بيروت - عماد مرمل
كسرت حملة المحافظة على سلامة الغذاء التي أطلقها وزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور الكثير من المحرمات والخطوط الحمر التي كانت تزنر العديد من القطاعات الحيوية المتصلة بصحة المواطن، وتمنع الاقتراب من بؤر الفساد وأمرائها.
وشكلت هذه الحملة غير المسبوقة فـي لبنان صدمة حقيقية، خصوصا لأصحاب بعض «المحميات» من المؤسسات الغذائية الكبرى(مطاعم ومحال سوبرماركت ومسالخ..) التي كانت تظن انها خارج المساءلة والمحاسبة، مفترضة ان اسماءها التجارية الكبرى كفـيلة بتأمين الحصانة الضرروية لها.(علما ان الموجة جرفت فـي طريقها أيضا مراكز تجميل تسببت بتشويه بعض زبائنها!)
إقفال مسلخ بيروت الذي ينتج نحو 8% من إجمالي الاستهلاك المحلي من اللحوم |
كما ان الصدمة طالت المواطنين الذين فوجئوا بان مؤسسات شهيرة، مصنفة فـي خانة الدرجة الاولى، ضُبطت متلبسة بجرم بيع سلع ملوثة تهدد الصحة العامة، الامر الذي أدى الى اهتزاز الثقة فـيها، برغم ان بعضها حاول الاحتماء بمظلات طائفـية او مذهبية او مناطقية او سياسية، لاستدرار العطف والإيحاء بان هناك استهداف مقصود لفئات محددة.
ويُسجل لوزير الصحة انه استطاع اقتحام المساحات المحرّمة، وفضح بالاسم هويات المتلاعبين بالسلامة الغذائية، والذين تبين انهم يتوزعون على العديد من المحافظات، بحيث تأكد ان الفساد عابر للمناطق، وان المتورطين به يشكلون شبكة مصالح مشتركة، أيا تكن هوياتهم الشخصية.
وامام قسوة الحملة التي شنها ابو فاعور، حاول المتضررون منها وقفها، أو على الاقل الحد منها، عبر ممارسة ضغوط هائلة على الوزير لثنيه عن المضي فـي معركته، واتهامه بالاساءة الى الاقتصاد والسياحة والإضرار بسمعة لبنان تحت وطأة التشهير بعدد من أهم مؤسساته، بينما يؤكد المتحمسون لاندفاعة وزير الصحة ان تدابيره الصارمة تخدم الاقتصاد والسياحة لانها تثبت للخارج ان هناك شفافـية فـي التعامل مع الاخطاء، لتصحيحها والحؤول دون تكرارها، ما يعزز الثقة فـي المطاعم والمنتوجات اللبنانية ويزيد من قدرتها على الجذب والاستقطاب.
والمفارقة ان الرفض لسلوك وزير الصحة لم يأت فقط من أصحاب القطاعات المتضررة، وإنما أيضا من بعض الوزراء الذين انتقدوا فـي البداية أسلوب زميلهم فـي مواجهة التلوث الغذائي، معتبرين انه أخطأ فـي اتخاذ عقويات قاسية بحق المخالفـين وفـي اعتماد سياسة التشهير، بل ان هناك من طرح علامات استفهام حول طريقة أخذ العينات وإجراء الفحوص، قبل ان يبدأ هؤلاء لاحقا بإعادة النظر فـي موقفهم، بعدما راحت كرة الثلج تكبر شيئا فشيئا وتتدحرج بقوة، الى حد انه لم يعد بالامكان التصدي لها، لاسيما مع تكشف المزيد من حالات الفساد الفاقع.
وبدا واضحا ان الحرب المعلنة على التلوث الغذائي فرضت إيقاعها على الحكومة التي تولى رئيسها تمام سلام لجم المناكفات بين الوزراء المعنيين بهذا الملف، ونجح فـي دفعهم الى التنسيق فـي ما بينهم. كما ان الوزراء المعترضين راحوا ينخرطون تباعا فـي الحملة، الى درجة ان وزير الاقتصاد آلان حكيم والذي كان من أشد الرافضين لـ «سياسة التشهير» تولى بنفسه فضح أسماء عدد من معامل اللبنة التي ثبت عدم مطابقة منتوجاتها للمواصفات الصحية، واتخذ قرارا بإقفالها الى حين تسوية أوضاعها.
وكان من شأن خطورة المعطيات المعلنة والتي كشفت عن حجم استباحة الامن الغذائي للمواطن اللبناني، ان حرّكت مجلس النواب وألزمته بإعادة البحث فـي قانون سلامة الغذاء، بعد سنوات من «الإقامة الجبرية» فـي الأدراج، بفعل الخلاف على مضمونه، خصوصا لجهة كيفـية توزيع الصلاحيات والمهام، فـي ظل تجاذب حوله لا يخلو من البعد الطائفـي.
وامام دقة هذه القضية، تبدو السلطة التشريعية الممدد لها، امام اختبار حقيقي لمدى جديتها ومصداقيتها فـي تحمل مسؤولياتها حتى النهاية، وبالتالي فان نجاحها او اخفاقها فـي هذا الاختبار يتوقف على ما إذا كانت ستهمل ام ستقر بالسرعة المطلوبة قانون سلامة الغذاء الذي يشكل الإطار المنظم لكل نواحي هذا الملف، من مواصفات الانتاج ومعايير السلامة وآليات الرقابة وسقوف العقاب.
ومن دون وضع السياسات والتشريعات اللازمة لمكافحة الفساد الغذائي، فان أي خطوة إصلاحية تبقى فردية وموضعية، ومرتبطة بحسابات واعتبارات هذا الوزير او ذاك، فـي حين ان المطلوب تثبيت قواعد قاطعة وواضحة للمحافظة على الامن الغذائي، لا تتبدل مع تبدل الوزراء، بل تكون ملزمة للدولة بمجملها، فـي إطار عمل منهجي يتجاوز الاشخاص الى المؤسسات.
وليس خافـيا ان الوزير وائل أبو فاعور استند فـي معركته بالدرجة الاولى الى «حماية سياسية» مباشرة من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، بل ان وزير الصحة كان صريحا فـي قوله بانه لولا مظلة جنبلاط لـ «كانوا قد فرموني»، بينما يُفترض، لو ان الامور سوّية، ان تكون الدولة هي المرجعية الوحيدة التي تؤمن التغطية لأحد وزرائها فـي مواجهة الفساد، وليس هذا الزعيم او ذاك.
وتجدر الإشارة الى ان الحصانة الجنبلاطية التي حظي بها ابو فاعور فـي حملته، دفعت بعض المراقبين الى طرح تساؤلات حول «سر» هذه المعركة التي قرر جنبلاط تغطيتها، فـي هذ التوقيت بالذات. وذهب البعض الى اعتبار هذه الحملة بمثابة قنبلة دخانية متعمدة، للتمويه على التمديد الاخير لمجلس النواب، وصرف الانظار عنه، بفعل عدم شعبيته.
كما ان بعض خصوم جنبلاط رأوا فـي تصديه للفساد الغذائي نقطة ضعف للحملة، مشيرين الى انه ليس
مرجعية مناسبة لاي معركة إصلاحية من هذا النوع، كونه من المتهمين بتحمل المسؤولية عن مكامن الفساد والخلل فـي العديد من القضايا، او بتأمين الحماية لبعض المتورطين والمرتكبين.
ويلفت أصحاب هذا الرأي الانتباه الى حجم الفساد المشكو منه أكبر بكثير من اختراله بالمجال الغذائي، مشيرين الى انه ينخر بنية الدولة كلها، على جميع المستويات، بدءا من الطبقة السياسية وصولا الى الادارة، وإذا كانت هناك من نية حقيقية لمكافحة هذا الفساد، فان الحرب عليه يجب ان تكون شاملة، ويجب ان تبدأ من الرؤوس الكبيرة والجذور الضاربة فـي عمق تربة الدولة، بحيث تمتد المعالجة الى الاسباب ولا تتوقف فقط عند النتائج.
فـي المقابل، هناك من يعتبر انه لا بد من بداية إصلاحية من مكان ما، ولا بأس فـي الاستفادة من الصحوة الجنبلاطية فـي هذا السياق، أيا تكن الحسابات المضمرة للزعيم الدرزي، ما دام ان النتيجة تصب فـي خانة
ضرب بعض أوكار الفساد وتحصين صحة المواطن وسلامة الغذاء.
Leave a Reply