بيروت – كمال ذبيان
شهد لبنان خلال الأسبوع الماضي حركة موفدين خارجيين، أتوا إليه لإستطلاع آراء ومواقف الكتل النيابية والقوى السياسية والحزبية من الشغور الذي أصاب رئاسة الجمهورية فـيه، وإمكانية ملئه بإنتخابات تقوم على التوافق، إضافة الى موقع البلد الصغير المساحة، الكبير الفاعلية، فـي الحرب على الإرهاب، إذ يعتبر السبّاق فـي مقاتلة الجماعات التكفـيرية الإرهابية، وكان الصدام العسكري الأول معها فـي جرود الضنية مطلع عام 2000، ولم يتوقف طيلة هذه الأعوام، إذ شهد معارك ضدها واجتثها فـي مخيم نهر البارد وعبرا شرق صيدا، وفـي عرسال وجرودها، وأخيراً فـي طرابلس.
فالإستحقاق الرئاسي هو دائماً على جدول أعمال الموفدين الدوليين منذ 25 أيار الماضي تاريخ انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، إذ عقد مجلس النواب 16 جلسة إنتخاب ولم يتأمّن فـيها النصاب القانوني، إلا مرة واحدة فـي نيسان الماضي، كانت بمثابة «بروفة» لمعرفة حجم أصوات كل مرشح، وانحصرت المنافسة بين رئيس «التيار الوطني الحر» ميشال عون وهو لم يعلن ترشيحه رسمياً، واكتفى مؤيّدوه من فريق 8 آذار أن صوتوا بـ 57 ورقة بيضاء، فـي حين نال رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع 47 صوتاً من قوى 14 آذار كمرشح باسمها، ونال النائب هنري حلو 16 صوتاً هي أصوات كتلة النائب وليد جنبلاط الذي رشّحه مع ثلاثة أصوات وسطية من كتلة الرئيس نجيب ميقاتي.
منذ تلك الجلسة وانتخابات رئاسة الجمهورية معطلة، ولم يحصل تقدم بالمبادرات السياسية تجاهها، كما لم تنجح الوساطات الدولية والإقليمية بحصول تسوية حولها، وهي تراوح فـي مكانها، بسبب تعنت كل طرف بمرشحه، وإن كان جعجع دعا الى الإتفاق على مرشح ثالث، لم يقبل به عون الذي وبعد أن نال تأييد «حزب الله» له العلني من أمينه العام السيد حسن نصرالله، ضمن أن حليفه جدي بترشيحه وحسم ما كان يتردد أنه لا يريده وقد يساوم عليه، وهو لن يسميه ويفضل عليه النائب سليمان فرنجية، فسقطت كل هذه التحليلات غير المستندة الى وقائع، ليظهر العماد عون أنه مرشح من «حزب الله» الذي وضعت إيران ورقة إنتخاب رئيس الجمهورية بين يديه وهو يقرر فـيها مع حلفائه، وكذلك فعلت سوريا بأن أبلغ رئيسها بشار الأسد من يعنيه الأمر، بأن المرشح الذي تقبل به المقاومة فـي لبنان نحن معه وندعمه.
وفـي موازاة ذلك أعلن السيد حسن نصرالله، أن رئيس الجمهورية يُصنع فـي لبنان، بعد أن تلقى من حليفـيه التفويض الطبيعي له، وبات الملف لبنانياً، وهو رمى الكرة فـي ملعب «تيار المستقبل» أولاً وحلفائه فـي 14 آذار لاسيما «القوات اللبنانية» ثانياً، بأن حشرهم فـي أن تكون صناعة الرئيس لبنانية، بعد أن انكشف أن السعودية وضعت «فـيتو» على ترشيح العماد عون الذي استهلك أشهراً فـي الحوار مع الرئيس سعد الحريري، ليأتي الجواب من وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفـيصل، أن عون غير مرغوب فـي رئاسة الجمهورية، وأوقف «الفـيتو السعودي» عليه الحوار بين الحريري وعون ومساعديهما، ليطرح رئيس «تيار المستقبل» مرشحاً ثالثاً من خارج 8 و14 آذار، وهو ما سبقه الى طرحه جعجع نفسه لقطع الطريق أمام عون الى قصر بعبدا، حيث انكشفت خيوط اللعبة، بأن ترشيح جعجع كان لمنع عون من الوصول الى الرئاسة الأولى، ليبدأ البحث عن مرشح تسوية، سيكون فـي النتيجة مقرّب من 14 آذار ومن خطها السياسي فـيؤتى برئيس مقنّع منها وهو ما سعى الموفد الفرنسي الى تسويقه، كما حصل فـي انتخاب الرئيس ميشال سليمان، وهذا ما يُطبخ بين فرنسا والسعودية، بعد أن أوكلت واشنطن لباريس إدارة ملف إنتخابات رئاسة الجمهورية فـي لبنان، لتتفرغ هي الى ملفات أخرى فـي المنطقة من الوضع فـي سوريا الى البرنامج النووي الإيراني، وصعود تنظيم «داعش» والحرب على الارهاب، وما يجري فـي العراق واليمن وليبيا، وهبوط أسعار النفط إلخ…
وصل ملف الرئاسة فـي لبنان الى فرنسا التي كلفت مدير دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فـي وزارة الخارجية جان فرنسوا جيرو به، وطلبت منه البحث فـي تسوية الملف عبر دولتين مؤثرتين به هما إيران والسعودية والتنسيق مع الفاتيكان والوقوف على رأيه بما أن رئاسة الجمهورية هي منصب مسيحي، فـي زمن انقراض الوجود المسيحي من المشرق العربي والمنطقة، فحمل الموفد الفرنسي الملف الى إيران قبل أكثر من شهرين، وناقش المسؤولين فـي طهران حوله، فكان جواب المسؤولين أنه شأن لبناني، وأن «حزب الله» مع حلفائه مَن يقررون فـيه، ولا كلمة لنا بهذا الإستحقاق الذي يجب أن يكون لبنانياً، ورفض المسؤولون فـي إيران ربط إنتخابات رئاسة الجمهورية فـي لبنان، بالمفاوضات على الملف النووي وتقديم تنازلات فـيه، لأن لا تلازم بينهما، وأن التقارب الإيراني – الأميركي أو الغربي، لا علاقة له بالإستحقاق الرئاسي اللبناني، وقد يخفف من التشنج ويسهّل إيجاد حلول ومخارج لملفات ما سواء فـي لبنان أو غيره من الدول، لكن لا مقايضة فـيه.
سمع الموفد الفرنسي هذا الكلام الإيراني الجدي، ورأى أن الحل فـي لبنان، فأتى إليه مستكشفاً آراء المسؤولين فـيه والقيادات السياسية، ليتبيّن له، أن الملف الرئاسي معقّد، وأول عقدة مسيحية وتحديداً مارونية، بإصرار عون على ترشيح نفسه ورفض بعد لقائه جيرو المرشح الثالث، كما رفض جعجع الإنسحاب إذا استمر عون بترشيحه، وأنه مستعد للقاء معه كما طرح وسطاء، وفتح حوار على مرشح ثالث يتفقان عليه، وهو ما لا يرغب به رئيس «تكتل الإصلاح والتغيير» الذي طرح اقتراحاً، أن يتنافس هو وجعجع على رئاسة الجمهورية، لكنه جوبه بالرفض من جعجع أولاً ثمّ من النائب وليد جنبلاط الذي تمسك بترشيح هنري حلو، وكذلك من «تيار المستقبل» ومسيحيي 14 آذار، ليبقى الحوار بين الرجلين مجرد تمنيات، كي لا ينسب إليهما أنهما يعطّلان الإستحقاق الرئاسي.
ولم يتمكّن الدبلوماسي الفرنسي من إحراز اختراق فـي إنتخاب رئيس للجمهورية، حيث تزامنت زيارته للبنان، مع مجيء نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف الذي إلتقى قيادات لبنانية، لكنه لا يحمل معه مبادرة روسية لحل أزمة إنتخاب رئيس، بل نصائح بضرورة إنجاز هذا الإستحقاق لرمزيته فـي مؤسسات الدولة ورأسها، فهو لم يطرح إسماً أو لمّح الى أي مرشح، بل ركّز على ضرورة الإستقرار فـي لبنان وإبعاد الحريق عنه عما يجري فـي سوريا التي تبقى على رأس أولويات موسكو التي تندرج زيارة بوغدانوف الى المنطقة فـي تحريك الحل السياسي للأزمة فـيها، ولا يشكّل لبنان أولوية روسية، ولا يمكن ربط الإنتخابات الرئاسية اللبنانية بالوضع فـي سوريا لأن حربها طويلة، وعلى اللبنانيين ترتيب بيتهم الداخلي بأن يكون له رب، وهو من هذا المنطلق تحدّث عن إعلان بعبدا وأيّده، لفك الإرتباط بين الأزمتين اللبنانية والسورية.
لقد انتهت زيارة كل من جيرو وبوغدانوف الى خلاصة إستنتجها الدبلوماسيان الفرنسي والروسي، بأن اللبنانيين بعيدون عن الإتفاق على مرشح رئاسي، وأن الإنتخابات الرئاسية فـي لبنان ليست فـي القريب العاجل، وهي لا يمكن أن تتحقق بأن تُفرض من الخارج، لأن ظروف صناعة رئيس جمهورية لبنان التي كانت تتم بتسوية دولية أو إقليمية هي غير متوفرة فـي هذه المرحلة، بسبب تعقيدات عدد من القضايا التي تبدأ من المعارك فـي سوريا والأخرى فـي العراق وامتداداً الى اليمن وليبيا والتوتر الدائم فـي مصر وتونس، وتعطّل المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، والمعارك فـي أوكرانيا وشرقها التي قد تتحول الى حرب باردة جديدة بين روسيا والغرب، إذ تحتل هذه القضايا اهتمام العالم، ليقع لبنان فـي أسفل الإهتمام الدولي، مع تأكيد المجتمع الدولي الحفاظ على الإستقرار فـيه وعدم إنزلاقه نحو حرب أهلية، بالرغم من الأجواء المتوترة التي يعيشها والأزمات التي تعصف به من سياسية واقتصادية واجتماعية، الى حربه على الإرهاب، فإن الإستحقاق الرئاسي وإن كان تحرك دولياً وإقليمياً، لكنه بقي يراوح مكانه، إذا استمر عون بترشيحه وعدم إنسحاب جعحع الذي ذهب الى السعودية يستطلع آراء ومواقف المسؤولين فـيها، إذ تحبّذ المملكة أن يكون المرشح تسووياً، وهي تتفق مع التوجّه الفرنسي بمرشح تسوية، دون الدخول بالأسماء وهي كثيرة بعد إسقاط أسماء المرشحين الأقوياء من الزعماء الموارنة الأربعة، وهي بهذا المعنى تعمل لمرشح لا يكون لإيران أو سوريا أو «حزب الله» حصة فـيه، وهذا ما تمّ التعبير عنه برفض وصول عون الى رئاسة الجمهورية لأنه يمثّل هذا المحور، الذي لا يقبل أيضاً أن يُفرض عليه مرشح يتم تقديمه على أنه توافقي، لينقلب فـيما بعد على هذا المبدأ، إذ يرفض عون تكرار تجربة العماد ميشال سليمان الذي تنازل له عام 2008 عن رئاسة الجمهورية، ويؤيّده
حزب الله» أيضاً الذي أبلغ الموفد الفرنسي أن مرشحه هو العماد عون وعليه تسويقه فـي السعودية، لأن إيران تؤيّد مَن يؤيّده.
من هنا فإن إنتخابات رئاسة الجمهورية مؤجلة، الى أن تنضج تسوية ما خارجية، تقبل بعون، أو يقبل عون بالانسحاب ويسمي مرشحا فـيلعب دور الناخب فـيها وقد دعاه الرئيس نبيه بري ليقوم بهذا الدور.
Leave a Reply