لم يكن التفكير يوماً خطأً أو خطيئة، كما أن التساؤل لم يكن أبداً مصدر استنفار وإساءة. فالخالق نفسه، جل وعلا، دعا الانسان الى التفكُّر والتمعُّن والتبصُّر وإمعان العقل فـي كل شيء حتى فـي أسباب وجوده الإلهي العظيم. هذا خُلُق رب العالمين وشتَّان ما بينه وبين مخلوقاته الضيقة الخلق, والضائقة ذرعاً بكل شيء!
فـي الأسبوع الماضي، تساءلنا فـي زاوية «لنا رأي» وهي افتتاحية صحيفتنا عن الحكمة من وراء مواكب أربعينية عاشوراء فـي ديربورن، وذلك فـي محاولة لفتح مساحة للنقاش الهادئ والموضوعي بعيداً عن الإثارة والتهويل والتخوين لأنَّه لا يحق لأحد أنْ يزايد على أحد، والأمور جدية بحيث لا تسمح بتسجيل نقاط ضد بعضنا البعض. ولكن كما توقعنا، استثارت المقالة تعليقات غير محقة وظالمة ومهينة وهجومية بلا مبرر ومن دون التمعُّن فـي رأينا الشامل لانه لو قُرئت الإفتتاحية بالكامل، لا من خارج السياق، لما سبَّب هذا اللغط وسوء الفهم على طريقة من يقرأ نصف الشهادة فتصبح «لا إله» كفراً، و«..إلا الله» إيماناً.
وعلى عكس إدعاء صفحة مكرّسة للثرثرة على «الفـيسبوك»، لم تدعُ الافتتاحية بتاتاً إلى وضع حد لمواكب عاشوراء. وجل ما فـي الأمر أن المقال طرح، بكل احترام لذكرى كربلاء الإمام الحسين، نقاشاً حول جدوى التظاهرات فـي شوارع ديربورن مرفقة بالأعلام السود فـي هذه الظروف الصعبة والإستثنائية، ومدى تأثيرها على مجتمعنا وجاليتنا والتي قد تضر بهذه الذكرى العظيمة نفسها. إضافة الى ان ما يصلح فـي اوطاننا الأصلية ربما لا ينفع استخدامه فـي هذا المنقلب من الأرض، فـي محاولة للإلتفات الى الجغرافـيا والظروف السياسية والإجتماعية والموضوعيةالتي تحيط بنا ونعيش فـي خضمها.
وليعلم الذين صبوا جام غضبهم على رأينا (والإسلام يقدِّس حرية الرأي والفكر) ان بعض الناس من داخل الجالية العربية فـي ديربورن أخذوا يدعون لتوهِم لمقاطعة الشركات التجارية فـيها. كما أنَّ التقرير الفـيدرالي الذي تم تسريبه فـي شهر آب (أغسطس) الماضي، زعم أن ديربورن تحوي على ثاني أكبر عدد من «الناس الذين تربطهم علاقة بالمصنفـين بالإرهابيين المعروفـين أو المشتبه بهم» فـي البلاد بعد مدينة نيويورك. وبعض ابناء وبنات جاليتنا قد وضعوا على قوائم منع السفر أو لوائح مراقبة الإرهابيين المشتبه بهم، وهم يعانون الأمرين فـي مطارات أميركا وعلى المعابر الحدودية.
نحن لسنا العدو الذي تُكرَّس ضده وسائل التواصل الإجتماعي، بل العدو من ورائكم ومن خلفكم فاعتبروا يا أولي الألباب!
إحياء ذكرى عاشوراء لا علاقة له بالإرهاب مطلقاً. ولكن، كما ذكرنا فـي زاوية «لنا رأي» الأسبوع الماضي، ان المفاهيم والتصورات والتخيلات غالباً ما تكون أكثر أهمية من الواقع. ولكن هل علم اللائمون أنَّ الإفتتاحية دعت أيضاً لتكريم تضحيات الإمام الحسين (ع) عن طريق الوقوف مع الشعوب المضطهدة فـي جميع أنحاء العالم وربط ذكراه بالقضايا النضالية المعاصرة؟! لقد دعوناكم الى حوار من أجل تكريم أشمل وتقديم أفضل لسيرة سيد الشهداء، فأجبتمونا بالشتائم والتهديد والتهويل.
للأسف، فإن الكثير من ردود الفعل السلبية على رأينا جاءت من الناس الذين لم يقرأوا المقالة بل علموا بها بالتواتر والإشاعات المغرضة من فاسقين، فلم يتبينوا قبل أنْ يصيبوا صحيفة مناضلة، بجهالة. قديماً قيل العرب لا يقرأون ويتصرفون بردود فعل فقط، لكن إيماننا وثقتنا بشعبنا هي أكبر من ذلك بكثير. فلن يثنينا عن إيماننا مجموعة قليلة من الجهلة والمضللين.
ولحسن الحظ نحن نعيش فـي بلد الحرية الدينية، وهي حق ممنوح فـي مقدمة الدستور الأميركي. لكن التعديل الأول للدستور الذي يمنع الحكومة من التدخل فـي شؤون ممارسة الدين والعبادات، يحمي كذلك حرية التعبير. أولئك الذين هاجمونا وهددونا بعد نشر الإفتتاحية المذكورة، تمسكوا بحقهم فـي حرية ممارسة الدين والعبادة، ولكن أرادوا تجريدنا من حقنا فـي الكلام والتعبير.
جميع الحقوق التي كفلها الدستور تخضع للحماية من الحكومة، لا من انتقاد المدنيين. نحن أبداً لم نقل ان المسلمين الشيعة لا يحق لهم تنظيم المسيرات أو القيام بممارسة شعائرهم الدينية. هذه حقوق يحميها الدستور الأميركي والأديان السماوية. لكننا استخدمنا حقنا الدستوري والإنساني لدعوة الناس إلى استكشاف سبل أكثر عملية فـي إحياء هذه المناسبة الكبرى، بما يكفل خدمة الجالية ونشر رسالة الامام الحسين (ع) فـي محاربة الظلم والفساد بطريقة واعية وحضارية تفـيدنا وتفـيد الرسالة أيضاً..
لقد قال المرجع الراحل آية الله السيِّد محمد حسين فضل الله فـي إحدى المرات «ربّما نكون قد ظلمنا الحسين(ع)، لأنّنا أخذنا منه جانب المأساة، واستغرقنا فـي كلِّ جراحاته، وفـي كلِّ آلامه، ونسينا الحسين الإمام، واقتصرنا على حسين الثّورة. وشخصيّة الحسين الثّائر، إنما هي من عمق إمامته، فإمامته أعطت للثّورة شرعيّتها، لأنَّ الثورة تحتاج إلى شرعيّةٍ فـي كلِّ انطلاقتها وخلفـيّتها. إنَّنا نريد أن نأخذ الحسين(ع) كلَّه، بمواعظه، وبوصاياه، وبأخلاقيّته، وبفقهه.».
أما بعض ردود الفعل فأكدت على مخاطر التطرف الذي وصفناه فـي مقالنا بتسليط الضوء على المتعصبين المتشددين داخل الجالية.
«أتمنى من كاتب هذا المقال أنْ يُقتل فـي حادث مروع وتُغتَصب بناته من قبل داعش»، علق أحدهم المدعو طارق نفـيري على صفحة «الفـيسبوك» التي يديرها ماجد مغنية، وهو محام فـي ديربورن إعتاد على إرتكابات تجر الخيبة والحرج لجاليتنا.
وبدلاً من أنْ يلقى هذا التعليق المشين الإدانات والإنتقادات، حصد للأسف بعض من الـ«لول»(LOL) وهو رمز «الضحك بصوت عال»، وهتافات من المستخدمين الآخرين. لقد ضحكوا مع نفـيري بدل أنْ يبكوا على حاله وعلى المنحدر الذي تتجه اليه جاليتنا، ويعلنوا النفـير؟!
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تضمنت التصريحات الحاقدة الأخرى التهديدات العنيفة والهجوم اللاذع على شخص الناشر وعلى مطبوعتنا بالإضافة الى اراجيف طائفـية ومذهبية تقسيمية مقيتة مروعة.
وقد اختفت، بسحر ساحر، العديد من التعليقات المشيدة بالافتتاحية من على صفحات «الفـيسبوك»بينما احتفظ بالتعليقات التحريضية والتشويهية وذات الطابع التهديدي.
أبشروا بإنَّ تجذير شبابنا فـي الجالية جارٍ على قدمٍ وساق، وجاليتنا تسير نحو المجهول والمسار الخطير فإذا كان قادة الجالية وعلماؤها يعلمون ذلك فتلك مصيبة وإذا كانوا لا يعرفون فتلك مصيبة أعظم. لذلك ندعو مؤسساتنا الدينية والمسؤولون فـي الجالية وناشطو المجتمع المدني للتحرك فوراً لصد هذه الموجة المتطرفة المقلقة من خلال تشجيع التسامح والتنوع فـي الفكر والتعددية والتعايش والحوار الذي هو جوهر الأديان. فالويل لأمة لا تقدر أنْ تتحاور مع نفسها.
نحن على يقين بان الفظائع المرعبة فـي العالم العربي هي التي تؤثر على الناس هنا. حتماً، وبالتأكيد يجب أن نبقى على اتصال مستمر بأوطننا الأصلية، ولكن فـي جاليتنا لا ينبغي ان نتبنى الإنقسامات والشرذمات والتطرف والتمحور المذهبي والعنف الدموي الجاري هناك.
«التكفـيرية» هو المصطلح الذي تم استخدامه فـي الآونة الأخيرة لوصف «داعش» وأخواتها من الجماعات المسلحة والدموية فـي الشرق الأوسط. والتعبير يشير إلى الناس الذين تعتبرهم الجماعات الإرهابية كفاراً.
وقد بلغت الصفاقة ببعض التعليقات المكتوبة على وسائل التواصل الاجتماعي، وبخاصة صفحة «الفـيسبوك» المذكورة آنفا، حد اتهامنا بأننا «أعداء الإسلام» بسبب الخلاف مع رأينا. إنَّ الأفراد الذين ساقوا تلك الإتهامات هم«داعشيو التفكير والمنهج». ولكننا فـي الوقت ذاته، نعرف بأن هؤلاء التكفـيريِّين، على مساوئهم، هم مجرد جزء صغير من الجالية المسالمة السلمية المعتدلة المتنوعة، ولكن لا بد من مواجهتهم ومحاصرتهم وتهميشهم فـي مجتمعنا.
الفـيلسوف العربي الأميركي جبران خليل جبران قالها ذات يوم «نقيق الضفادع قد يرتفع صوته فوق صوت الثيران، لكن الضفادع لا تستطيع جر المحراث فـي الحقل ولا قلب عجلة من المعصرة، وجلودها لا تُصنع منها الأحذية». كذلك المتطرفون قد يرتفع نقيقهم، لكن أصواتهم غير مجدية.
لقد وجهنا، من خلال افتتاحيتنا، دعوة لتثقيف غير المسلمين حول دروس وعِبَر عاشوراء، لكي يعرف زملاؤنا من الأميركيين ما نحيي وبماذا نحتفل. وكانت صحيفتنا السباقة فـي هذه الجهود التنويرية عندما نشرت تقريراً فـي ١٠ تشرين الأول (أكتوبر) بعنوان، «ما هي عاشوراء، ولماذا يحييها الشيعة المحليون؟».
لقد نُشرت إفتتاحيتنا الأسبوع الماضي فـي هذه الزاوية الأسبوعية تحت عنوان «لنا رأي» حيث نقوم بنشر رأينا اسبوعياً فـي قضايا محلية ووطنية ودولية تعكس رؤية الصحيفة وناشرها، أسامة السبلاني. ونحن لا نتوقع من الناس اعتناق رؤيتنا أو الإذعان لها. فقبل كل شيء،ان الهدف الرئيسي هو الكشف عن رأي فـي مسألة مهمة فـي رأينا وفتح مساحة للنقاش والحوار والبحث والدراسة. غير أننا نقف وراء كل كلمة وموقف صدر فـي افتتاحيتنا الأسبوع الماضي لأننا لانرمي الكلام جزافاً وعلى عواهنه.
إنَّ صفحات الرأي فـي صحيفتنا هذه ومواقعها على صفحات التواصل الاجتماعي مفتوحة للجميع دوماً لتكون منتدى حضارياً متسامحاً ومخلصاً وفعالاً. نحن نرحب بوجهات نظركم، حتى لو كانت مختلفة معنا كلياً. لكننا لن نتساهل مع التهديدات أو ننحني للترهيب. فالإمام الحسين لم يخضع للإرهاب ولم ينحنِ للطغاة.
لقد اعلناها سابقاً على الملأ فـي افتتاحية سابقة فـي نهاية عام ٢٠١٣ «نحن لا نتهرب من مسؤولياتنا فـي مواجهة القضايا الدقيقة والحساسة لأنها صعبة المعالجة، بل نواجهها بمسؤولية وشجاعة وانفتاح». فـي نهاية عام ٢٠١٤، نجدد هذا الوعد ونعلن بقاءنا على العهد. كما ستواصل «صدى الوطن» الدفاع عن قضيانا المشتركة، وكتابة سير نجاح جاليتنا بما فـيها الإشارة إلى أوجه القصور والإعتلال عندما يتطلب الأمر ذلك. كما سنستمر فـي تعزيز الحوار والقبول ببعضنا البعض، ومحاربة التعصب والعنف والتمييز أينما وُجد.
فـي الختام نشكر القراء والمعلنين والموظفـين الحاليين والسابقين على دعمهم ومساهماتهم على مدى ثلاثة عقود ممتالية. ونتمنى للجميع سنة سلام مجيدة وطيبة ومزدهرة عام ٢٠١٥. كل عام وانتم بخير.
Leave a Reply