فـي ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١ ثارت مصر وانتفض شعبها ضد الطغيان. وفـي تلك الفترة المشهودة قتلت قوات الأمن المصرية تحت أنظار وبلطجية النظام البائد رمياً بالرصاص الحي أكثر من ٨٠٠ من المتظاهرين السلميين خلال الانتفاضة التي استمرت ١٧يوماً تاريخياً أدت إلى سقوط حسني مبارك، الدكتاتور الذي حكم البلاد لمدة ٣٠ عاماً.
لكن فـي الأسبوع الماضي، بُرِّىء مبارك وسبعة من قادة الأمن التابعين لنظامه، بمن فـي ذلك وزير الداخلية السابق حبيب العادلي، من تهمة قتل المتظاهرين. وكانت الشرطة والبلطجية من المدنيين التابعين لها والتي كانت توجهها حكومة مبارك، هي فـي الغالب وراء عمليات القتل والإجرام. غير أن الدكتاتور السابق ومساعديه لم تجدهم العدالة الجهيضة المنحازة مسؤولين عن جرائم القتل هذه!
إنَّ تبرئة ساحة حسني مبارك غير عادلة وهي نذير شؤم تنبئ بالعودة المريعة الى زمن عدم المساءلة والمحاسبة فـي مصر المحروسة.
لم يكتف القانون المصري بمسح اتهامات القتل والفساد الموجهة للدكتاتور السابق، بل وضعه على سكة الافراج المشرِّف عنه من معتقله الفاخر فـي مستشفى عسكري وتبرئته من جميع المخالفات والارتكابات الشنيعة خلال حكمه، والتي تركت الشعب المصري يغرق فـي بحر الفقر المدقع والضعف والإنقسام.
منذ بزوغ فجر الحضارة كانت مصر رائدة فـي مجال التعليم والفن والهندسة المعمارية. وفـي العصر الحالي، خصوصاً فـي فترة الستينات، كانت مصر الرائدة فـي العالم العربي إعلامياً وثقافـياً وسياسياً وفنياً. مصر، هذه الدولة العربية الواقعة شمال شرق القارة السوداء، أنجبت الزعيم الخالد جمال عبد الناصر ودعمت الشعب الفلسطيني وثورته وثورتي الجزائر واليمن وقدمت التضحيات الجمَّة فـي سبيل القضايا العربية العادلة. كانت مصر تتمتع باقتصاد ٍمكتفٍ ذاتياً، أنتجت فأبدعت فـي الفن والموسيقى والسينما والأدب وأصبحت ضمير العرب ومصدر إلهامهم وقائدة دول عدم الانحياز والعالم الثالث، فاحتلت المراكز المرموقة بين الأمم.
ولكن فـي ظل حكم مبارك وقيادة سلفه أنور السادات، تحوَّلت أم الدنيا إلى شبحٍ، وفقدت بريقها ومكانتها كأم للعرب ورائدتهم كما خسرت موقعها فـي العالم.
ويقال أنَّ القاهرة كانت العاصمة الرئيسية الوحيدة فـي العالم التي لم تشهد صعود ناطحات السحاب على مدى السنوات الثلاثين الماضية، بينما تحولت المشيخات والإمارات الصغيرة فـي الصحراء الى غابة لناطحات السحاب. واستفحلت الأمية فأصبح أكثر من ربع المصريين لا يجيدون القراءة أو الكتابة، وفقاً لكتاب حقائق العالم الصادر عن الـ«سي اي أي». وفـي حين أن نظام مبارك كان يبيع الغاز الطبيعي المصري إلى إسرائيل بسعر أقل من تكلفة استخراجه، يعيش أكثر من ربع المصريين تحت خط الفقر. ومن عام ٢٠٠٦ إلى عام ٢٠١١ أغلق مبارك المعابر كلها المؤدية إلى قطاع غزة، وتعاون بشكلٍ وثيق مع الحكومة الإسرائيلية لوضع ١,٦ مليون فلسطيني فـي سجنٍ كبير وتحت حصار غذائي ظالم كان على وشك أنْ يؤدي إلى مجاعة.
لكن رغم كل هذا لم يُعاقب مبارك على أفعاله والأضرار التي ألحقها بمصر والعالم العربي وشمال افريقيا. وسيطلق سراح الديكتاتور ويصبح حراً طليقاً بينما الجيش الذي كان بأمرته ذات يوم يحكم البلاد ويتحكم برقاب العباد من دون رقيب ولا حسيب.
لقد تبيَّن أنَّ الإنقلاب الذي أطاح بالرئيس المُنتخب محمد مرسي فـي العام الماضي، كان لإعادة النظام الذي سبق ثورة ٢٠١١ ولكن فـي ديباجة جديدة تستخف بعقول الناس وتهزأ بتضحياتها. ولم تكن قط استجابةً للمطالب المشروعة للمحتجين المناهضين لجماعة «الإخوان المسلمين» الذين فاضت بهم ميادين مصر وطرقاتها. والملفت مسارعة دول الخليج، بما فـي ذلك المملكة العربية السعودية، لمنح المليارات من الدولارات للجيش المصري مكافأة لإسقاطه حكم مرسي.
إنها ثورة مضادة بإمتياز، بتمويلٍ سعودي ومباركة أميركية، سرقت أحلام الجماهير المصرية فـي العيش الكريم والديمقراطية الموعودة.
أما القضاء المصري فبات مجرد هيئة تابعة لألوية الجيش المصري المطوع اميركياً. فمنذ إسقاط مرسي، والجيش المصري يستخدم النظام القضائي لتحقيق خارطة طريق للاستيلاء الكامل على البلد وإحكام القبضة على الحكم. القضاة المصريون تابعون بالكامل لسياسات سلطة الإنقلاب المضاد، فحكموا بالموت على المئات من أنصار جماعة «الإخوان المسلمين»، ولم يوفِّروا الناشطين المؤيدين للديمقراطية كما أرسلوا العديد من الصحفـيين ورموز ثورة ٢٠١١ إلى ما وراء القضبان.
إن تبرئة مبارك ومعاونيه هو تحذيرلنشطاء ثورة يناير او ما تبقى منهم فـي ساحات وميادين مصر، بأن اللعبة قد انتهت وانه عود على بدء. فمنذ أن تم التخلص من مبارك ونظامه المقيت تحول الى شخصية مخفـية كالشبح بعد ان تراخت قبضته الحديدية على السلطة، فأصبح غير ذي شأن سياسيا يفتقدلدعم شعبي حقيقي وازن فـي الشارع المصري. فلقد تبين ان الديكتاتور السابق شخصية مكروهة من جميع شرائح المجتمع المصري، والسلطة القضائية التي تخضع لأوامر وتوجيهات الجيش لم تسترضِ أحداً بإسقاط التهم الموجهة إليه.
غير أنَّ ما حققه النظام المصري السيسي الجديد من خلال إعلان براءة مبارك وأصدقائه المجرمين هو الإثبات لمعارضيه المحليين والدوليين فـي أنه يمسك بزمام الأمور ويستطيع ان يفعل ما يشاء، ولا يهم إذا كان ذلك يحظى بشعبية أو يخالف المنطق والقانون. انه تعبير صارخ عن الغطرسة والصلف واللامبالاة الجديدة.
الرئيس عبد الفتاح السيسي ومعاونوه يتخذون خطوات مدروسة بدقة لترسيخ حكمه من خلال سجن المعارضين وتشويه صورة الخصوم ووصفهم بالارهابيين وقتل متظاهرين وفرض رقابة على المعارضة واستخدام القضاء كأداة طيعة بيد النظام الجديد.
«نظام الانقلاب العسكري يتصرف بشكل غير متوقع مثل نظام أي إنقلاب عسكري»، كتب، محقاً، المدون اللبناني البريطاني الساخر كارل شرو فـي عنوان له تعليقاً على الحكم بتبرئة مبارك واعوانه.
ليس من المستغرب أن يتصرف النظام العسكري الجديد فـي مصر على طريقة انظمة الإنقلابات العسكرية. غير أنَّ المحير فـي الأمر والغير قابل للتفسير أن الإدارة الأميركية لا تزال تمول النظام المصري الجديد المستبد، فـي مخالفة فاضحة واضحة للقانون الأميركي الذي يحظر تقديم المساعدات الأميركية للأنظمة التي تستولي على السلطة عن طريق الإنقلابات.
Leave a Reply