بيروت – كمال ذبيان
قبل معركة عرسال فـي 2 آب الماضي، التي شنّت فـيها «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش»، هجوماً على مراكز الجيش والإستيلاء عليها، واختطاف عسكريين من مواقعهم وعناصر قوى الأمن الداخلي من المخفر، كانت «قوى إسلامية» تطالب بإطلاق سراح «موقوفـين إسلاميين» من سجن روميه اعتقلوا على خلفـية مشاركتهم فـي أحداث مخيم نهر البارد التي قاتل فـيها تنظيم «فتح الإسلام» الجيش وغدر بعناصره بقتل نحو عشرين منهم وهم نيام فـي خيمهم، إضافة الى سجناء متهمين بأعمال إرهابية بتفجير باصين للجيش، وباص مدني فـي عين علق، الى عمليات إغتيال وغيرها من جرائم القتل والسطو، طال بعضها القوات الدولية…
مدرعة للجيش في عرسال |
فمطلب إطلاق هؤلاء المجرمين، تزامن مع تهديدات باقتحام سجن روميه لإخراجهم منه، عبر تفجير سيارة عند مدخله، كما حصل فـي سجن «أبوغريب» فـي العراق واتّخذت إحتياطات أمنية لمنع حصول ذلك، ليندرج التهديد باقتحام بلدة مسيحية أو شيعية فـي البقاع والشمال، وأخذ أكبر عدد من أهاليها رهائن ليجري التبادل بهم، كما تمّ ترويج معلومات أن إحدى ثكنات الجيش ومراكزه قد يتعرّض لهجوم لأسر ضباط وجنود، ونُفّذت هذه العملية فـي عرسال وبعض جرودها، عندما قامت مجموعات مسلحة من داخل البلدة وخارجها بشن عمليات إغارة، تحت ذريعة الإفراج عن عماد جمعة الذي اوقف فـي عرسال وهو من قادة «النصرة» وبايع «داعش» فـي القلمون فـي سوريا، إلا أنه تبيّن من التحقيقات مع جمعة نفسه أن العملية العسكرية كانت معدّة قبل اعتقاله، واختير يوم 2 آب، حيث يكون الجيش احتفل بعيده فـي أول آب، فـيستغل المسلحون هذا اليوم للقيام بهجومهم، فـي ظل حالة استرخاء لدى العناصر.
نجح المسلحون فـي هجومهم المباغت، وتمكنوا من أسر نحو 37 عسكرياً، بعد خدعة نفّذها الشيخ مصطفى الحجيري بأن وضع عناصر قوى الأمن الداخلي الـ 19 فـي منزله واعتبرهم ضيوفاً عنده، ثمّ ليسلّمهم الى الإرهابيين الذين تمكّنوا أيضاً من أسر عناصر من الجيش بعد قتل ثلاثة ضباط ونحو عشرين جندياً، ليعود الجيش وينفّذ هجوماً مضاداً تمكّن خلاله من استعادة مواقعه ومراكزه، دون أن يدخل عرسال التي وتحت الضغط السياسي مُنع الجيش من أن يقوم بعملية عسكرية لتحرير الأسرى، إذ جرت عملية خداع شارك فـيها وفد من «هيئة العلماء المسلمين» برئاسة الشيخ سالم الرفاعي، الذي إتّصل برئيس الحكومة تمام سلام ووزيري الداخلية نهاد المشنوق والعدل أشرف ريفـي وآخرين عارضاً وساطته لوقف النار واستعادة العسكريين، بعد تأمين ممرات آمنة لإدخال المواد الغذائية وإخراج الجرحى والمرضى، وقد قبلت قيادة الجيش بهذا العرض لحقن الدماء وتوفـير حرب مدمرة، ولاقت أصحاب المبادرة التي اعتبرتها المؤسسة العسكرية أنها حسنة، ليتبيّن أنها تهدف الى تأمين خروج المسلحين من البلدة مع العسكريين لتتم المقايضة عليهم مع موقوفـي سجن روميه من «الإسلاميين»، وتواطأ مع الوفد الشيخ مصطفى الحجيري المعروف بـ «أبو طاقية»، فسلّم الدركيين ضيوفه الى «النصرة» و«داعش» أمام مرأى وفد «هيئة العلماء المسلمين» برئاسة الشيخ الرافعي الذي أُطلقت النار عليه من جهات مجهولة كما ذُكر، لتتوقف مهمته فـي وقت كان المسلحون قد خرجوا بالعسكريين الى جرود عرسال، وسموهم «رهائن» حتى تتم مقايضتهم بالسجناء الإسلاميين، وهو ما وضع الحكومة أولاً ثمّ المؤسسة العسكرية فـي مأزق صعب ودقيق.
فالهدف من الهجوم على عرسال كان أسر جنود لمبادلتهم، ثمّ توسيع رقعة إنتشار المسلحين بإتجاه رأس بعلبك والقاع والهرمل، والتمدد نحو عكار وجرود الضنية وصولاُ الى طرابلس لإعلان «إمارة إسلامية» لها منفذ على البحر فـي طرابلس والشمال، وتكون كل من «النصرة» و«داعش» قد ضربا عصفورين بحجر واحد، خطف جنود للمبادلة بهم بموقوفـين إسلاميين، ثمّ إنشاء «إمارة إسلامية».
فشل مشروع الإمارة، ليبقى الجنود بعهدة المسلحين، يبتزون أهاليهم عبر تصوير أفلام تظهرهم بوضع إنساني مأساوي، أو التهديد بقتلهم ذبحاً، وقتل ثلاثة عسكريين هم عباس مدلج ومحمد حمية وعلي السيد، ليلتحق علي البزال شهيداً رابعاً فـي قافلة الشهداء الذين يقتلهم الإرهابيون دون رادع من ضمير أو مانع ديني وأخلاقي، حيث أظهرت الأفلام التي بثوها عن مدى الإجرام الذي وصلوا إليه، فدبّ الرعب بأهالي الجنود، كما باللبنانيين عموماً، ووضع الحكومة فـي مأزق خطير، إذ للمرة الأولى يواجه لبنان هذه التجربة الدموية العنيفة، فلم يتم التعاطي مع مخطوفـي «أعزاز» من الحجاج اللبنانيين، ولا مع «راهبات معلولا» بمثل هذا النوع من الترهيب والتشنيع، فتمّ إطلاق سراح المخطوفـين عبر مفاوضات خاضها المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم بمهنية أمنية عالية اعتمدت السرية والإنضباط وابتعدت عن الإعلام، فكان أن نجحت عملية التبادل مع سجناء فـي سوريا التي قدّمت الدعم للبنان فـي هذه المسألة الإنسانية وبساعدة من قطر التي تدخلت فـي قضية العسكريين واوفدت مندوبا هو سوري الجنسية يدعى احمد الخطيب فلم ينجح بمهمته فاوقفت قطر الوساطة لتدخل هيئة العلماء المسامين من جديد على خط الوساطة لكنها طالبت بتكليف رسمي من الحكومة ولن تحصل عليه لتجارب سابقة معها قي اكثر من حادثة كانت نتائجها سلبية لانها لم تكن وسيطا نزيها بل منحازة للجماعات الارهابية.
وعندما وقعت عملية أسر العسكريين فـي عرسال، ارتبكت الحكومة، ودخل على خط الوساطة أكثر من طرف وشخص، محلي وخارجي لتفقد القضية مرجعيتها، كما أن الشروط التي رفعها الخاطفون بإطلاق نحو 400 سجين وموقوف، لا يمكن للحكومة القبول بها، إذ أن من بين الأسماء متهمين بالإعتداء على الجيش وقتل ضباطه وجنوده، وتنفـيذ عمليات تفجير فـي الضاحية الجنوبية والهرمل وبلدات بقاعية أخرى، وإنشاء خلايا إرهابية، وهي مطالب تعجيزية، لأنها تنطلق من واقع أن لبنان محشور لأن المسلحين يضغطون عليه فـي مكان يوجعه وهو خطف عسكريين يقوم أهاليهم وتحت ضغط وابتزاز الخاطفـين لهم فـي قطع الطرقات، وتلبية مطالبهم فـي توفـير الغذاء والماء، ووصول أدوية ونقل مرضى، وترك ممرات آمنة الى أماكن تواجدهم.
وتعاطت الحكومة مع مسألة الخطف بكثير من الضياع والإرتباك، ولأن القضية معقدة والمطالب تعجيزية، والإرهاب فوق رأس الجميع، قررت الحكومة أن تشكّل «خلية أزمة» من وزراء الداخلية والدفاع والمال والصحة والخارجية وضباط لمتابعة القضية التي شكّلت أداة ضغط ليس على الحكومة فقط بل على كل اللبنانيين الذين تعطّلت أشغالهم، وكادت تهدد السلم الأهلي لاسيما فـي البقاع الذي فـيه النسبة الأكبر من المخطوفـين من كل الطوائف والمذاهب.
ولم يكن الوسطاء الخارجيون على قدر كبير من المسؤولية، ونأت تركيا بنفسها عن الموضوع، ودخلت قطر بخجل على المفاوضات، فلم يكن لها التأثير الذي كان فـي قضيتي مخطوفـي أعزاز وراهبات معلولا، ولم يتمكّن المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم من تكوين ملف كامل عن القضية التي تمّ تضييعها عبر تعدّد الوسطاء من داخل الحكومة، وولوج أطراف سياسية لها أهداف فئوية على خط التفاوض، ليقدّم هذا الطرف أو ذاك فواتير سياسية لدى العائلات التي كان يتم إيهامها بحلول للأزمة، ليكتشفوا عن مراوحة فـي المكان نفسه، والدوران فـي حلقة مفرغة، إذ أن شرط الخاطفـين لا يمكن أن يمر فـي حكومة غير متجانسة سياسياً، وفـي غياب رئيس للجمهورية، وعبر قوانين لا يمكن تفسيرها وتنفـيذها على قياس ما يطلبه الخاطفون.
وهكذا أسر خاطفو العسكريين لبنان الذي لم يحرّك أية ورقة من أوراق القوة التي تحدّث عنها رئيس الحكومة تمام سلام، إذ كانت ورقة تضييع الوقت هي الملعوبة ليتبيّن أن الخاطفـين مستفـيدون من وجود العسكريين كدروع بشرية يحتمون بها من أية عملية عسكرية يفكّر بها الجيش لتحريرهم، وهذه خطة كانت مطروحة، ثمّ إستغلال وجودهم بأن تبقى طرق التموين سالكة إليهم.
لكن الجيش بعد قتل البزال، رأى أن المفاوضات وان كانت غير مباشرة لا تفـيد مع هؤلاء الذين لهم هدف واحد، وهو إرباك الحكومة والجيش، حتى يحين الوقت المناسب لإعادة فتح معركة عرسال – 2، وتنفـيذ ما تسعى اليه من إقامة «إمارة إسلامية» أسقطها الجيش فـي المرة الأولى وهو متأهّب لإسقاطها مرة أخرى.
فالتفاوض لإطلاق سراح العسكريين لن يوصل الى حل مع شروط الخاطفـين التعجيزية، التي تتناغم مع دعوات سياسية من شخصيات وأحزاب لبنانية، لتلبية مطالب الخاطفـين دون قيد اوشرط ، ولو بالقضاء على الدولة وقوانينها ومؤسساتها وهيبتها ووحدة اللبنانيين التي تبقى هي الأهم.
فأوراق القوة التي كان يمكن أن تلجأ إليها الحكومة ولم تفعل، هي ورقة قطع طرق الإمداد على المسلحين، وقد باشرها الجيش بعد قتل الدركي البزال، ثمّ حصار أهالي المسلحين المتواجدين فـي مخيمات نزوح السوريين فـي عرسال، وهي ورقة حاول الجيش استخدامها فمُنع، وكان يمكنها أن تشكّل أداة ضغط على المسلحين لمقايضة اهلهم بالعسكريين ، فـي وقت نجح المسلحون فـي استخدام أهالي العسكريين ورقة ضغط على الحكومة واللبنانيين لإطلاق سراح الموقوفـين.
وتبقى ورقة كل من سجى الدليمي طليقة أبوبكر البغدادي، وعللاء العقيلي زوجة أبو علي الشيشاني وأولادهم، وقد اعتقلهم الجيش الذي استفزّ البغدادي والشيشاني فتوعدا بالرد القاسي، مما يعني أنها ورقة يمكن استخدامها، لكن «هيئة العلماء المسلمين» التي تلقى رئيسها الشيخ سالم الرافعي تهديداً من الشيشاني لإطلاق سراح زوجته محملاً إياه مسؤولية وقوعها فـي قبضة مخابرات الجيش، مما يؤكّد أهمية هذا الصيد الثمين الذي يمكن التفاوض عليه، وهو ما ترفضه الهيئة التي تحاول المقايضة بهن، بوقف ذبح العسكريين، وكان البزال الضحية، حيث يخشى أن تكون الهيئة التي ابتعدت عن مهمة الوساطة مع المسلحين قد عادت لخديعة جديدة، كما حصل مع اختطاف العسكريين، وهو الأمر الذي يترك هذه المسألة المعقدة الى مرحلة يجمع فـيها لبنان كل أوراق القوة لتحرير عسكرييه وهي مبعثرة.
Leave a Reply