بيروت – نبيل هيثم
لا يمكن فصل التطورات الاخيرة التي شهدتها مدينة طرابلس ومنطقتا عكار والضنية عن التحوّلات الميدانية فـي سوريا، سواء على الجبهات المحاذية للبنان حيث يخوض تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» معارك «وجود» مع الجيش السوري فـي ريف دمشق، او فـي اقصى الشمال السوري على الحدود مع تركيا حيث بدا أن «داعش» قد استدرج الى حرب استنزاف فرضها صمود الاكراد فـي مدينة عين العرب.
وعلى المستويين الاستراتيجي والتكتيكي، لا بد ان «داعش» و«النصرة» يبحثان عن منفذ يستطيعان من خلاله فرض معادلة ميدانية جديدة، وهو ما يتبدّى فـي مسعاهما لتحصين وضع الجبهات فـي المناطق التي ما زالوا يسيطرون عليها، كما هي الحال فـي ريف ادلب والمنطقة المتاخمة لهضبة الجولان المحتلة، وتعزيز الاوضاع فـي الجبهات المخترقة، كما هي الحال فـي القلمون، وربما فتح جبهات اخرى تشتت جهود القوى المنخرطة فـي الحرب على الارهاب، بجناحيها الغربي «التحالف الدولي»، والوطني (سوريا، ايران، و«حزب الله»).
ولعل هذا الواقع هو ما يفسر قرار «داعش» و«النصرة» اشعال الوضع فـي شمال لبنان، عبر فتح جبهة جديدة تسمح بتحقيق اهداف عدّة للتنظيمين، فـي ادنى مستوياتها تحقيق ضجة اعلامية تكون بمثابة رسالة ميدانية بأن «الجهاديين» ما زالوا قادرين على اخذ زمام المبادرة برغم انشغالهم على جبهات عدّة بين سوريا والعراق، وفـي اعلى مستوياتها اعادة ضبط الوضع الميداني على جبهة القلمون، وتحصين جبهة ريف ادلب، التي تشهد منذ اسبوعين تطوّرات ميدانية سريعة، كانت نتيجتها احكام «جبهة النصرة» سيطرتها على هذه المنطقة، التي خرجت عن سيطرة النظام السوري منذ بدايات النزاع المسلح، وكانت تتقاسمها فصائل مسلّحة عدّة، بالإضافة الى بدء حلول فصل الشتاء، بما يعني ذلك من شلل ميداني للمسلحين على جبهة القلمون.
مسنة تشير لعدسة الكاميرا بعكازها بالقرب من منطقة تمركز للجيش اللبناني في حي باب التبانة بمدينة طرابلس |
ولا بد من التذكير أن ما جرى فـي الشمال اللبناني سبقته محاولة تكتيكية اخرى كان الهدف منها احداث خرق على جبهة القلمون، وتمثلت فـي الهجوم الفاشل على محور بريتال، والذي مثل التصدي له من قبل «حزب الله» – لا بل الهجوم المضاد الذي نفذه على مواقع المسلحين فـي الجهة السورية – انتكاسة كبيرة لـ«النصرة» و«داعش».
وكان واضحاً، من خلال متابعة التطورات الميدانية التي تلت الهجوم الفاشل على بريتال، ان التنظيمين المتشددين بذلا جهوداً كبيرة لاستعادة السيطرة على منطقة عسال الورد السورية لتأمين التواصل بين المجموعتين المركزيتين للمسلحين المتواجدتين فـي جرود عرسال وسهل الزبداني، واللذين تمكن الجيش السوري و«حزب الله» من تأمين الفصل بينهما، بعد معركة يبرود.
أما الهدف التكتيكي من هذه المحاولات، فـيتمثل فـي ان نقطة عسال الورد تتيح للمسلحين مرونة التنقل بين الزبداني وجبال القلمون بما يسمح بالتمدد باتجاه القصير، ومن ثم التسلل إلى الشمال اللبناني عبر منطقة عكار.
ويبدو ان الانتكاسة على جبهة القلمون قد دفعت بـ«النصرة» و«داعش» الى التفكير فـي مسار عكسي، يتمثل فـي اشغال الجيش اللبناني بمعركة اسواق طرابلس، وتحريك الخلايا النائمة فـي عكار، بما يمهد لجعلها منطقة آمنة، تسمح باحكام السيطرة على جرود الضنية والمنية، بما يسهم فـي تحقيق هدفـين ميدانيين، الاول هو تأمين التواصل مع جرود الهرمل، حيث ينتشر المسلحون، والتضييق عسكرياً على «حزب الله» من جبهتين تشكلان فكي كماشة.
والى جانب الاهداف التكتيكية تلك، فإن ما جرى فـي الشمال، وما يجري على جبهة القلمون – عرسال، يخفـي اهدافاً استراتيجية، يمكن تحديدها من خلال قراءة الخريطة الميدانية لمنطقة الحدود اللبنانية – السورية.
وفـي موازاة الاهداف القائمة حالياً فـي الشمال السوري، فإنّ ثمة مسعى لاقامة منطقة عازلة على طول الحدود اللبنانية السورية، ابتداءً من الجولان جنوباً الى جرود قضاء الهرمل شمالا، ومنطقة الحدود اللبنانية السورية فـي الشمال، والهدف منها قطع طرق امداد الجيش السوري، والتمهيد لما يعرف بـ«معركة دمشق الكبرى».
وفـي المدى الاستراتيجي الابعد، فإن ثمة اهدافاً اخرى من اقامة هذه المنطقة الآمنة للمسلحين، فتمدد الجهاديين فـي سوريا والعراق على مساحات كبيرة، ظل مفتقداً إلى منفذ ساحلي على البحر المتوسط، وهو امر اثر بشكل كبير على امدادات السلاح، خصوصاً بعد انسداد طرق الامداد غداة سيطرة «حزب الله» والجيش السوري على القصير، وبدء الضربات الجوية الاميركية فـي سوريا، وتفتح الأعين على تركيا.
وفـي ظل بعد الشاطئ العراقي عن مساحات امتداد داعش – بالنظر إلى وجود حاجزين مهمين يتمثلان فـي العاصمة بغداد والمناطق الشيعية فـي الجنوب – وفـي ظل استحالة الوصول الى شاطئ المتوسط عبر منطقة الساحل السوري الشمالي – وخصوصاً بعد هزيمة المسلحين فـي معركة كسب – فإن «داعش» و«جبهة النصرة» لم يجدا منطقة «رخوة»، وفق التعبير العسكري، لتحقيق هذا الهدف، سوى فـي الشمال اللبناني، مع وجود حد ادنى من مقوّمات البيئة الحاضنة، وانتشار الكثير من الخلايا النائمة فـي هذه المنطقة، مع استبعاد فكرة القيام بـ«غزوة» انطلاقاً من جرود عرسال، خصوصاً ان خريطة الانتشار الخاصة بالجيش اللبناني و«حزب الله» فـي البقاع الشمالي تجعل اي خطة من هذا النوع بمثابة عمل انتحاري.
وبالرغم من نجاح الجيش اللبناني فـي احباط هذا المخطط، إلا ان تسرب مسلحي «جبهة النصرة» و«داعش» من مناطق المواجهة المباشرة الى جرود الضنية يعني ان خطر هذا المخطط ما زال قائماً. وإذا كان فشل الخطة «النصراوية» – «الداعشية» سيلقي بظلاله، بطبيعة الحال، على الواقع الميداني فـي الشمال اللبناني، فإن ثمة خيارات ميدانية اخرى تبدو مطروحة على طاولة مخططي التنظيمين المتشددين، خصوصاً ان دخول «التحالف الدولي» على مسرح الاحداث قد فرض تغييراً فـي قواعد الصراع، الذي يبدو اليوم على الحد الفاصل بين المعارك التكتيكية والمعركة الاستراتيجية، التي يمهد الجهاديون لإطلاقها.
ويبدو ان لبنان هو فـي قلب اهداف المعركة الاستراتيجية تلك، بالنسبة إلى الجهاديين، نظراً إلى ان ساحله الممتد على طول 220 كيلومتر، وبؤر البيئات الحاضنة التي قد يحويها، يمكن ان يشكل فـي بعض نقاطه، رأس جسر على الساحل الشرقي للبحر المتوسط.
وفـي المنطق العسكري، فإنّ الخطوط العريضة للخيارات العسكرية المتاحة لتحقيق هذا الغرض تتمحور حول ثلاث معارك يمكن فتحها، ولكنها ستكون بالتأكيد اشد صعوبة على «داعش» و«النصرة» من معركة طرابلس عكار.
فـي السيناريو الاول، يمكن للمسلحين التفكير فـي اطلاق هجوم من جرود سرغايا عبر احد محورين: الاول يمر برعيت وقوسايا والفاعور، ومنها الى تلال تلال زحلة وقمة جبل الكنيسة، والثاني يمر عبر رياق ومنها الى بر الياس.
اما السيناريو الثاني فـيتمثل فـي اطلاق هجوم من جرود الزبداني باتجاه مجدل عنجر للوصول الى سعدنايل.
ويبقى السيناريو الثالث، وهو اطلاق هجوم عبر البقاع الغربي، للتقدم باتجاه جبل الباروك.
هذه السيناريوهات تبقى خياراً نظرياً محتملاً، فـي ظل وجود اعداد هائلة من النازحين فـي المخيمات المنتشرة فـي تلك المنطقة، والتي يمكن ان تشكل خزاناً بشرياً لـ«الجهاديين». ومع ذلك فإنها تصطدم بحاجز منيع لـ«حزب الله»، الذي اظهرت معركة بريتال ان لديه خططاً جاهزة للتعامل مع سيناريوهات جنونية كهذه.
وبالرغم من وجود عوامل كابحة لمخططات كهذه، فإن انتقال الحرب الجهادية من المعارك التكتيكية الى المعارك الاستراتيجية يبقى هو المعيار فـي تحديد امكانية وقوع سيناريوهات عسكرية اثبتت السنوات الماضية أن اياً منها ليس مستحيلاً فـي منطقة تشهد تحولات سياسية وعسكرية قادت الى ما نعيشه اليوم.
جبهة القلمون
تمتد جبهة القلمون على طول السلسلة الشرقية لجبال لبنان الشرقية من الناحية السورية من سهل الزبداني جنوباً الى تخوم ريف حمص، وهي منطقة شديدة التداخل مع الجانب اللبناني.
وتنتشر المجموعات المسلحة، وابرزها «داعش» و«النصرة» من جرود بلدة سرغايا السورية فـي ريف دمشق وصولاً إلى جرود جوسيه فـي البقاع الشمالي.
ومن المفارقات ان «داعش» و«النصرة» اللذين شهد العامان الماضيان صراعاً دموياً بينهما، فـي إطار ما عرف بـ«الفتنة الجهادية»، ويخوضان المعركة فـي القلمون جنباً إلى جنب.
وتقع مدينة سرغايا فـي ريف دمشق، وتعتبر آخر بلدة سقطت بيد الجيش النظامي بعد سقوط معظم قرى القلمون وبلداته. وتحد سرغايا قرية معربون اللبنانية التي تقع فـي أحد أودية السلسلة الشرقية مع حام اللبنانية أيضاً. اما نقطة انتشار المجموعات المسلحة فـي هذه المنطقة فهي بين جرود سرغايا وجرود معربون المجاورة.
والى الشمال من سرغايا، تقع بلدة رنكوس، التي يسيطر عليها الجيش السوري، فـي حين ينتشر المسلحون فـي جرودها الملاصقة لجرود بلدتي معربون وحام، المتاخمة لبلدة عين الجوزة اللبنانية، والمطلة على الطفـيل، التي سيطر عليها «حزب الله».
والى شمال من رنكوس، ثمة تواجد للمجموعات المسلحة فـي جرود مزرعة درة، ومن ثم فـي جرود عسال الورد (شمال الطفـيل).
وبعد الهجوم الفاشل على بريتال، انكفأ المسلحون الى معاقلهم فـي جرود بلدة عسال الورد فـي سوريا، التي تمكن الجيش السوري و«حزب الله» من السيطرة عليها بعد يومين على معارك بريتال، وان كانوا لا يزالون يحتفظون ببعض البؤر فـي الجرود.
وفـي المنطقة الفاصلة بين بريتال وعرسال يتحرك المسلحون فـي عدة مواقع ابرزها منطقة وادي شاهين ووادي الدار ووادي الزعرور، على مقربة من طلعة موسى، التي تعد ثاني أعلى قمم السلسلة الشرقية بعد جبل الشيخ.
والى الشمال من هذه المنطقة تقع جرود عرسال التي يتمركز المسلحون فـيها، مروراً بجرود راس بعلبك والمنطقة وجرود القاع، وصولاً إلى جرود جوسيه.
«معركة الساحل» .. صواريخ أميركية الصنع !
وفقاً لتقرير نشره الصحافـي البريطاني البارز روبرت فـيسك فـي صحيفة «اندبندنت» مؤخراً، فإن الجيش السوري المتمركز على التلال الواقعة فـي الشمال الشرقي للاذقية يتعرض لهجوم صاروخي يومي من قوات المعارضة المسلّحة مدعومة بمقاتلين موالين لتنظيم «داعش».
ويتحدث الصحافـي المرموق، وفقاً لشهادات ضباط سوريين، عن تغيير فـي أساليب القتال ونوعية تسليح المعارضة السورية، بعد استيلاء مقاتلي «داعش» على مدينة الموصل العراقية.
وتتحدث التقارير عن أن توحّد مجموعة من الفصائل المسلّحة تحت لواء «فـيلق الساحل» يدلّ بشكل واضح على أن المسلحين المتأثرين بـ«داعش» يستعدون للتقدّم باتجاه ساحل المتوسط الذي لا يفصلهم عنه سوى ثمانية أميال.
ويرى فـيسك أنه «يجري التخطيط لمعركة كبيرة فـي هذه الجبال المغطاة بالصنوبر»، فـيما يتحدث الجنود السوريون عن صواريخ حرارية يستخدمها مقاتلو المعارضة المسلحة، الذين يشنّون هجمات استطلاعية لاختبار دفاعاتهم.
ومن بين هذه الصواريخ، «ايغل بيشي» المشحون بالهيليوم، والذي يحتوي على 6400 غرام من مادة «بي أس أي جي اتش» الشديدة الانفجار.
ويتساءل فـيسك: «كيف وصل هذا السلاح الى الإسلاميين؟ هل عبر السوق العالمي للسلاح أو من المعارضين «المعتدلين» الذين زُوّدوا بالسلاح الأميركي ثم باعوه؟».
وادي جهنم: بؤرة الارهابيين في شمال لبنان
يقع وادي جهنم على تخوم جرود الضنية، على بعد 30 كليومتراً من مدينة الهرمل.
ويعد وادي جهنم من أكثر اﻷودية إنخفاضا فـي لبنان ويفصل بين قضائي الضنية وعكار. ويحيط الضنية شرقا قضاءا الهرمل وبعلبك، وغربا مدينة طرابلس، وجنوبا قضاءا زغرتا وبشري، وشمالا قضاء عكار. ومنطقة وادي جهنم هي جرود تمتاز بأرضها الصخرية الوعرة وهي اﻷكثر إتساعا من أي منطقة فـي لبنان وتمتاز بكثافة اﻷشجار.
ومنذ نحو عامين تحوّل هذا الوادي إلى بؤرة خطيرة لإرهابيي «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش»، وينظر اليه المسلحون بإعتباره نقطة آمنة لاعادة رسم معركة القلمون، انطلاقاً من السلسلة الغربية لجبال لبنان، ولفتح جبهة جديدة على الساحل اللبناني الشمالي.
وعلاوة على كونه منطقة آمنة، ينظر المسلحون الى وادي جهنم، بإعتباره نقطة عسكرية استراتيجية، تستمد اهميتها لقربها من مدينة الهرمل، ولكونها منطقة مفتوحة على الساحل اللبناني فـي الشمال، فضلاً عن انها مفتوحة على بلدة القصير الاستراتيجية، سواء من نقطة تلال النعمات الشرقية، او من جرود الضنية وعكار فـي السلسة الغربية.
وازدادت اهمية وادي جهنم غداة التقدم الذي حققه الجيش السوري و«حزب الله» فـي القلمون وريف حمص، وبعدها غداة النجاح الذي احرزه الجيش اللبناني فـي معارك طرابلس وعكار، حيث انتقل قسم كبير من المسلحين الى جرود الضنية، ومنها الى هذا الوادي السحيق، الذي يبقى فـي منأى عن الغارات الجوية او حتى التدخل العسكري البري.
Leave a Reply