بيروت- عماد مرمل
عند تكليف الرئيس تمام سلام بتشكيل الحكومة، تعاطى الجميع آنذاك مع التركيبة المفترضة لمجلس الوزراء انطلاقا من حسابات بعيدة المدى فـي السياسة والزمن. كانت كل الاطراف تدرك ان انتخابات رئاسة الجمهورية لن تتم فـي موعدها(أيار الماضي) وان الحكومة هي التي ستتولى إدارة مرحلة الشغور الرئاسي الطويلة.
وعلى قاعدة هذه النظرة، حصل تجاذب حاد حول الاحجام والحصص فـي التركيبة الوزارية، ما أدى الى تأخير تشكيل الحكومة قرابة عشرة أشهر، حتى قيل إن سلام ضرب رقما قياسيا فـي الفترة التي استغرقتها عملية التأليف.
مجلس الوزراء منعقداً |
وبرغم الصعوبات التي اعترضت مهمة سلام فـي التأليف وكادت تدفعه أكثر من مرة الى الاعتذار، إلا انه كان هناك قرار كبير يحمل بصمات إقليمية ودولية بوجوب تشكيل الحكومة مهما كلف الامر ومهما طال الوقت، لان مصلحة الخارج المنشغل بالازمة السورية كانت تقضي بالمحافظة ولو على الحد الادنى من الاستقرار فـي الساحة اللبنانية التي تحولت الى ملاذ للعدد الاكبر من اللاجئين السوريين.
وإزاء هذه المعادلة التي لا تزال سارية المفعول، يمكن القول ان ولادة الحكومة تمت بقوة دفع خارجية فـي نهاية المطاف، بعدما أدت الضغوط المتعددة المصادر الى إقناع القوى الداخلية بتخفـيف شروطها وتخفـيض سقوف مطالبها، وصولا الى تحقيق الولادة ولو.. من الخاصرة.
فـي الظاهر، هي حكومة «وحدة وطنية» تجمع كل التلاوين السياسية والطائفـية، لكنها فـي الحقيقة ليست سوى حكومة «انقسام وطني» يكاد يفرقها كل شيء من الخيارات الكبرى الى ملف النفايات. هذا ما أثبتته التجربة على امتداد الشهور الماضية التي كان مجلس الوزراء يعمل خلالها بوتيرة السلحفاة، فـيما الاحداث تتسارع من حوله.
والأسوأ، ان انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية الى الحكومة بعد شغور موقع الرئاسة أفضى الى «ترقية» تلقائية للوزارء الـ24 الذين أصبح كلٌ منهم رئيسا ضمنيا، لا يمكن ان يصدر قرار من دون توقيعه، بحيث بات البت فـي اي أمر من داخل او خارج جدول الاعمال يحتاج الى موافقة الوزراء مجتمعين، عملا بقاعدة التوافق التي جرى التفاهم عليها، وباتت ممرا إلزاميا لكل البنود التي يمكن ان تُناقش على طاولة مجلس الوزراء.
وهكذا، سرعان ما اكتشف سلام ان حكومة «المصلحة الوطنية» كما أسماها وكما أرادها عند تشكيلها، تحولت مع مرور الوقت الى حكومة «الضرورة والاضطرار» التي لا بديل عنها حتى إشعار آخر، وإن كانت ضعيفة الانتاجية ومهزوزة التركيبة. هي فـي نظر الكثيرين الخيار السيئ لمنع السيناريو الأسوأ، لان البديل الوحيد فـي حال انفراط عقدها هو الفراغ الشامل والمفتوح على المجهول.
يدرك سلام جيدا هذه الحقيقة، ويعلم ان عليه التعايش معها الى حين انتفاء وظيفة حكومته مع انتخاب رئيس الجمهورية.
ولعل سلام هو من أشد المعارضين للحكومة التي يترأسها، انطلاقا من معرفته الوافـية بنقاط الضعف ومكامن الخلل فـيها. ولا يتردد ابن البيت البيروتي العريق فـي التذمر امام زواره من وضع حكومته ومن سلوك بعض وزرائها، معترفا بان انجازاتها متواضعة قياسا الى التحديات والملفات التي تواجهها.
ومع ذلك، يعرف سلام ان الاستقالة ممنوعة، أولا لانه شخصيا ليس بوارد ان يتحمل مسؤولية تعميم الفراغ والدخول فـي نفق المجهول، وثانيا لان بقاء الحكومة هو مطلب إقليمي- دولي فـي هذه المرحلة الحساسة على مستوى المنطقة.
وعليه، ليس امام سلام سوى الاستمرار فـي إدارة تناقضات حكومته باقل الخسائر الممكنة ومحاولة تنظيم الخلاف بين مكوناتها. صحيح، انه يطلق أحيانا إشارات الاعتراض والامتعاض حيال الواقع الحكومي، ملوحا بتغيير قواعد تعاطيه معه، إلا انه يعرف ان هامش المناورة لديه ضيق وان خطواته يجب ان تبقى محسوبة، ومحكومة بضوابط عدم التفريط بالـ «ستاتيكو» الحالي.
يمشي سلام على حافة الهاوية بعينين مفتوحتين متجنبا اي دعسة ناقصة سترتب عواقب وخيمة على الوضع اللبناني الهش، وموظفا اعتداله ووسطيته لامتصاص الصدمات وإدارة فرقة موسيقية، يعزف كل وزير فـيها على هواه، ووفق نوتة خاصة به.
وليس أدل على التضارب فـي العزف، من ملف سلامة الغذائي الذي أظهر ان التلوث لا يقتصر على المأكولات، بل يطال ايضا العلاقة بين بعض الوزراء.
وفـي حين يُفترض ان تكون حماية صحة المواطن اللبناني فـي مواجهة الفساد الغذائي موضع إجماع حكومي وحافزا لتوحيد جهود كل الوزراء المعنيين فـي الاتجاه الصحيح، إذا بالمعركة تنحرف عن وجهتها الاصلية، مع اندلاع مواجهة كلامية عنيفة قبل فترة قصيرة بين وزير الصحة المنتمي الى الحزب التقدمي الاشتراكي وائل ابو فاعور ووزير الاقتصاد المنتمي الى حزب الكتائب آلان حكيم.
تبادل الوزيران أقسى الاتهامات حول كيفـية تعامل كل منهما مع قضية التلوث الغذائي، وكادت المبارزة الاعلامية تلامس الجانب الشخصي، ما استدعى تدخل وزير التربية المقرب من التيار الوطني الحر الياس بوصعب الذي تحرك على خط الوساطة للجم السجال وترطيب الاجواء المتشنجة، داخل حكومة بات منهاجها يحتاج الى تفعيل مادة «التربية المدنية».
وحتى ملف معالجة النفايات، تسبب بانقسامات حادة بين أعضاء الحكومة، كادت تتطور نحو الأسوأ، تحت وطأة الخلاف على كيفـية تحديد المطامر وتوزيعها.
وفـي مرحلة سابقة، كان العديد من جلسات الحكومة شاهدا على سجالات عنيفة بين الوزير بوصعب ووزير العمل الكتائبي سجعان قزي فـي شأن ملف الجامعة اللبنانية، وغيرها من الاحتكاكات فـي الاسلاك الكهربائية الوزارية والتي تسببت فـي الإضرار بمصالح الناس والدولة، ما دفع سلام فـي إحدى المرات الى تعليق اجتماعات مجلس الوزراء الى حين، اعتراضا على عرقلة عمل الحكومة.
لكن، وبرغم كل هذه التجاذبات، إلا ان أيا من أطراف الحكومة ليس بصدد تهديد وجودها واستمراريتها، حتى إشعار آخر. وإذا كان هناك من أمر يحظى بأعلى قدر من التوافق حاليا فهو ان الحكومة باقية فـي الخدمة وصامدة فـي السرايا، لان أحدا لا يريد ان يخوض مغامرة إسقاطها والانتقال من «التقنين المؤسساتي» الناتج عن الشغور الرئاسي الى «العتمة الشاملة» التي سيتسبب بها رحيل الحكومة قبل انتخاب الرئيس.
Leave a Reply