فـي العقد الأول من مطلع هذا القرن، بدأ المسلمون الشيعة بإحياء ذكرى عاشوراء فـي أميركا وخاصة فـي ديربورن، على نحو متزايد ومرئي فـي كل عام. ومثل كل ذكرى سابقة شهدت نهاية الأسبوع الماضي مسيرة فـي أربعينية الإمام الحسين بمشاركة الآلاف ساروا من مدرسة كربلاء على غرينفيلد الى منتزه «فورد وودز بارك» الواقع على تقاطع شارعي فورد وغرينفـيلد فـي مدينة ديربورن.
هذه المواكب والمسيرات الحسينية لا غبار ولا إعتراض عليها فـي بلادنا الأصلية خصوصاً لأن عاشوراء هي مناسبة عظيمة فـي التاريخ الإسلامي عنوانها التضحية والفداء والعدالة والإصلاح، ولا جدال بأهمية هذه الذكرى لدى المذهب الاسلامي الشيعي، بل كل العالم الإنساني الحر، لكن تقتضي المصلحة هنا أنْ نقول رأينا حول تأثير هذه المسيرات والمواكب على الوجود العربي والإسلامي فـي هذا البلد وتبعاته المستقبلية من دون ان نُفهم خطأ بأننا لا نشجع على أحياء الذكرى.
بادئ ذي بدء، نحن نربأ بأنفسنا أنْ ندَّعي بأننا نعرف عن ذكرى عاشوراء أكثر من العلماء فـي الدين والتاريخ. فنحن لسنا خبراء دين، لكن معرفتنا بعظمة الأديان السماوية، وخصوصاً الدين الإسلامي الحنيف، يجعلنا نتيقن من وجود قاعدة عقلية بسيطة تفـيد أنَّ كل ما يضر المؤمن أو بني الانسان بشكل عام يجب الإبتعاد عنه قدر المستطاع. وقد حان الوقت للحديث عن ضرر هذه المسيرات الحسينية هنا فـي هذا البلد على مسيرة العرب الأميركيين والمسلمين السياسية والاقتصادية والإجتماعية من دون تردد أو تخوين أو انفعال.
لا شك أن التعديل الأول لدستور هذه البلاد العظيمة يكفل حق المعتقد وممارسة الشعائر الدينية من دون تدخل من قبل الحكومة وتحت حمايتها، ونحن نحترم حق الناس فـي المشاركة فـي أي عمل من أعمال العبادة وطقوسها. ولكن رفاه ومصلحة المجتمع ككل هي أولوية بالنسبة لنا كصحيفة ملتزِمة.
لهذا نحن نعتقد أنه ينبغي بذل المزيد من الجهود المثمرة لشرح أهمية هذه المناسبة القيِّمة وتداعياتها التاريخية، من حيث الجوهر لا من خلال المظاهر والطقوس. وأي مظهر من المظاهر قد يثير الريبة والتساؤل والرعب من قبل أقراننا الأميركيين وغيرهم من الأقليات وبعض المسيحيين يجب الامتناع عنه إذا كنَّا غير قادرين على ازالة الإلتباس واللغط والريبة حوله. نحن فـي أميركا ولسنا فـي ساحة النبطية أو الضاحية أو فـي كربلاء أو فـي النجف أو بغداد، ولذا علينا مراعاة الأمور ومقتضيات المكان والزمان الذي نحن فـيه.
فقد يتساءل بعض هؤلاء، ومنهم أصدقاء أميركيون، وبحسن نية عن أعلَام عاشوراء السود المتجولة فـي شوارع ديربورن «هل هذه أعلام داعش؟». هذا سؤالٌ مشروع لأننا لا نتوقع أنْ يفهم الأميركي ما حصل منذ ما يقارب من ١٤٠٠ سنة فـي التاريخ بينما هو يشاهد أعلَام الإرهاب الداعشي السود واحتفالاته بالذبح البشري مباشرة على الهواء فـي نقل مباشر ومبهر. فهل قمنا بتوضيح ماهية ذكرى عاشوراء قبل انْ نلوِّح بالأعلَام وننظِّم المواكب؟!
بالطبع المناسبة تبعد عن «داعش» ملايين السنين الضوئية، لأنَّ الجماعة الإرهابية هذه لا تمتُّ بصلة للإسلام ولا لتعاليم الإمام الحسين وثورته الحضارية التي سقاها بدمه وبدماء أهل بيته وأصحابه من مسلمين وحتى مسيحيين، بينما «داعش» لا توفر حياة حتى المسلمين مهما كانت مذاهبهم، ناهيك عن الفتك بالأقليات وقتل الشيعة الذي يحيون ذكرى عاشوراء.
نحن ومعظم القراء نعرف ذلك. ولكن الأميركي العادي لا يعرف ذلك فهو لا يقرأ العربية ويعرف القليل عن الإسلام، وصورة الإسلام والمسلمين عنده فـي اسوأ حال خاصة على خلفية أحداث أيلول (سبتمبر)، وقد رأى بعينه ذبح مواطنيه الأميركيين على شاشة التلفزيون واستمع الى أراجيف القس تيري جونز وامثاله من «دواعش» المتطرفـين اليمينيين الأميركيين، بينما تلوح نفس الأعلام السود (من وجهة نظره) فـي شوارع مدينة ديربورن وتبدو متشابهة بدرجة فظيعة مع رايات المجرمين المتطرفـين فـي الخارج. بالتأكيد لن يستوعب هذا الأميركي إنسانية ورسالة الإمام الحسين. إنَّ صورة جاليتنا تتأثر بشدة من هذه الظواهر المستقدمة التي هي غريبة عن مسارنا كعرب أميركيين ومسلمين.
فتعزيز الصور النمطية الخاطئة عن أنفسنا يضر بكل جوانب حياتنا، وخاصة أعمالنا التجارية ومصادر رزقنا، وحتى أمننا وسلامتنا ومستقبل اجيالنا وسط دعوات من فلول المهووسين المتطرفـين بأن ديربورن تطبق الشريعة الإسلامية. ولا يجب ان نلوم جهل الأميركيين وهم يرون فظائع الإرهابيين والتكفـيريين بل يجب ان نلوم أنفسنا على التقصير والإلتهاء بالقشور والإنزواء والتقوقع، بدلاً من الإنخراط الإيجابي فـي المجتمع الأميركي.
علينا أنْ لا نخيف أحداً من جاليتنا او مدينتنا التي اضحت عاصمة العرب الأميركيين، تحت أي عذر، إذ يكفـينا ما فـينا من شائعات وحصارات إعلامية وأمنية وإقتصادية. فهل تساءلت المراكز والمؤسسات الإسلامية مثلاً ماذا سيحل بنا إذا قام أحد المجانين بنفس العمل الإرهابي الذي جرى فـي أُستراليا، لا سمح الله؟! إنَّ التباشير لا تنذر بالخير، فقد علمت «صدى الوطن» أن الشركات البارزة فـي الجالية آخذة فـي التراجع بدخلها وانتعاشها فـي وقت تتعافى فـيه الولاية والبلاد وتخرج ديترويت من إفلاسها كي تستعيد الصدارة فـي الإهتمام المحلي والوطني، فأين نحن من كل ذلك؟!. أو اننا تعودنا ان نسبح عكس التيَّار!.
ينبغي أن لا يرتعب أحد من ديربورن أو من سكانها، بل يجب ان يأتي الكل اليها من كل حدبٍ وصوب فـي أميركا والعالم وأن تكون قبلة التسوق والتبضع والسياحة والإطلاع على التراث السلمي والفكري الحقيقي للعرب والمسلمين والمسيحيين والكلدان وكل مكونات المجتمع. فمدينتنا سلمية وشعبنا لطيف ومسعف ومضياف وكريم. ولكن التصور والإنطباع السلبي هما الواقع لدى الناس ونحن لا نريد من مواطنينا الأميركيين ان ينظروا الينا على أننا معادين أو متطرفـين راديكاليين، بل نحن قمة الإعتدال.
نحن نعلم أن أمور العبادة ليست مكاناً للتسوية. ولكن عاشوراء، التي وقعت بعد حوالي ٥٠ سنة من وفاة النبي محمد(ص) هي إحياء للتراث الثقافـي والفكري للإمام الحسين (ع). وتختلف طريقة أحيائها بين الدول. مثلاً يختلف الأسلوب فـي كربلاء بالعراق، عن الضاحية الجنوبية فـي لبنان. وبالتالي، نحن لسنا بحاجة إلى تكرار التقاليد فـي العالم العربي، والتي يمكن أن تتضارب مع مصالحنا، ولا تصلح فـي مجتمعنا هنا.
الإمام جعفر الصادق (ع)، وهو حفـيد الإمام الحسين، يقول: « أتباعنا هم أولئك الذين يفعلون كما نفعل نحن». فدعونا نفعل كما فعل الحسين فلا نهمش قضيته بإثارة الغموض وافقاد قيمته العظيمة من أجل المظاهر، ولكي نعرب فعلاً لا قولاً عن تقديرنا لتضحيته دعونا نقف من أجل العدالة ونصرة المستضعفـين فـي كل العالم، سواء فـي غزة والموصل أو ديترويت أوفـيرغسون. ألم يقل الامام علي (ع): الناس صنفان، أما أخ لك فـي الدين أو نظير لك فـي الخلق؟
لكن فـي المقابل نجد خلال الأشهر الماضية ان نشطاء ومنظمات عديدة حقوقية وإنسانية دعت إلى المشاركة فـي تظاهرات لنصرة سكان غزة المظلومين عندما كانوا يُذبحون على يد آلة الحرب الإسرائيلية الإجرامية وإدانة الانتهاكات الإرهابية لداعش وأخواتها. لكن للأسف لم تحظ هذه الدعوات بالحد الأدنى من القبول والإقبال والإهتمام.
فقد تجمع ما يقل عن ٥٠ شخصاً فقط فـي تظاهرة التنديد بجرائم «داعش» أمام مبنى بلدية ديربورن فـي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي امام عدسات المصورين وكاميرات التلفزيونات المحلية، بينما شارك الآلاف فـي موكب الأربعين. هل هذا يدل على الإلتزام الحقيقي للإمام الحسين والتقيد بمواقفه المشرفة لنصرة المظلومين والوقوف مع الحق والعدالة والإصلاح؟
عاشوراء ليست مناسبة للإنقسام، رغم أن إحياء الذكرى يتم من قبل المسلمين الشيعة. بل هي مناسبة لجمع الشمل والتواصل مع الآخرين. لذا ان التطرف فـي ذكرى عاشوراء يبعِد السنة والمسيحيين العرب، ويمكن أن يؤدي إلى مزيد من الشرذمة فـي مجتمعاتنا نحن بغنى عنها هنا، خصوصاً وأنَّ المنطقة العربية تقع على خط نار الفتنة المذهبية الفتاكة.
الاستقطاب فـي الجالية العربية الأميركية على أسس مذهبية هو أمر خطير للغاية. فـيجب أن نعلم شبابنا بالتمسك بالوحدة الوطنية بعيداً عن الصراعات الدامية التي تعصف فـي بلادنا الأصلية فـي الشرق الأوسط. ولا يحتاج المرء الا لرؤية الأخبار الآتية يومياً من سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا لمعرفة مخاطر الطائفـية والمذهبية المقيتة.
مناسبة عاشوراء هي مناسبة عالمية رحبة فلا يجوز أنْ نقزِّمها ونقوننها فـي قوالب صغيرة. أيعقل أنْ يتمكن المهاتما غاندي مثلاً من نشر فكر الامام الحسين أكثر من هذه المظاهر التي لا تنقل إلى الآخرين حقيقة وجهنا الحضاري حين قال «لقد تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأفوز، وتعلمت منه كيف أحقِّق النصر وأنا مظلوم».
فـي ذكرى الحسين، دعونا نتقرَّب من نضاله ونوزِّع أقواله ونتبرَّع للفقراء بإسمه وننخرط فـي خدمة مجتمعنا وصلاحه حتى نكون جديرين بإحياء ذكرى تضحياته وتفانيه. هل يرضى الإمام الحسين أنْ نخلق الأذية لأنفسنا؟ وهل كان يقبل بحقيقة أنْ الآلاف الذين شاركوا فـي المسيرة لم يصوِّت ثلاثة أرباعهم فـي الإنتخابات التي يتوقف مصيرنا عليها؟!
التجوال فـي الشوارع مع الأعلام السود لن يفـيد أتباع الحسين بشيء بل ويضر بصورة جاليتنا ومدينتنا.
اللهم إننا قد بلَّغنا.
Leave a Reply