حرية التعبير شرط أساسي لجميع الحقوق السياسية فـي ظل الدول الديمقراطية،«من دونها قد نُساق للذبح مثل الخراف» كما قال مرة جورج واشنطن. ولقد أثارت الهجمات الإرهابية على مكتب مجلة «شارلي أيبدو» فـي باريس يوم ٥ كانون الثاني (يناير) موجة بيانات استنكار لا تُعَد ولا تُحصى مدافِعةً بلا هوادة عن حرية التعبير، من دون اعتبار مضمون ومادة المجلة التي استدعت الهجوم – رغم كونه خاطئاً ومداناً – وخطابها ورسومها المقزِّزة والمثيرة للجدل.
هنا فـي الولايات المتحدة، نحن محظوظون بأن أول تعديل أجراه الآباء المؤسسون للدستور كان لحماية الخطاب السياسي وغيره من سطوة الحكومة. فـي أميركا، لا رأي يُعتبَر غير قانوني فـي أي وقت من الأوقات، أو هكذا ينبغي. دستورنا يشجع على خلق سوق لتداول الأفكار والآراء، حيث كل النصوص والخطابات والخطابات المضادة يمكنها أن تتنافس من دون تدخل من قبل الحكومة.
إلّا أنَّ إبقاء الحكومة فـي منأى عن تنظيم الخطاب والكلام لا يضمن أنه حر طليق. فكما شاهدنا على مدى السنوات القليلة الماضية، تكبُّد الكثير من الأميركيين الأحرار الأثمان الباهظة من أجل حقهم فـي الكلام الحر الذي جهروا به. فالحديث بكلامٍ «خاطىء» قد يكلف الناس وظائفهم وسمعتهم ووزنهم فـي الحياة العامة.
مهاجمة إسرائيل هي «التابو» الأول فـي هذا البلد المليء بالتناقضات من أجل مداراة «الكيان المصطنع» على حساب الضحايا ، ومن المحرَّمات التي لا يجوز أبداً خرقها، أما الباقي كله، مثل تدنيس الأديان وحتى تناول الذات الإلهية، فمسموح به تماماً، بل يُعتبر جزءاً من النقاش الصحي وتفاعل الأفكار. وهكذا إذا قام كاتب ما مثلاً بشتم أنبياء الله جميعاً ورؤساء أميركا قاطبة فهذه مسألة فـيها نظر، ولكن إذا قام هذا الكاتب بمجرد البحث والتدقيق فـي المحرقة النازية وانتقد تصرفات اسرائيل فـي تهجير السكان الأصليين وبناء المستوطنات لغيرهم فتلك جريمة لا تُغتفَر! ولكن يحق للإسرائيليين فـي فلسطين المحتلَّة ما لا يحق لغيرهم بالتجديف والتسويه للأديان. كما يحق لهم أنْ يسخروا مثلاً من السيِّد المسيح ويسيؤوا للمسيحيين فـي العالم من خلال برامج تلفزيونية.
فـي فرنسا هناك قانون يمنع معاداة السامية ولا توجد قوانين فـي بلد مثله تحمي المسيحية والإسلام من تطاول مجلات صفراء مثل «شارلي أيبدو». فلنفترض جدلاً لو أن هذه المجلة سخرت من اليهود وإسرائيل؟ وهي قامت سابقاً بطرد أحد رسَّاميها لانه استهزأ باعتناق إبن ساركوزي لليهودية لأسباب مالية.
انتقاد اليهود وإسرائيل يعد معاداة للسامية يعاقب عليه القانون، أما تحقير الاسلام ونبيه فهو حرية رأي. هذا هو المنطق الغربي الأعوج الذي تتشارك فـيه أنظمة خانعة تدَّعي الإسلام والعروبة.
عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، لا يوجد سوق لتفاعل الأفكار. المعسكر المؤيد لنظام الفصل العنصري يمكن أن يفلت من تبعات أشد التصريحات عنصرية وكراهية بحق الشعب الفلسطينيي. فـي المقابل، أولئك الذين يدعمون هذا الشعب المجاهد وحقه فـي الحرية وتقرير المصير، وخاصة فـي وسائل الإعلام، يُفصلون فوراً من مراكزهم مهما علَتْ وارتفعت، ويفقدون مصداقيتهم ويُشتمون بسبب آرائهم المفترض أنها مكفولة حسب الدستور.
وكانت آخر ضحية لقانون حماية إسرائيل غير المُعلن الذي يصد عنها الانتقادات، جيم كلانسي، الإعلامي المخضرم فـي شبكة «سي أنْ أنْ» الذي «تنحى» بعد انتقاده آلة الدعاية الإسرائيلية على حسابه الخاص على «تويتر».
«انتقِد الصهيونية فـي الولايات المتحدة وانظر إلى أي مدى تفـيدك ‘حرية التعبير’» قال الأستاذ الأكاديمي الفلسطيني الأميركي ستيفن سلايطة فـي تغريدة له على «تويتر» فـي ٩ كانون الثاني (يناير).
سلايطة يعرف أكثر من أي شخص حدود حرية التعبير فـي هذا البلد عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. ففـي الصيف الماضي، طُرد الكاتب الشهير من عمله كبروفسور فـي جامعة «إلينوي» حتى قبل أن يباشر بعمله بسبب آرائه حول الحرب الإسرائيلية الجارية آنذاك على غزة.
غير أنَّ قضيتي سلايطة وكلانسي هما غيض من فـيض فـي قائمة طويلة من المهنيين الذين لاقوا الدهس وتعرضوا للإرهاب الفكري بسبب التعبير عن رأيهم ضد قدس الأقداس إسرائيل. اوكتافـيا نصر، محررة كبيرة سابقة لشؤون الشرق الأوسط فـي نفس الشبكة الإخبارية «سي أنْ أنْ» أقيلَتْ من منصبها بعد ضغوط هائلة من قبل الجماعات المؤيدة لإسرائيل، بسبب تعبيرها عن احترام العالم الديني المسلم المعتدل السيِّد محمد حسين فضل الله. والمعروف أنَّ الراحل السيِّد فضل الله كان يتمتع بشعبية فـي أنحاء العالم الإسلامي بسبب آرائه بشأن المساواة بين الجنسين وتعزيز المثل العليا الإنسانية. لكن إسرائيل لوحدها وصفته بأنه «إرهابي» فقط بسبب دعمه للمقاومة ضد العدوان الإسرائيلي.
كانت هيلين توماس الصحفـية الأسطورة، خريجة جامعة «وين ستايت» العربية الأميركية قد غطت أخبار كل رؤساء أميركا منذ كينيدي حتى أوباما. فـي أيام مهنتها الأولى، ارتقت إلى أعلى درجة مهنية وحققت النجاح فـي عالم الصحافة الذي كان يهيمن عليه الرجال، وأصبحت رمزاً لتمكين وتعزيز مركز المرأة. لكن حدث انها ذات مرة فـي خريف العمر قامت بالإدلاء بتصريحات «مثيرة للجدل» حول إسرائيل، فدُفعت إلى التقاعد المبكر. ثم أبدت آراءها من جديد عن نفوذ اللوبي الصهيوني، فجاء الرد صاعقاً بتجاهل إرث عمرها الإعلامي والمهني من خلال تشويه تعليقاتها ووصفها بأنها معادية للسامية.
حتى منظمة الطلبة الخريجين فـي الجامعة «ألما ماتر» جبنَتْ أمام الإرهاب الإسرائيلي فـي هذا البلد، فأرادت محو اسهاماتها ونزعت جائزة «روح التنوع» من إسمها. وعندما وافتها المنية فـي شهر آب (أغسطس) من عام ٢٠١٣، خاف العديد من الصحفـيين الزملاء الذين كانوا يُعتبرون من شلة أصدقائها، خافوا حتى من حضور وتشييع جنازتها.
ثقافة الخوف سائدة عندما يتعلق الأمر بانتقاد إسرائيل. فـي «صدى الوطن»، لدينا تجربة مباشرةً فـي هذا المجال. كثير من الناس لا يريدون ذكر أسمائهم فـي أي من التقارير التي تستنكر انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي البغيض خوفاً من فقدان وظائفهم.
أي ملاحظات سلبية عن إسرائيل هي دائما «مثيرة للجدل». ولكن أكداس وفـيضانات الكراهية ضد العرب والمسلمين والفلسطينيين نادراً ما تكلف أي شخص ثمناً ناهيك عن فقدان وظيفة أو منصب.
«التعامل مع «حماس» مثل التعامل مع امرأة مجنونة تحاول قتلك.. يمكنك أن توثق معصميها لوقت طويل قبل أن تضطر إلى صفعها»، هكذا غرد الكوميدي بيل ماهر فـي ١٧ تموز (يوليو) الماضي من دون ان تُمَس شعرة من رأسه.
ولكن ماذا لو استُبدلت كلمة «حماس» بإسرائيل؟، فتصوروا، مجرد تصور، ما كان سيحل بهذا «اللامهضوم» وببرنامجه التلفزيوني وبدعواته المكثفة للحديث كضيف شرف فـي الجامعات الأميركية التي يعميها الجهل؟.
Leave a Reply