيناوية، نتيجة لممارسات وزارة الداخلية، التي انتهجت اسلوب الاضطهاد والقمع بحق العشائر تلك، لا بل اسهمت فـي ضرب البنية الاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع القبلي، عبر تهميش دور شيخ القبيلة، وكانت النتيجة فـي ذلك اهتزاز صورته لصالح شيوخ التيارات الدينية المتشددة، ممن يملكون الكاريزما والقوة، والمساعدات الاجتماعية وصكوك الجنة.
وكانت جماعة «الإخوان المسلمين» سبقت كل التنظيمات الاسلامية الاخرى فـي التوغل داخل سيناء، حين أقام عدد محدود من «الرعيل الأول»، ايام المرشد المؤسس حسن البنا، معسكرات تدريب فـي هذه المنطقة للقتال ضد العصابات الصهيونية فـي فلسطين. أما التيار الجهادي فظهر فـي أواخر عهد السادات (1978 – 1981)، حيث برز اسم «جماعة المسلمين» المعروفة إعلامياً باسم «جماعة التكفـير والهجرة»، وقد توغلت فـي سيناء بمبادرات قادها طلاب الجامعات المنتمون إلى الجماعات الإسلامية الجهادية، والذين سعوا لنشر افكارهم بين السيناويين بغرض إقامة دولة إسلامية فـي هذه المنطقة، ومعتقلي القبائل السيناوية الذين تعرفوا إلى تلك الأفكار فـي السجون.
ومنذ تلك الفترة تحوّلت سيناء تدريجياً إلى معقل للتنظيمات والجماعات الجهادية، وكانت أماكن الانتشار الرئيسية لعناصرها فـي مناطق جنوب رفح، الشيخ زويد، شرق العريش، جبل سانت كاترين، جبل الحلال، ولحفن.
وبالرغم من ان معظم «جهاديي» التسعينات قد اجروا مراجعات فقهية افضت الى نبذهم العنف وخروجهم من السجون، إلا ان السلطات المصرية لم تدرك ان ثمة لاعباً جديداً برز على ساحة العمل الجهادي فـي سيناء، وهو تنظيم «القاعدة»، الذي اسهمت مواقعه الجهادية على شبكة الانترنت فـي استقطاب مئات الشبان الى الفكر المتطرف.
وانطلاقاً من ذلك، برزت تنظيمات اكثر تشدداً نفذت سلسلة تفجيرات فـي منتجعات سياحية فـي شرم الشيخ ونويبع ودهب (2004 – 2005 – 2006)، وقد تزامن ذلك مع متغيرات كانت تجري على الحدود الشرقية لمصر، حيث اكملت حركة حماس سيطرتها على غزة فـي العام 2007، وأخدت حركة الانفاق بين القطاع المحاصر وسيناء تشهد نمواً مضطرداً، ما وفّر للجهاديين مدخلاً مهماً لتهريب السلاح والمقاتلين الى شبه الجزيرة المصرية.
ولم تسلم سيناء من الفوضى الامنية التي اجتاحت مصر غداة «ثورة 25 يناير»، حيث بدأ التكفـيريون يعبّرون عن ذاتهم بشكل علني، سواء فـي المساجد او فـي الاستعراضات المسلحة وعمليات تفجير خط الغاز المتجه الى اسرائيل والاردن.
وبالرغم من وصول الاخوان المسلمين الى الحكم فـي العام 2012، الا ان شبه الجزيرة المصرية شهدت تصعيداً خطيراً، بدا فـي معظم الاحيان كورقة للصراع الخفـي بين تيار الاسلام السياسي والمؤسسة العسكرية طوال السنة التي حكم فـيها محمد مرسي البلاد، وهو ما تأكد بعد «ثورة 30 يونيو»، الي تلاها اشتعال الجبهة السيناوية بشكل غير مسبوق.
اليوم تعود سيناء الى بؤرة الاهتمام، خصوصاً ان العملية الانتحارية، وبالشكل المعقد الذي نفذت فـيه، اعتبرت ضربة قوية للجيش المصري، الذي يعمل اليوم على تنفـيذ خطة امنية للثار لدماء جنوده.
من المؤكد ان ما يجري فـي سيناء يشكل مصدر قلق للنظام المصري، ومع ذلك، فإن ثمة اجماعاً على ان تصاعد العنف فـي شبه الجزيرة المصرية يصعب ان تكون له امتدادات على وادي النيل، خصوصاً مع وجود سد طبيعي منيع امام وجه الارهاب، يتمثل فـي قناة السويس، الذي يصعب هو الآخر على اي تشكيل ارهابي، او حتى جيش نظامي اختراقه… لتبقى المنافذ الاخرى للارهاب هي الهم الشاغل للقيادة المصرية، التي لا شك انها تفكر فـي ما يجري على حدودها الغربية مع ليبيا، فـيما هي تعطي اوامرها للقضاء على اوكار الارهاب على حدودها الشرقية.
السلاح في سيناء ومسارات التهريب
ويصنف الخبراء السلاح الموجود فـي سيناء على النحو التالي:
1- السلاح الميري (النظامي)، أي السلاح الذي تمتلكه القوات المسلحة وقوات الأمن المركزي. وبحسب الترتيبات الأمنية بين مصر واسرائيل، فإن قوة السلاح هو الذي تمتلكه القوات الحكومية.
2- السلاح النظامي الدولي: وهو السلاح الذي تمتلكه قوات حفظ السلام الدولية.
3- السلاح العرفـي، وهو السلاح الخفـيف والمتوسط الذي تمتلكه القبائل والعائلات السيناوية.
4 السلاح الشخصي: وهو السلاح الذي يمتلكه الأفراد للحماية الشخصية.
5 – السلاح الجهادي: وهو السلاح الخفـيف والمتوسط والثقيل الذي تمتلكه التنظيمات الجهادية فـي هذه المنطقة.
6 – السلاح الإجرامي: وهو السلاح الخفـيف والمتوسط الذي تستخدمه عصابات الجريمة المنظمة.
7 – السلاح التجاري: وهو السلاح على أنواعه فـي السوق المحلي.
ويأتي السلاح إلى سيناء عبر الطرق التالية:
السودان : تستغرق رحلة السلاح من السودان إلى سيناء حوالي 15 يوماً، ويتم تهريبه عبر قبائل السودان، الذين يسلّمونه إلى أقرانهم فـي صعيد مصر، وهؤلاء ينقلونه بدورهم عبر طرق خاصة إلى نقاط تجمّع سرّية قريبة على البحر الأحمر، تمهيداً لنقله إلى تجار السلاح أو القبائل فـي سيناء.
إسرائيل /أنفاق من غزة: شهد هذان المساران نشاطًا كبيراً عقب الانفلات الأمني فـي غضون «ثورة 25 يناير» وما بعدها.
ليبيا: تعد مصدراً جديداً للسلاح، خصوصاً بعد نهب الترسانة التي كانت تمتلكها كتائب العقيد معمر القذافـي. أما المسار الرئيسي لتهريب السلاح من ليبيا فهو طريق السويس الصحراوي.
اليمن: يبدي خبراء أمنيون وعسكريون يمنيون تخوفهم من استخدام اليمن وجزرها فـي البحر الأحمر كمحطة لتهريب السلاح التركي إلى سيناء. وتأتي هذه المخاوف الأمنية بعدما اعترض خفر السواحل اليمنيين عدداً من السفن التركية المحمّلة بالأسلحة المختلفة.
Leave a Reply