فاطمة الزين هاشم
تحابّا وهُما على مقاعد الدراسة، غزل الحبّ قصّتهما بخيوط العشق المتوهّجة حتّى أصبحا حديثَ المدرسة كلها، علم والدها بالأمر من إحدى صديقاتها العدوّات، إذ غزلت له بمنوالها الرديء قصصاً مفبركة خارجة عن إطار هدفهما النبيل والمشروع، ممّا حدا بالأب إلى أن يبعد ابنته عن حبيبها لأنّ مستواه الإجتماعي لا يليق بالجاه والسلطة التي تتمتّع بهما عائلة ذلك الأب المتعالي، حيث أرسلها إلى الخارج لتكمل تعليمها الجامعي، انصاعت الفتاة مرغمة لهذا الأمر الثقيل الذي لا تقوى على حمله ولا قوّة لها على التصدّي لأوامر أب متغطرس لا يرى أبعد من أنفه، رغم أنّها كانت الإبنة الوحيدة له والتي كرّس حياته لها بعد وفاة والدتها حيث شملها بكلّ الرعاية والعطف والحنان لدرجة أنها أصبحت كظلّه الذي لا يفارقه إلّا عندما تذهب هي إلى المدرسة ويذهب هو إلى عمله، كانت أنانيّته طاغية عليه، لا يريد أن يأخذها أحد منه حتّى ولو كان عريسها.
علم الشاب بخطّة الأب، فحضر لتوديعها فـي مكان بعيد عن أنظار والدها، كان وداعاً صامتاً، لكنّ نجوى العيون حملت إلى كلّ منهما ما يريدان أن يقولاه، فقد شغلهما شغف الحب فـي الحاضر عن التفكير بالمستقبل، نظر إلى أهدابها الطوال وهي تلقي بظلالها على صفاء خدّيها الناعمين وودّ لو يترك قبلة على جيدها الناصع كالعاج الطريّ الدافئ، فخاطبها قائلاً: «لقد فكّرت مليّاً فـي ضروريّات حياتي فوجدت أنّك يا ملاكي أهمّ وأعظم ما فـي حياتي من ضروريّات، إذ أحبّك حبّاً عارماً، فأنا من الذين يحملون قلوبهم على أكفّهم يا حبيبتي، فهل أنت من اللواتي يُحسِنَّ رعاية القلوب؟ صحيح أنّ قلوبنا هي ملكنا بحيث تقبع خلف صدورنا، لكنّها ملك من نعشق ونحبّ» بقيت صامتة للحظات ودموعها تغسل عذابات قلبها الكسير، ولم تسمعه كلمة يحيا عليها وتذكّره بها كلّما مرّ على ذلك المكان.
سهر تحت نافذتها متجمّداً كأنّه فلكيّ يرصد نجمة علّه يحظى بطلّة منها ولو لثوان تبرد قلبه المحترق أو بنظرة وداع تكون الأخيرة التي تكفـي لأن يحتجزها فـي ذاكرته التي ستقطن بين حناياها وتغلق الباب على النسيان.
سافرت وحملت معها متاعها تاركة قلبها الكسير مع الحبيب الذي يتلوّى على جمر الفراق، حيث لم يعد يلتقي بها إلّا على صفحات الرسائل، وكثيراً ما تقدّمت خطى الليل وأسدلت سكونها على كلّ شيء إلّا على قلبه الذي يرفض الإستكانة ويحثّه على اللحاق بها أينما كانت ومهما بلغ الثمن، كما وكثيراً ما كان يحدّث نفسه: هل يستطيع الزمن الذي يبلي كلّ شيء فـينا، أن يجري على ذكرياتنا فـيبليها بأكفّ النسيان؟ إنّه لا يستطيع، قطعاً لا يستطيع مادام فـي هذا القلب نبض وفـي هذا الكيان المكين من مشاعر.
تواصلا لمدّة ليست بالقصيرة لكنّها مالبثت أن انقطعت أخبارها عنه، حاول أن يتقصّىاها عن طريق صديقاتها لكن دون جدوى، حيث حجب والدها عنوانها الجديد حتّى عن صديقاتها، بقي ثلاث سنوات على هذا الحال من القلق واجترار الألم رافضاً الزواج، مكرّساً وقته لعمله فقط دون غيره من الإنشغالات، فأصابه الإكتئاب وأصبح يتردّد على عيادة الأمراض النفسيّة، وفـي إحدى مراجعاته لطبيبه خرجت فتاة من إحدى غرف العيادة وبيدها ملفّ كان قد طلبه الطبيب منها فإذا بها إحدى صديقات حبيبته الغائبة، وبلمح البصر مرّ عليه شريط سريع من الذكريات جعله يناديها: ألستِ فلانة؟ فأجابته: ألستَ فلاناً؟ فهرعت إليه وأخبرته بمكان وجود حبيبته فـي إحدى المستشفـيات القريبة حيث تتعالج من مرض ألمّ بها وأعادها إلى موطنها بعد أن عجز الأطبّاء عن مداواتها.
أسرع وحمل باقة ورد نديّة وذهب لزيارة الحبيبة وقلبه يزقزق مثل عصفور خارج من قفص، لم يصدّق عينيه عندما وجدها ممدّدة على السرير وقد اختفت معالم الجمال عن وجهها الشاحب وذبل البريق فـي تلكما العينين اللامعتين، إنكبّ عليها يقبّل يديها والدموع تتقاطر من عينيه، فإذا بالحياة تدبّ بها من جديد فنادت: حبيبي أحمد الله الذي جمعني وإيّاك ثانية وأرجو منه أن لا يفجعني بزواجك من غيري، ضمّ يديها إلى صدره قائلاً: «وهل فارقني طيفكِ لحظة واحدة حتّى يكون لغيرك مكان فـي قلبي؟».
دخل فـي هذه الأثناء والدها وفوجئ بذلك المشهد الذي لم يكن يرغب به من قبل، لكن ما رآه من سعادة على وجه ابنته وحبيبها أزاح عنه مشاعر الرفض ووضع سعادة ابنته وشفاءها فـي أولويّات تفكيره، ولم يمض سوى أسبوع واحد حتّى خرجت من المستشفى بكامل قواها الصحيّة وتعافت لأنّ مرضها كان نفسيّاً وليس عضويّاً، وتزوّجا بعد أن أقام لهما والدها عرساً فخماً يليق بحبيبين تعاهدا على الوفاء والإخلاص، وبعد أن كاد الأمل يجرّ أذيال الخيبة فـي حياتهما، لكنّ الأمل قد انتصر أخيراً بقوّة الإصرار على عهد الوفاء.
Leave a Reply