بيروت – كمال ذبيان
الفساد ملازم لنشوء الكيان اللبناني، وازداد مع نيله الاستقلال، إذ أن أول عهد ترأسه الرئيس بشارة الخوري بعده، اتّسم باستغلال نفوذ السلطة وتفشي الرشاوى، وظهر شقيق رئيس الجمهورية سليم الذي لقب بـ «السلطان» الفاسد الأول فـي أول جمهورية بعد الاستقلال تمّ خلالها تزوير الإنتخابات فـي 25 أيار عام 1947 للتجديد للخوري الذي انتهى عهده المجدّد له بثورة شعبية سلمية دفعته الى الإستقالة فـي منتصف أيلول من العام 1952.
وجاء ترتيب لبنان فـي الفساد الأعلى بين الدول فـي آخر تقرير أممي صدر عن الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي وجمعيات دولية تعنى بمحاربة الفساد الذي لم ينجُ منه عهد رئاسي ولا حكومة ولا مجلس نواب ولا موظفـون من كل الرتب والفئات، فالرشوة عنوان فـي الإدارة اللبنانية، ويجري التعريف عنها بـ «الإكرامية»، ويطلبها الموظف دون حياء واعتاد عليها المواطن الذي يردد «تدفع بتمشي معاملتك»، وأصبحت شعار اللبنانيين الذين تربوا على ثقافة الرشوة والواسطة، وارتياد منازل ومكاتب الزعماء السياسيين لتدبير وظيفة مرددين القول »الذي لا ظهر سياسي له لا يوظّف».
ففـي عهد الرئيس كميل شمعون حصلت فضيحة التعمير بعد الزلزال الذي ضرب لبنان عام 1956، والى جانبها فضائح الرشوة فـي الإدارة والمحسوبيات السياسية فـي الوظائف والصفقات، وهو ما حاول الرئيس فؤاد شهاب التصدي له فـي عهده فأنشأ مؤسسات وعهد إليها إدارة الدولة على طرق حديثة وسليمة، فكان مجلس الخدمة المدنية كممر إلزامي للتوظيف على أساس الكفاءة والإمتحان فـي الوظائف الرسمية، والى جانبه أقام التفتيش المركزي بكل فروعه للمساءلة والمحاسبة مع ديوان المحاسبة، إلا أن هذا الإصلاح الإداري أفسدته الطبقة السياسية الحاكمة مستغلة المكتب الثاني (مخابرات الجيش) للإجهاز على قيام دولة المؤسسات التي لطالما كانت العبارة الأبرز فـي كل خطب قسم اليمين لرؤساء الجمهوريات الذين تعاقبوا فـي لبنان بالدعوة الى إخراجه من «دولة المزرعة، الى دولة القانون والمؤسسات».
فلم يمر رئيس جمهورية على لبنان إلا وكان عهده موصوفاً بالفساد، بالرغم من عمليات تطهير من الفاسدين الذين عجّت بهم الإدارات، إلا أن كل هذه المحاولات كانت تجميلية وترقيعية ومواسم فولكلورية تحصل مع بداية كل عهد وتشكيل حكومات، لإخراج فاسدين وإدخال آخرين مثلهم من أتباع الزعماء السياسيين أنفسهم، وهكذا لا يتحرر لبنان من الفساد، مادامت السلطة تنتج نفسها عبر قوانين إنتخاب، حيث فشلت محاولة إصلاح النظام السياسي عبر إتفاق الطائف، بعد 15 عاماً من الحرب الأهلية دُمر لبنان خلالها وسقط حوالي 200 ألف قتيل ومئات آلاف الجرحى والمعاقين وعشرات آلاف المهجرين ومثلهم من المهاجرين، ولم يتم إصلاح النظام السياسي الذي هو أساس الإصلاح الإداري الذي فشل فـي كل العهود والحكومات.
ففـي عهد الرئيس شارل حلو حصلت أبرز فضيحة وهي صفقة صواريخ «الكروتال» الفرنسية الصنع التي اتهم فـيها قائد الجيش العماد إميل البستاني وافلاس بنك انترا.
وفـي عهد الرئيس سليمان فرنجية اجهض الإصلاح فـي أول الولاية مع حكومة الشباب التي ترأسها الرئيس صائب سلام، فاستقال وزير الصحة إميل البيطار بسبب محاربته لإحتكار الأدوية، فكانت مافـيات الشركات أقوى منه، كما تمّ إفشال ما حاول وزير المال إلياس سابا القيام به بإلغاء حصرية استيراد الشركات للمواد الغذائية، فأصدر المرسوم 1943 الذي مُنع من تطبيقه، لأن مصالح الشركات تلتقي مع مصالح السياسيين على حساب المواطنين، وهكذا ترنّح الإصلاح فـي عهد فرنجية بعد أن تمّ إفشاله، لتدخل البلاد فـي نصف الولاية بحرب أهلية، خاضتها الحركة الوطنية بمواجهة اليمين اللبناني، تحت برنامج إصلاحي مرحلي للنظام السياسي سلمياً، لتتحوّل فـيما بعد المواجهة مع السلطة الى عسكرية، بعد أن تمنّعت الدولة عن إعطاء الحقوق لمزارعي التبغ وصيادي الأسماك الذين تظاهروا ضد شركة بروتين للأسماك تعود ملكيتها أو أسهم فـيها للرئيس كميل شمعون، وقتل فـي التظاهرة معروف سعد الذي كان يقودها بعد إصابته بجروح خطرة، كما رُفضت مطالب طلاب الجامعة اللبنانية الذين تحركوا لصالح قيام جامعة وطنية رسمية تضم كل الاختصاصات النظرية والتطبيقية وتفتح أمام الفقراء الذين لا يمكنهم تحصيل علمهم الجامعي فـي جامعات أجنبية.
ولم تمنع الحرب الأهلية دون أن يستمر الفاسدون من السياسيين وأتباعهم فـي عملهم فتدهور سعر صرف الليرة اللبنانية فـي عهد الرئيس أمين الجميّل، كما عقدت صفقة طائرات «البوما»، وحصلت عمليات هدر فـي عدد من المرافق والمؤسسات غطت عليها الحرب التي استفاد أمراؤها منها بإقامة «إدارات مدنية» ودويلات كانت تجبي الضرائب لحسابهم على حساب خزينة الدولة التي تشلعت وزادت انقساماً بين حكومتين برئاسة ميشال عون وأخرى برئاسة سليم الحص الذي كان يشكو من سيطرة الميليشيات على موارد الدولة. وانتهت الحرب الأهلية، ودخل لبنان مرحلة الاستقرار والسلم الداخلي واستعادة المؤسسات ووحدة القرار فـي الدولة التي كان على رأسها إلياس الهراوي الذي عرف عهده الفساد أيضاً، ولعب الأبناء والأقرباء دوراً فـيه يشاركهم سياسيون وأمنيون من ضباط لبنانيين وسوريين، وبدأت تظهر طبقة سياسية ثرية، من خلال صفقات النفط وصناديق ومجالس المهجرين والجنوب والإنماء والإعماء والأدوية والضمان الاجتماعي إلخ…
وكانت الصفقة الكبرى فـي استثمار شركة «سوليدير» فـي وسط بيروت ونال الحصة الكبرى الرئيس رفـيق الحريري الذي كان معارضوه يقولون أن ثروته منها ستكون حوالي العشرين مليار دولار، وسكت عنه سياسيون كبار لينالوا حصتهم من عمولات وسمسرات، سواء فـي الهاتف الخليوي الذي درّ أرباحاً على آل ميقاتي ودلول وشركائهم من لبنانيين وسوريين، وأيضاً فـي شركة «سوكلين» لصاحبتها ميسرة سكر التي نالت تلزيم رفع النفايات إنما بسعر عالٍ، يشاع أنه تمّ توزيع الفائض الملزم منه على سياسيين.
ولا يتوقف ملف الفساد الذي عمره من عمر استقلال لبنان الذي بلغ عامه الـ 71، وقد بدأ يشيخ، ولم يشخ الفساد الذي يجدد شبابه، من جيل سياسي الى آخر، والملفات ذاتها منذ عقود، والحلول دائماً شكلية وموسمية ومتكررة، حتى فقد المواطن ثقته من أن الفاسد سيدخل السجن وستعاد منه أموال المواطنين، وقد حاول الرئيس إميل لحود فـي أول عهده القيام بذلك، لكنه مُنع من قبل النظام الأمني السوري الذي احتمى الفاسدون وراءه، ثم كانوا من أكثر المعادين له بعد انسحاب القوات السورية من لبنان، التي لم يكن بعض ضباطها بعيدين عن تغطية الفساد أو مشاركة فاسدين فـي صفقاتهم.
وما فعله وزير الصحة وائل أبوفاعور من كشف الفساد فـي الأمن الصحي والغذائي للمواطن، خطوة جريئة ومتقدمة، ولكنها ليست الأولى التي تحصل وتمر دون شعور المواطن بأن الفاسدين سيحاسبون، وقد أكّد أكثر من 70% من المواطنين الذين استفتوا حول إجراءات الرقابة التي قامت بها وزارة الصحة فـي المطاعم ومحلات بيع المواد الغذائية، لأن الحملة لن تستمر وستتوقف، لأن أي فاسد لن يعتقل ويسجن ، وأن الفاسدين محميون سياسياً، ومن زج به فـي السجن كرئيس الهيئة العليا للإغاثة العميد محمد بشير لإختلاسه مع زوجته ونجله أموالاً لانه ليس محميا سياسيا، ويترك الرئيس السابق لصندوق المهجرين فادي عرموني طليقاً لانه يتمتع بحماية سياسية، كما غيره ممن تفوح رائحة الفساد منهم فـي العديد من الإدارات، حيث كشف أبوفاعور عن مستشفـيات تسجل مرضى يدخلونها وهم غير موجودين، بسبب فساد الأطباء المراقبين فـي الوزارة كما فـي الضمان الاجتماعي وتعاونية موظفـي الدولة، وهذه المسألة معروفة منذ سنوات ولا أحد يتحرك لوقفها، سوى إجراء بحق مستشفى يكون صاحبه امتنع عن دفع الرشوة، إضافة الى فساد فـي كل إدارة ومؤسسة، ومنها مصالح المياه والكهرباء التي هدرت مليارات الدولارات عليها ومازال لبنان يغرق فـي الظلام والعطش، لأن الموظفـين لا يقومون بواجباتهم والسياسيين يحمون اتباعهم ويمنعون جباة المياه والكهرباء من تحصيل اموال الخزينة حرصاً على شعبيتهم فـي أكثر من منطقة فـي لبنان.
فالهدر السنوي فـي الكهرباء بلغ مليارين ونصف مليار دولار، وأزمة السير تكلف ملياري دولار، والفائض من الموظفـين لاسيما فـي المدارس الرسمية هو أكثر من حاجتها لقلة الطلاب الذين تدفع الحكومة عنهم لأهاليهم الموظفـين لديها ليتعلموا فـي المدارس الخاصة، بدلاً من أن يكونوا فـي المدرسة الرسمية ويتم تعزيزها بالأموال التي تذهب الى مدارس تسمى مجانية يجني منها أصحابها المليارات من الليرات، أو الى مدارس شبه مجانية ومنها تابع لجمعيات دينية وأخرى خيرية ومسميات عدة، وكله على حساب المدرسة الرسمية.
فالفساد عنوان للبنان، وسياسيوه هم مَن يقومون به وبشهاداتهم هم، إذ يقول النائب وليد جنبلاط «إن لديه دفترين»، واستفاد عندما كان وزيراً للأشغال فـي فترة الحرب من إعطاء رخصة مخالفة لأبو علي بدير ليبني على الأملاك البحرية فـي خلده ، وهو تاجر العقارات الذي يتعامل معه جنبلاط، وقد اشتكى عليه وعلى مدير أعماله بهيج أبوحمزة بالإختلاس وزج بالأخير فـي السجن.
وجنبلاط هو الأصرح بين السياسيين الذي يعلن عن ارتكاباته، لأنه لن يحاسبه أحد لا فـي طائفته ولا فـي حزبه ولا فـي منطقته المفتقرة للإنماء، ولا من قبل الشعب الذي ينتخبه، ولا من القضاء الذي لا يتحرك عندما يعلن جنبلاط بنفسه أنه ارتشى وهو بذلك يفضح كل السياسيين الذين يشجعون الفساد ويستغلون السلطة لمآربهم،
فليس من سياسي فـي لبنان إلا وابتلي بالفساد وبلى اللبنانيين به، وكانت ضريبته عالية عليهم فـي دفع الرسوم والضرائب، كما فـي ضعف الخدمة العامة باستمرار انقطاع الكهرباء والمياه ودفع فواتير إضافـية عنهما، الى أزمة السير وحوادثه ومقتل ألف مواطن سنوياً وانقطاع الطرقات بفعل فـيضان مياه الأمطار التي تذهب هدراً ولا تقام لها السدود، والى احتكار الشركات من قبل مافـيات سياسية ومالية، وتبييض الأموال، إذ لا يذكر اللبنانيون أن فاسداً من الأسماء الكبرى ألقي القبض عليه، أو على متهرب من دفع الضرائب، وتجار من دفع الرسوم فـي الجمارك أو العقارات، حيث تكثر التحقيقات الإعلامية عن فضائح فـي هذين المرفقين اللذين يدران الأموال على الخزينة التي لا تحميها الدولة وتتركها لناهبي أموال اللبنانيين يسرقونها دون رقيب أو حسيب.
إنه الفساد الذي ضرب القضاء أيضاً الذي لو
كان مستقلاً عن السياسة، لما كان الفاسدون استمروا كل هذه العهود، حيث يُدل الى قضاة أثرَوا بطرق غير مشروعة، كما الى قادة أمنيين تحولوا الى أثرياء تحت مظلة السياسيين.
Leave a Reply