نبيل هيثم
داعش مجرّد حالة نفسية… قالها رئيس اللجنة القيادية فـي «حزب العمال الكردستاني» جميل باييك فـي اليوم الذي شهد بدء معركة عين العرب (كوباني) فـي شمال سوريا، والتي تحوّلت الى «حرب استنزاف» لـ «الدولة الإسلامية»، التي سجلت اولى انتكاساتها أمام مجموعة صغيرة من المقاتلين الأكراد، بعد «غزوات» هائلة عجزت فرق عسكرية نظامية ضخمة عن صدّها.
داعش مجرّد حالة نفسية |
ولعلّ حالة الجمود التي بات «داعش» يعاني منها على بعض الجبهات بين العراق وسوريا، لا بل تراجعه فـي جبهات عدّة، بعد سلسلة انتكاسات امتدت من طرابلس وعكار فـي لبنان، مروراً بحقل «الشاعر النفطي» وعين العرب (كوباني) فـي سوريا، وصولاً إلى بيجي والانبار فـي العراق، ولّدت الى حد كبير قناعة لدى «الخليفة» ابي بكر البغدادي وامراء حربه بأن سطوة «الدولة الإسلامية» قد بدأت تنهار فـي نفوس «الاعداء»، وان لا بد من تحرّك جدي لاستعادة ذلك السلاح النفسي الذي اثبت فعاليته فـي «الحرب المقدّسة».
انطلاقاً من هذا الواقع، يمكن فهم الرسالة الاخيرة التي وجهها ابو بكر البغدادي لـ «المجاهدين» فـي بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية، مروراً بمصر وليبيا، ووصولاً إلى تونس والجزائر… الخ.
وكان واضحاً فـي التسجيل الصوتي للبغدادي، والذي اتى بعد ايام قليلة على معلومات تناقلتها وسائل الإعلام الغريية عن اصابته – او ربما مقتله – فـي غارة اميركية على الموصل، حرص «الخليفة» على رفع معنويات «الجهاديين»، بعبارات من قبيل أن جنوده «لن يتركوا القتال ابداً حتى ولو بقي منهم جندي واحد»، و«جنود الدولة الإسلامية اصلب عوداً وأشد ساعداً واقوى عزيمة»، و«الحملة الصليبية ما زادتهم الا تمسكاً بمنهجهم وثباتاً على طريقتهم واصراراً على غايتهم»، من دون أن يفوّت الفرصة النادرة هذه لتوجيه رسائل مزدوجة لجنوده والغربيين عبر تأكيدات من مثل «هذه الحملة الصليبية من اشد الحملات واشرسها، إلا انها من افشل الحملات واخيبها»، وأن «اميركا وحلفاءها يتخبطون بين الخوف والضعف والعجز والفشل»، و«أنهم يخافون من هزيمتهم ويخافون من عودة الخلافة وعودة المسلمين للريادة والسيادة».
وفـي إطار الحرب النفسية التي حرص «الخليفة» على اطلاقها، سعى البغدادي للقول بأن «دولته» المفترضة «باقية وتتمدد»، وذلك حين «قبل» بيعات «الجماعات» من اليمن والسعودية، مروراً بسيناء، التي تحوّلت فـي اليوم التالي إلى «ولاية» فـي «دولة الخلافة»، وليبيا وتونس والجزائر.
لكن رسالة البغدادي، وبعيداً عن البروباغندا «الجهادية»، تضمنت اشارتين خطيرتين، تقتربان من كونهما «كلمة سر»، لحرب دينية ضد المسيحيين فـي الغرب، وهو ما يمكن تلمّسه فـي تشديده على ان «دولة الخلافة» ستتمدد باتجاه روما، واخرى مذهبية ضد من يسمّيهم «الروافض» عموماً، عبر التحريض على الحوثيين فـي اليمن والشيعة فـي السعودية، ومعهم، بطبيعة الحال، علويو سوريا وشيعة لبنان!
ولا يمكن فصل ما يجري اليوم فـي اليمن من هجمات يومية على الحوثيين، والتفجير غير المسبوق الذي استهدف مجلس العزاء الكربلائي فـي السعودية ليلة العاشر من محرّم، والتهديدات المستمرة من «داعش» وحلفائه لـ «حزب الله»، عن المسار الذي يسعى التنظيم المتشدد الى جر الشرق الاوسط، والعالم اجمع، اليه.
وبالرغم من ان ما قاله البغدادي فـي الشريط المسجل، وما رافقه من بيعات جديدة هنا وهناك، يوحي بأن «داعش» ما زال قادراً على فرض نفسه طرفاً صلباً فـي الصراع الدائر فـي سوريا والعراق، وامتداداته فـي شمال افريقيا وآسيا الوسطى، وربما فـي الغرب، مع تزايد القلق من «عودة الجهاديين»، إلا ان رسالة البغدادي تبدو من ناحية اخرى مجرّد بروباغندا، تندرج فـي إطار الحرب النفسية التي اثبتت الماكينة الإعلامية لـ «الدولة الاسلامية» براعتها فـي تسخيرها فـي المعركة الحالية.
لكن مجرّد تلويح البغدادي بـ «تمدد الدولة» الى شبه جزيرة العرب وروما، وإن اقتصر الامر على مجرّد التهويل الكلامي، يعيد الى الاذهان ما حدث فـي شمال العراق فـي مطلع آب المنصرم، حيث ان «التمدد» الى ما بعد الخطوط الحمر الجغرافـية والسياسية التي رسمها الغربيون، والاميركيون تحديداً، فـي المنطقة العربية، عبر اقتراب «الجهاديين» من اقليم كردستان، كان نقطة التحوّل التي فرضت على ادارة الرئيس باراك اوباما تجنيد دول العالم فـي حملة عسكرية فرضت على التنظيم المتشدد التراجع الى خلف تلك الخطوط.
وإذا كان مجرّد الاقتراب من خط اربيل قد جرّ حملة جوية مكثفة على «الدولة الإسلامية»، فإنّ تحديد البغدادي السعودية وروما هدفاً لدولته المزعومة يعكس خياراً انتحارياً لا يسلكه سوى طرف ربما بدأ يفقد السيطرة على الموقف، كما كانت الحال مع «كاميكازيي» اليابان فـي مرحلة الهزيمة خلال الحرب العالمية الثانية.
ولعلّ ما يعزز هذا الانطباع التطوّرات التي اعقبت بث رسالة البغدادي الصوتية، والمتمثلة خصوصاً فـي استعادة «داعش» شعار «بالذبح جئناكم»، والذي تبدى من خلال ذبح الاميركي بيتر (عبد الرحمن) كاسيغ، وعشرات الجنود السوريين، والتهديد بذبح الجنود اللبنانيين الذين وقعوا فـي الأسر خلال معركة عرسال.
ولا يمكن الفصل بين رسالة «التمدد» للخليفة البغدادي، وبين الشريط المصوّر التي تضمن ذبح كاسيغ، وخصوصاً الخريطة التي برزت فـي الشريط الاخير، والتي تظهر توسع «الدولة الإسلامية» فـي الشرق الاوسط، وسعي التنظيم المتشدد الى توسيع نفوذه على كل العالم، علاوة على ان وجوه الذين نفذوا عمليات الإعدام كانت مكشوفة، وتظهر بوضوح أنهم من جنسيات غربية مختلفة، فـي مسعى لإظهار التركيبة «الاممية» لـ «داعش».
واذ يفسر بعض المراقبين، ولا سيما المختصين فـي شؤون الحركات الجهادية، رسالة البغدادي اولاً، وبعدها الفـيلم الهوليوودي لإعدام كاسيغ والجنود السوريين، بأنه انعكاس لمرحلة «اليأس» التي يواجهها «داعش»، عقب التراجعات التي تعرّض لها التنظيم المتشدد مؤخراً، بعد بلوغه مرحلة الذروة، غداة «غزوة الموصل»، فإن آخرين يشككون فـي ان يكون الامر مقتصراً على مجرّد سلوك انتحاري ومراهقة «جهادية»، خصوصاً ان مسار الاحداث خلال العامين المنصرمين يوحي بأن «الدولة الإسلامية» ليس مجرّد تنظيم أناركي «جهادي»، بل منظومة محترفة، تقترب فـي قدراتها من المنظومة الدولتية.
ولعلّ ذلك يفتح المجال امام مقاربة أخرى للأهداف التي توخاها «داعش» من خلال الرسالتين:
الهدف الاول، هو استنهاض الآلة الدعائية بغرض استعادة السيطرة فـي الحرب النفسية التي شهدت انتكاسات واضحة للتنظيم المتشدد منذ عجزه عن اقتحام عين العرب (كوباني) برغم ضراوة المعارك المستمرة منذ اكثر من شهرين، وتراجعه فـي اماكن عدّة امام وحدات عسكرية محلية متواضعة نسبياً ، إذا ما قيست باساطيل المقاتلات التي تحوم فـي سماء سوريا والعراق، كما هي الحال بالنسبة إلى وحدات الجيش السوري فـي جبل الشاعر ووحدات الجيش اللبناني فـي طرابلس وعكار.
وكان واضحاً منذ البداية، كما سلف، فـي ان حالة الذعر التي تمكن «داعش» من بثها فـي النفوس مثلت سلاحاً ماضياً فـي كافة «غزواته».
ولعل ما يؤكد سعي «داعش» لتحقيق هذا الهدف هو الوحشية المثيرة للانتباه التي حرص التنظيم المتشدد على اظهارها فـي رسائل الذبح.
أما الهدف الثاني، فميداني بامتياز، اذ يبدو
واضحاً ان الضربات الجوية التي تنفذها مقاتلات «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة باتت تشكل عبئاً على التنظيم المتشدد، الذي لا يملك من حل لاستعادة السيطرة ميدانياً سوى استدراج الاميركيين الى مواجهة برّية مباشرة، من خلال خرق الخطط الحمر، محلياً واقليمياً ودولياً، وهي مواجهة لا شك فـي ان «الدولة الاسلامية» يمتلك فـيها ما يكفـي من ادوات لإيلام الاميركيين، الذين ما زال مشهد نعوش جنوده القتلى فـي العراق مستقراً فـي ذاكرتهم.
ماذا بقي لدى «داعش» من رهائن؟
بعد ذبح بيتر كاسيغ، الذي كرس حياته القصيرة لمساعدة ضحايا الحرب، لم يبق بيد «داعش» من أوراق للضغط على الغربيين سوى امرأة واحدة لم يكشف التنظيم عنها كعادته فـي التهديد، ولا تريد عائلتها ان يكشف عن اسمها. ولكن وسائل اعلام غربية تتحدث عن امرأة فـي اواسط العشرينات من العمر، تم اختطافها عندما كانت تقوم بمساعدة ضحايا الحرب الاهلية فـي سوريا، واندفعت لمساعدة السوريين خاصة أيتام الحرب ومن انفصلوا عن عائلاتهم. وتم اختطاف هذه المرأة فـي آب العام 2013 مع مجموعة من عمال الإغاثة الذين أفرج التنظيم عنهم.
ويرجح ان المسؤولين الأميركيين وعائلة الرهينة يفضلون عدم الكشف عن اسمها حتى لا يؤدي هذا لتعريض حياتها للخطر. ورغم هذا فظروف اعتقالها معروفة لدى المؤسسات الإعلامية منذ عام.
الدينار «الداعشي»!
فـي إطار المساعي التي يبذلها لجعل «دولته» حقيقة واقعية، وايصال رسالة بأنها «باقية وتتمدد»، لا يوفر «الخليفة» ابو بكر البغدادي جهداً لتقديم تنظيمه، الذي بات يسيطر على مساحات بعشرات آلاف الكيلومترات، باعتباه دولة قابلة للحياة!
وبعد انشاءِ نظام مدارسَ خاصة وقواتٍ للشرطة (الحسبة) فـي المناطق التي يسيطر عليها، علاوة على توفـيره خدمات ومساعدات للمواطنين، مثل المجال الصحي وتقديم مساعدة مالية لأسر مقاتلي التنظيم الذين يعتقلون أو يقتلون خلال المعارك، اعلن تنظيم «الدولة الاسلامية» عن صكِ عملة خاصة فـي تلك المناطق.
وللتأكيد على جدية الموضوع، نشر «داعش» صوراً لنماذج من العملاتِ المعدنية التي ستتضمنُ
سبعَ مسكوكات من الذهب والفضةِ والنحاس وبفئاتٍ مختلفة، وقد طبعت على احدِ وجهيها عبارتا «الدولة لاسلامية» و«خلافة على منهاج النبوة»، وحدد وزنها وقيمتها.
اما على وجهها الثاني، فتنوعت الرموزُ المستخدمة ما بين سنابل، وخريطةِ العالم ورمح ودرع ومنارةِ دمشق البيضاء والمسجد الاقصى وهلال وثلاث نخلات.
واوضح التنظيم اسباب استخدام كلِّ هذه الرموز، فالسنابل ترمز الى «بركة الانفاق»، «ومنارة دمشق هي مهبط لمسيح عليه السلام وارض الملاحم»… الخ.
ويؤكد «داعش» ان الهدف من صك عملته هو تحريرُ المسلمين من «النظام الشيطاني القائم على الربا».
ومعروف ان «داعش»، وعلى عكس تنظيم «القاعدة» الذي يتلقى تمويلا من الخارج، لديه تمويل ذاتي فـي الأساس، يأتي من عائدات النفط فـي الحقول الخاضعة لسيطرته، ومبالغ الفدية، والضرائب، والتحف المسروقة، والاتجار بالبشر… الخ.
واذا كان من الصعوبة بمكان دخول نقود «داعش» فـي لانظام المالي فـي لحظة معينة، ما يعني ان الخطوة المالية هذه لا تندرج سوى فـي إطار البروباغندا، إلا ان ذلك لا ينفـي فرضية ان يكون التنظيم المتشدد ساعياً الى الترويج لتلك العملة، واستخدامها سواء محلياً او عبر مصارف خليجية، خصوصاً بعد الصعوبات التي واجهها غداة قرار مجلس الامن الدولي بوقف التمويل وتدفق «الجهاديين».
Leave a Reply