مريم شهاب
منذ الأزل، كانت القدرة على الضحك، هي ما تميز الإنسان عن الحيوان. كانت السخرية، ولازالت العامل المساعد لكسر رتابة تعب الأيام ومللها. المرح وخفة الدم هي هبة ربانية فـي الإنسان، مستحيل تعلمها أو إكتسابها، والشخص خفـيف الروح والظل محبوب ومرغوب من الجميع وحضوره يضفـي نكهة من البسمة والدعابة.
الفلاحون والحرفـيون هم أكثر الناس تواجداً فـي أماكن أعمالهم التي يعانون فـيها من أجل الحصول على لقمة العيش. منهم الظرفاء والأشقياء, يتمتعون بروح الدعابة والمزاح من أجل تهوين مصاعب الدنيا. فالواحد منهم يقضي النهار من طلوع الشمس إلى ما بعد غروبها يكدّ فـي عمله المضني والرتيب.
عمد بعضهم للغناء والعتابا والميجانا، وعمد الآخرون إلى فن النكتة والسخرية، من كل شيء، من الحياة والتعب من زوجته وجيرانه.
من هؤلاء اشتهرت فـي ضيعتنا الحاجة زنوبة، كانت خياطة القرية. على وقع مكوكها كانت تغني وتحيك القصص والنكات والمقالب ايضاً. جاءتها إحداهن بقطعة قماش مهداة من أقاربها فـي الكويت، لا تتجاوز الثلاثة أذرع. طلبت منها أن تخيط لها ثوباً لتلبسه أثناء أدائها فريضة الحج، عاينت القماش ثم قالت لها: «تكرمي على العين والراس تعالي بعد يومين وسوف يكون الثوب حاضر».
بيد أن السيدة تأملت فـي الكلام ولمست سرعة الجواب واستعداد الخياطة. بدأ الشك يلعب فـي «عبّها»، طمعت فـي أكثر من ثوب وقالت لها: «يا ريت تعملي منها منديل للصلاة»، أجابت الخياطة: «ليش لأ. أهلاً وسهلاً. تعالي بعد يومين».
تشجعت السيدة أكثر من ذلك، قالت لها: «يا ريت لو تعملي منها بيجاما كمان». ردت الحاجة زنوبة قائلة: «على عيني وراسي». أحست السيدة أن الخياطة تنوي سرقة جزء من القماش ولحرصها الشديد ألا يحصل ذلك، قالت للخياطة: «إعملي لي صدرية تحت الثوب مع جيوب واسعة»، و«قمطة» للشعر تحت المنديل. مضت الحاجة زنوبة تهز برأسها إيجاباً ولا تحاول مجادلتها. «يا أهلاً ومرحبا فـيك إن شاء الله بتروحي وبترجعي بالسلامة من الحج».
انصرفت السيدة فرحانة بما فعلت، وبعد يومين جاءت لتستلم ثياب الحج التي أوصت عليها، فقدمتها الخياطة لها. ثوب ومنديل وبيجاما وصدرية و«قمطة» لا يتجاوز طول كل منها ثلاثة أشبار. تصلح ثوب لدمية عروس تلعب بها البنات.
طبعاً ثارت المرأة على ما رأت، وعلا صراخها شتماً وهي تُشهد الله على المقلب والظلم من قبل الخياطة الماكرة. تجمعت بعض النسوة ليروا ما حدث. وضحكن على ما رأوه وما قالتة الخياطة المرحة.
طرفة أخرى لا زالت فـي البال، أحد الشيوخ كان يأتي من قرية مجاورة ليعلم أولاد المدرسة مادة الدين. طلبت منه إمراة أمية، مثل أكثر النساء فـي تلك الأيام، وبيدها رسالة من إبنها المهاجر فـي إفريقيا، أن يقرأها. أخذ الشيخ الرسالة من يدها وحاول عبثاً أن يقرأ ما فـيها من خط سيء للغاية، إضطر أخيراً أن يعتذر لها قائلاً: «مش قادر يا ستّي أقرأ المكتوب». نظرت إليه بدهشة واستغراب وقالت: «لابس عمّة طويلة عريضة على راسك ومش قادر تقرأ سطرين فـي الرسالة».
فما كان من الشيخ إلا أن نزع العمامة عن رأسه ووضعها على رأس تلك المرأة، ثم أعطاها الرسالة وقال: «هه، يللا فرجيني شطارتك أقرأيها».
للأسف بسبب الحرب وبسبب الهجرة من القرى، إنقرضت هذه الدعابات العفوية، وانقطعت سلالة الظرفاء الساخرين مثل شوشو، نجيب حنكش ورياض شرارة ونجيب الريحاني وإسماعيل يس. زالت البسمة من وجوه الناس وتحوّل الكثير منهم إلى البكائيات والمآتم واللطم.
Leave a Reply