نبيل هيثم
سيناريو واحد بإخراجين مختلفـين. هكذا يمكن وصف التحوّلات التي شهدتهما مصر وتونس خلال العام المنصرم.
البلدان الأوّلان فـي قائمة «الربيع العربي»، والميدانان الوحيدان لتجربة «الإسلام السياسي» فـي الحكم، فضّل شعبهما العودة الى نظام قديم على القبول بمغامرة «اخوانية» كادت تقود مصر الى حرب اهلية لولا تدخّل الجيش فـي اللحظة المناسبة فـي الثالث من تموز العام 2013، واخرى «نهضوية» كادت تقود تونس الى فوضى تعزز شوكة الفصيل الاكثر خطورة فـي الاسلام السياسي، والمتمثل بـ «السلفـية الجهادية»، لولا الوعي الشعبي الذي افقد «حركة النهضة» ذات التوجهات «الاخوانية» الغالبية البرلمانية، بما جعلها تتراجع عن نزعة الانفراد فـي الحكم.
وبرغم وصول رأس المؤسسة العسكرية العريقة فـي الحكم الى قصر الاتحادية فـي مصر، ووصول رمز من رموز نظام الحبيب بورقيبة الى قصر قرطاج فـي تونس، يبقى من المبالغة القول ان ما جرى فـي هذين البلدين خلال العام المنصرم يمثل ردّة على ثورات الشعوب العربية.
لعل التوصيف الافضل الذي يمكن اطلاقه على هذه التحولات هو «انكفاء مؤقت» للخيار الثوري، من قبل الشعبين المصري والتونسي، اللذين اسهم الحراك الديموقراطي المتمثل فـي «ثورة 25 يناير» و«ثورة 14 جانفـيه»، فـي تعزيز وعيهما الوطني والقومي، فاختارا التريّث قليلاً فـي الاندفاع الجارف نحو التغيير، حرصاً على بقاء دولتهما متماسكتين فـي ظل ما يشهده الاقليم من زلازل تفكيكية ما زالت تضرب سوريا والعراق واليمن. هكذا اختار الشعبان المصري والتونسي رهان الدولة الموحدة على انقاض فشل الاسلام السياسي.
وانطلاقاً من هذا الواقع يمكن فهم أهمية الإنجاز الذي اتّسمت به الانتخابات التونسية، التي وضعت اوزارها الاسبوع الحالي بتسلم الباجي القائد السبسي رئاسة الجمهورية رسمياً، غداة فوزه على منافسه منصف المرزوقي (العلماني ايضاً) فـي الانتخابات الرئاسية، وذلك بعد بضعة اسابيع على حصول «حزب نداء تونس»، ذي الطابع المدني على غالبية المقاعد البرلمانية فـي الانتخابات التشريعية، فارضاً على «حركة النهضة» الاسلامية التعايش مع واقع جديد، رسمته، على ما يبدو، الفوضى العارمة التي سادت المنطقة العربية منذ العام 2011، والتي حلت محل البناء الديموقراطي فـي كل دول «الربيع العربي».
هكذا سحبت القوى المدنية التونسية البساط من تحت اقدام حركات «الإسلام السياسي»، وفـي طليعتها «حركة النهضة»، التي يبدو انها تلقفت الدرس المصري جيداً، ففضلت التخلي عن مبدأ «المغالبة لا المشاركة» الذي انتهجه «الاخوان المسلمون» منذ بدء الثورات العربية، واختارت القبول بالواقع الجديد، من خلال اعتماد مقاربة براغماتية تقيها مصير توأمها المصرية، التي تحولت اليوم الى «تنظيم ارهابي» مهزوم.
وعلاوة على استفادتها من التجربة الفاشلة لـ «اخوان» مصر، يبدو ان «النهضة» قد باتت تعي جيداً التحولات فـي موازين القوى الاقليمية، وخصوصاً بعد المصالحة الخليجية، التي جعلت نفوذ قطر، الراعي الرسمي للجماعات «الاخوانية»، يتراجع لصالح المحور السعودي-الاماراتي الذي استعاد زمام المبادرة على جبهات عدّة، ابرزها مصر وليبيا.
ولاشك أن انتخاب الباجي قائد السبسي بشكل ديمقراطي كأول رئيس لتونس، يعتبر حدثاً تاريخياً ومفصلياً، ليس لهذا البلد الصغير الواقع على ساحل البحر المتوسط فـي شمال أفريقيا فحسب، وإنما لكل الدول العربية التي تمر بمرحلة انتقالية بعد انطلاق ثورات «الربيع العربي».
ولا شك ايضاً ان هذا الانتقال الديموقراطي للسلطة السياسية قد جعل من تونس استثناءً عربياً بمكن البناء عليه فـي عملية التحول الديموقراطي مستقبلاً، فالانتخابات التشريعية والرئاسية فاجأت الجميع بسلميتها، برغم حضور الخطر الجهادي المتمثل فـي تنظيمات قريبة من «داعش» و«القاعدة» على غرار جماعة «انصار الشريعة».
وقد يرى البعض ان وصول السبسي إلى الرئاسة فـي الجمهورية الثانية، التي ولدت من رحم الدستور الجديد، شكلاً من استمرارية عهد ما قبل الثورة، الا ان ثمة تغيرات افرزتها الثورة التونسية تناقض على الرأي، واولها أن الانتخابات الرئاسية لم تشبها شائبة فـي ما يتعلق بحرية الناخبين فـي الاختيار، وثانيها ان الانتخابات التشريعية الماضية كرست شكلاً من التعددية البرلمانية تفرض على اي رئيس انتهاج شراكة وطنية لضمان عمل الحكومة، خصوصاً ان رئيس الجمهورية، بموجب الدستور الجديد، يمتلك صلاحيات محددة فـي مجالات الدفاع والأمن القومي والسياسة الخارجية، فـيما يملك رئيس الوزراء كل السلطات التنفـيذية فـي المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
وبتولي احد من رموز دولة الاستقلال البورقيبي، تتأكد النهاية العملية لمشروع «الربيع العربي» بنسخته «الإخوانية»، وتتكرس كذلك هزيمة الانظمة الاستبدادية على شاكلة نظام بن علي.
ومعروف ان اسم السبسي لم يكن مألوفا عند شباب الثورة، لابتعاده عن الحياة السياسية منذ أكثر من عشرين عاماً، أي بعد سنة واحدة من حكم بن علي، ما يعني أن الرجل وريث لعهد الرئيس بورقيبة، وانما بتوجهات اكثر ديموقراطية.
وبانتظار ان تتبلور وجهة الحكم فـي تونس فـي عهد الرئيس الجديد يبقى ان الانتخابات الاخيرة فـي تونس كرست سقوط «الإسلام السياسي» ممثلاً بـ «حزب النهضة»، وانتصار العلمانية التي أعتادها الشعب التونسي.
وثمة انطباع لدى التونسيين بأن «إخوان تونس انتهوا» تنظيميا وسياسيا ليلتحقوا بـ «إخوان» مصر، بأن «حركة النهضة» لم يعد لها أي مستقبل سياسي وربما تكون قادمة على حالة من التفكك.
ومعروف أن «حركة النهضة» القت بكل ثقلها سياسياً وتنظيمياً من أجل فوز حليفها المنصف المرزوقي بالرئاسة، فـي محاولة فاشلة لقطع الطريق امام السبسي، حتى أن زعيمها راشد الغنوشي أعلن «النفـير العام» داخل مختلف هياكل التنظيم المعقد لإنقاذ الأمل الأخير، غير أن رياح الناخبين عاكست سفـينة «النهضويين».
وفـي ما يعكس ازمة «النهضة» عاد راشد الغنوشي مؤخراً الى دعوة قواعد الحزب للاصطفاف وراء الرئيس المنتخب السبسي، الذي يقود مشروعاً علمانياً، فـي ما يعتبره مراقبون اعترافاً بفشل المشروع «الإخواني» الذي يختزل بشعار «الإسلام هو الحل».
ويبدو ان دعوة الغنوشي هذه قد بدأت تثير ما يشبه الانتفاضة داخل «النهضة»، ما تهدد بتفكك التنظيم الحديدي، خصوصاً ان حالة التململ والغضب من سياسات الغنوسي بدأت تصيب قيادات تاريخية مثل الحبيب اللوز وحمادي الجبالي.
ويأتي التصدّع فـي صفوف «النهضة» تتويجاً لمسار سلكته الحركة الاسلامية منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي، فقد بدأت «النهضة» تخطو نحو نهايتها مند تسلمها الحكم إثر فوزها فـي انتخابات تشرين الاول 2011 بنسبة 32 فـي المائة مستفـيدة من غياب أي قوة سياسية قادرة على منافستها. وتجاهلت الحركة الاسلامية حوالي 70 فـي المائة من التونسيين يرفضونها مبدئياً وسياسياً، فانتهجت، على غرار «اخوان مصر»، احتكار الحكم وتهميش القوى الوطنية والديمقراطية رافضة أي انفتاح على مشهد سياسي متعدد بمسحته اللبيرالية والعلمانية.
وطوال فترة حكمها، تصاعد الاحتقان الاجتماعي والتوتر السياسي وتأجج الغضب الشعبي وتعرضت مقراتها للحرق من قبل المواطنين، وعرّضت الامن الوطني لمخاطر كبرى، وذلك بعد غضها الطرف على ممارسات الحركات السلفـية المتشددة، وتساهلها مع بروز جماعات «السلفـية الجهادية»، ناهيك عن الشبهات التي حامت حولها بعد اغتيال القياديين المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
كل ذلك قاد إلى النكسة الخطيرة التي تعرضت لها «النهضة» فـي الانتخابات البرلمانية الاخيرة، والتي يمكن اعتبارها هزيمة سياسية للمشروع الاسلامي وانتصاراً للمشروع الحداثي، وهو ما تكرّس عملياً فـي انتخابات الرئاسة الاخيرة.
تركيبة مجلس النواب التونسي الجديد
فـيما يلي تركيبة البرلمان التونسي الجديد الذي يضم 217 مقعداً:
– حزب نداء تونس: عدد المقاعد 86 (39.63%).
– حركة النهضة: عدد المقاعد 69 (31.79%).
– الاتحاد الوطني الحر: عدد المقاعد 16 (7.37%).
– الجبهة الشعبية: عدد المقاعد 15 (6.91%)
– حزب آفاق: عدد المقاعد 8 (3.02%).
– المؤتمر من أجل الجمهورية: عدد المقاعد 4 (1.84%).
– التيار الديموقراطي: عدد المقاعد 3 (1.38%)
– حركة الشعب: عدد المقاعد 3 (النسبة 1.38%).
– حركة المبادرة الوطنية الدستورية: عدد المقاعد 3 (1.38%).
– تيار المحبة: عدد المقاعد 2 (0.92%).
– الحزب الجمهوري: عدد المقاعد 1 ( 0.46%).
– التكتل الديمقراطي من أجل الحريات: عدد المقاعد 1 (0.46%).
– صوت الفلاحين: عدد المقاعد 1 (0.46%).
– حركة الديمقراطيين الاشتراكيين: عدد المقاعد 1 (0.46%).
– الجبهة الوطنية للانقاذ: عدد المقاعد 1 (0.46%).
مستقلون: عدد المقاعد 3 (1.38%).
من هو الباجي قائد السبسي
الباجي قائد السبسي (88 عاماً)، الرئيس الخامس للجمهورية التونسية، من مواليد 26 تشرين الثاني العام 1926 لعائلة قريبة من البايات (ملوك تونس قبل الاستقلال).
درس السبسي المحاماة فـي العاصمة الفرنسية باريس ويمتهنها منذ نصف قرن، وهو زعيم حزب «نداء تونس» صاحب غالبية مقاعد البرلمان المنتخب حديثاً.
أسس حزبه «نداء تونس» منذ منتصف العام 2012، جامعاً حوله شخصيات يسارية ونقابية ووجوهاً بارزة من نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وكان هدفه الأساسي حينها إزاحة «حركة النهضة» ذات المرجعية «الإخوانية».
للسبسي باع وذراع فـي عالم السياسة، انخرط منذ شبابه فـي «الحزب الحرّ الدستوري» (الحزب الذي قاد الحركة الوطنية لمقاومة المستعمر الفرنسي)، وتقلّد مناصب مهمة عديدة فـي الدولة التونسية، من بينها مدير الأمن الوطني فـي العام 1965، ثم وزيراً للدفاع فـي العام 1969، ثم وزيراً معتمداً لدى الوزير الأول فـي العام 1980.
وتقلّد مناصب عدة فـي الدولة كوزارة الخارجية فـي العام 1981، ورئيساً لمجلس النواب فـي مطلع التسعينيات، وصولاً إلى تقلده مهام رئاسة الحكومة بعد «الثورة» التونسية من 27 شباط 2011 وحتى 13 كانون الأول 2011، والتي قادت تونس إلى انتخاب «المجلس الوطني التأسيسي»، وهي مركز ثقل قوته التي يحسبها له التونسيون.
Leave a Reply