بيروت – كمال ذبيان
منذ تكوين لبنان عام 1920 كجمهورية أولى فـي ظل الاستعمار الفرنسي، ثم نشوء الثنانية فـي العام 1943 بعد نيله استقلاله وتحرير دستوره من الوجود الفرنسي السياسي ثم العسكري، ومع قيام الجمهورية الثالثة بعد اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً برعاية عربية ودولية وتكليف سوريا بتطبيقه كدولة لها وجودها العسكري والأمني لوقف الإقتتال بين اللبنانيين، فإن تكوين السلطة شكّل نقطة الخلاف الأساسية منذ نحو قرن، وأن الربع القرن الأخير الذي وُلد فـيه اتفاق الطائف فـي العام 1989 لم يصدر قانون انتخاب يؤمّن صحة التمثيل، وقد نصّ الإتفاق ضمن إصلاح النظام السياسي، على قانون إنتخاب خارج القيد الطائفـي، يؤسس لإنشاء مجلس شيوخ تتمثّل فـيه الطوائف والمذاهب وتعهد إليه صلاحيات محددة، على أن يكون مجلس النواب بعيداً عن التمثيل الطائفـي والمذهبي ويُدخل لبنان فـي عصر إلغاء الطائفـية السياسية والمجتمعية.
هذا القانون الإصلاحي والأساسي فـي تطبيق إتفاق الطائف، تمّ الإبتعاد عنه، لا بل الإنقلاب عليه، وكان يجري إعداده لصالح زعماء طوائف ومذاهب وإقطاعات سياسية ومالية، منذ صدور أول قانون انتخاب بعد الطائف عام 1992، والذي نصّ على أنه أول إنتخابات تجري على أساس طائفـي وتعتمد المحافظة فـيه، ليتم فـي الدورات التالية اعتماد قانون خارج القيد الطائفـي، فما جرى فـي أول دورة بعد توقف الحرب الأهلية، أن القانون فصّل على قياس النائب وليد جنبلاط وقد بُترت منه محافظة جبل لبنان وأبقي قانون الستين نافذاً فـيها والذي يقوم على توزيعها الى أقضية فـي حين طبقت المحافظة على جميع الدوائر الإنتخابية، عملاً بما ورد فـي إتفاق الطائف، كمرحلة إصلاحية أولى على طرق تمدين قانون الإنتخاب واخراجه من الطائفـية.
فخلال ربع قرن عرف لبنان قوانين إنتخابية عديدة، حيث كانت لكل دورة إنتخابات قانونها بما يتلاءم مع مصالح الطبقة السياسية الحاكمة التي كانت فـي أغلبيتها تدور فـي فلك النظام السوري الذي كان يفرض قوانين إنتخاب لصالح مَن يتربعون على السلطة، فكان قانون المحافظات ، ثمّ تقسيم المحافظات الى دوائر إنتخابية كان يجري تفصيلها جغرافـياً وفق أكثرية ديمغرافـية تنتمي الى هذه الطائفة أو تلك، كما أن قانون العام 2000 الذي سُمي بإسم قانون اللواء غازي كنعان رئيس جهاز الأمن والاستطلاع فـي القوات السورية فـي لبنان، صدر لصالح الرئيس رفـيق الحريري فـي بيروت، وأسقط فـيه لائحة الرئيس سليم الحص وكان رئيساً للحكومة، ليعود الحريري بكتلة نيابية كبيرة، إذ كان كنعان يمسك بالملف اللبناني وله الكلمة الفصل فـيه مع عبدالحليم خدام نائب رئيس الجمهورية السورية السابق واللواء المرحوم حكمت الشهابي رئيس الأركان فـي الجيش السوري.
وجرت محاولة لتغيير القانون بإتجاه اعتماد قانون الستين، والعودة الى القضاء كدائرة إنتخابية، وقد ظنّ المسيحيون وفـي مقدمهم بكركي أن هذا القانون يعيد التمثيل الحقيقي للمسيحيين، وطُرح فـي حكومة الرئيس عمر كرامي مطلع عام 2005، وسوّقه وزير الداخلية آنذاك سليمان فرنجية إرضاءً للبطريرك الماروني نصرالله صفـير، لكنه لم يصدر بسبب اغتيال الرئيس رفـيق الحريري واستقالة حكومة كرامي وانسحاب القوات السورية، واستعجال الرئيس الأميركي جورج بوش إجراء الإنتخابات النيابية فـي أيار عام 2005، للتأكيد على مشروعه للشرق الأوسط الذي يعتمد على تعميم الديمقراطية، ولو على قانون إنتخاب صُنع أثناء الوجود السوري، واعترض عليه صفـير وقيادات مسيحية ومنها العماد ميشال عون، إلا أن الإدارة الأميركية أصرّت على حصول الاستحقاق الإنتخابي، وتمّ تمريره بقيام «تحالف رباعي» تألف من «حزب الله» وحركة «أمل» والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار «المستقبل» بإتفاق فرنسي – إيراني ومباركة أميركية وتأييد سعودي، وكان الهدف منع وقوع فتنة سنّيّة – شيعية، أو تأخيرها، لأن المصلحة الدولية والإقليمية كانت أن لا تنفجر الساحة اللبنانية بعد انسحاب القوات السورية منه، و أن الأمن والاستقرار يؤمنان دونها.
وما لم يحصل عليه المسيحيون العام 2005، ربحوه العام 2008، فـي الدوحة التي ذهب إليها السياسيون اللبنانيون بعد أزمات سياسية ودستورية نشأت عن إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للتحقيق فـي اغتيال الرئيس الحريري، ثم الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006 والتي كشفت أن فريق 14 آذار تواطأ مع الأميركيين لنزع سلاح المقاومة، وهذا ما فجّر حكومة الرئيس فؤاد السنيورة باستقالة وزراء الشيعة منها «أمل» و«حزب الله»، ليدخل لبنان فـي صراع دموي استظله اعتصام لقوى 8 آذار فـي ساحة رياض الصلح بوسط بيروت، واندلاع معارك عسكرية فـي بعض أحياء بيروت ومناطق فـي البقاع والشمال، توّجت بأحداث 7 أيار 2008، والتي أدّت الى تدخل قطر بوساطة نتج عنها إتفاق الدوحة الذي نص على ملء الشغور فـي رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، بإنتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً، وتشكيل حكومة وحدة وطنية للمعارضة فـي 8 آذار فـيها الثلث الضامن أو المعطّل، وسن قانون انتخاب بالعودة الى قانون الستين الذي جرت إنتخابات 2009 على أساسه، وكانت النتائج مخيبة للمسيحيين الذين لم ينتبهوا إلى أن عددهم تناقص وباتوا يشكلون 27% من نسبة السكان اللبنانيين، وإن أصوات المسلمين فـي المناطق المختلطة هي التي تنتخب نوابهم، فقرروا أن يتراجعوا عن هذا القانون الذي كان يصلح قبل أكثر من نصف قرن عندما كان تعداد المسيحيين يساوي أكثر من النصف، فبدأوا البحث عن قانون يؤمن لهم المناصفة الفعلية التي نصّ عليها الدستور، فلم يحصلوا عليها سوى بإقتراح أو مشروع ابتدعه النائب السابق إيلي الفرزلي، وهو أن تنتخب كل طائفة ومذهب ممثليهما وطرحه على «اللقاء الأرثوذكسي» الذي أسسه ليأخذ اسمه، وتتبناه بكركي والقادة الموارنة الأربعة الذين اجتمعوا للمرة الأولى فـي ظلها وبرعاية البطريرك الجديد المنتخب بشارة بطرس الراعي وهم: أمين الجميّل، ميشال عون، سليمان فرنجية، وسمير جعجع، وتقرّر أن تتقدم الكتل النيابية لهؤلاء باقتراح قانون مستند الى مشروع «اللقاء الأرثوذكسي»، وبوشر بدراسته فـي اللجان النيابية المشتركة بالرغم من رفض «تيار المستقبل» والنائب جنبلاط له، فتمّ إجهاضه بعد ان تراجعت «القوات اللبنانية» عن تأييدها له، وذهبت الى اقتراح قانون مع «المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» يعتمد على القانون المختلط بين النسبي والأكثري، وحصل الخلاف حول توزيع الدوائر وعلى نسبية التوزيع على النواب، إذ اقترحت القوات 68 نائباً على الأكثري و60 على النسبي، فـي حين اقترح الاشتراكي 46 % من النواب على الأكثري و44 % منهم على النسبي، ليتقدم النائب علي بزي باسم «كتلة التحرير والتنمية» باقتراح قانون يقوم على المناصفة بين الأكثري والنسبي أي 64 نائباً على الأكثري و64 على النسبي، وهو الإقتراح الذي بوشر بدراسته بعد التمديد الثاني لمجلس النواب، إذ مضى التمديد الأول دون أن يدعى النواب للبحث فـي قانون إنتخاب كان ذريعة ليحصل التمديد الأول، وقد استشعر الرئيس نبيه برّي ذلك، وقرّر أن يكون أول عمل تشريعي يُقدم عليه هو البحث بقانون انتخاب إرضاءً على الأقل للقوى السياسية وهيئات المجتمع المدني الرافضة للتمديد، بحيث أصرّ رئيس المجلس أن تتوصل اللجنة خلال شهر من بدء اجتماعاتها التي افتتحها هو لإعطائها الجدية، ولتفعيل عمل مجلس نيابي قال عنه رئيسه إنه عاطل عن العمل وغير منتج.
فقانون الانتخاب الذي تأخر إقراره منذ انتهاء إنتخابات عام 2009، وكانت المطالبة دائماً بأن يصدر قانون الإنتخاب ليس قبل شهر من موعد الإنتخابات بل قبل سنة أو أكثر منها ليتسنى للمرشحين إدارة معركتهم الإنتخابية.
فهل يصدر قانون إنتخاب جديد قبل أن تنتهي مدة المجلس النيابي والمقررة فـي حزيران عام 2017؟
لا يبدو أن الأجواء التي ترافق جلسات واجتماعات اللجنة السباعية النيابية أنها ستتوصل الى إتفاق وهي مكوّنة من الكتل النيابية الأساسية، لأن كل طرف سياسي وحزبي وطائفـي مازال يقيس كل قانون وفق مصالحه السياسية والطائفـية، وما يؤمنه له من كتلة نيابية، لذلك تدور الخلافات حول توزيع الدوائر وعدد النواب على النسبي والأكثري، إذ أن هذا الموضوع بحاجة الى خبراء تقنيين فـي احتساب ذلك.
والإيجابية التي برزت مع مناقشة اقتراحات قانون الإنتخاب، أن اعتماد النسبية بدأ يتقدّم الى جانب النظام الاكثري التي ثبت أن اعتماده ليس سليماً فـي تأمين التمثيل، إذ يتم إقصاء شرائح واسعة عن مجلس النواب وهي لها حضورها الشعبي، حيث اندثر اعتماد النظام الأكثري فـي العديد من الدول لصالح النظام النسبي وهو أكثر عدلاً، لأنه يعطي كل حزب و تيار وتجمع حجمه الإنتخابي وفق قوته الشعبية.
فقانون الإنتخاب هو محك إصلاح النظام السياسي، ومن دون الوصول إليه على أنه يؤمن صحة التمثيل، فلا حاجة الى تكوين السلطة وتداولها، وأن القانون الأنسب الذي يمكن أن يقضي على الولاءات المناطقية والعشائرية والعائلية والطائفـية والمذهبية، ويقلل من نفوذ المال، ويقدم المرشح الوطني صاحب البرنامج، هو قانون يعتمد لبنان دائرة إنتخابية واحدة عماده النسبية، بحيث يصبح التنافس بين أحزاب وتيارات تنشأ على مستوى كل الوطن، ولبنان فـي مساحته الجغرافـية، هو صغير جداً أمام دول تعتمد الدوائر الكبرى.
فالقانون المختلط والمستند الى ما سمّي بـ «قانون فؤاد بطرس» الذي اعتمد طابقين لقانون الإنتخاب الأول على أساس القضاء والثاني لبنان دائرة واحدة، هو من الإقتراحات المتداولة، وقد أخذه البعض الى مكان آخر، فأسقط منه الدائرة الكبرى ليحوله الى الصغرى أي القضاء، وهو يشكّل خللاً فـي التوزيع.
وكل نقاش حول قانون إنتخاب يدور على أساس طائفـي ومناطقي وفئوي يبقي الأزمة الطائفـية قائمة، ولا خروج منها إلا بقانون خارج القيد الطائفـي.
Leave a Reply