كمال ذبيان
تغيّرت خريطة المنطقة مع «المقاومة الإسلامية» فـي لبنان وباتت هي مَن يحدّدها، بعد أن كانت الدول الإستعمارية هي مَن يضع خطوطها ويرسم جغرافـيتها وينشئ كياناتها السياسية أو الطائفـية، كما حصل قبل قرن مع الإتفاقية البريطانية – الفرنسية التي وقّعها مندوبا الدولتين مارك سايكس وجورج بيكو وعرفت باسميهما «سايكس – بيكو» لإقتسام السلطنة العثمانية بعد هزيمتها فـي الحرب العالمية الأولى، وإقامة الكيان الصهيوني عبر وعد بلفور فـي العام 1917، فإن ما كان قبل مئة عام لن يكون اليوم، ومشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي وضعته إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، مستنسخاً عن مشروع «الشرق الأوسط الجديد» لرئيس الكيان الصهيوني ورئيس وزرائه السابق شيمون بيريز، أسقطته المقاومة فـي الحرب التي شنّها العدو الإسرائيلي على لبنان والمقاومة فـيه فـي 12 تموز 2006 واستمرت 33 يوماً، انهزم فـيها الجيش الإسرائيلي الذي احترقت دباباته الميركافا من الجيل الرابع فـي وادي الحجير وسهل الخيام ومرجعيون ومارون الراس وبنت جبيل، واندحرت النخبة من قواته المقاتلة، لتمزق المقاومة خرائط هذا الشرق الأميركي« الذي رسم حدوده الصهيوني برنارد لويس فـي مطلع ثمانينات القرن الماضي وتبنّاه «المحافظون الجدد» فـي الإدارة الأميركية ليسوقه وينفّذه اليساريان السابقان المعتنقان «للتروتسكية» بول ولفويتز وريتشارد بيرل وتبنّته وزيرة الخارجية كونداليزا رايس، وأمر الرئيس بوش رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت لشن العدوان على لبنان وإنهاء المقاومة ورسم خارطة «الشرق الأوسط».
فكما أسقطت المقاومة «الشرق الأوسط» الأميركي وبعثرت خرائطه بصمودها، فإن ردها بعملية فـي مزارع شبعا استهدفت دورية إسرائيلية على العدوان الذي استهدف سيارتين لها فـي القنيطرة واغتيال عناصر من بينهم جهاد عماد مغنية ومحمد عيسى (أبوعيسى) القائد الميداني البارز فـي المقاومة مع العميد فـي الحرس الثوري الإيراني أحمد علي الله دادي يقع فـي إطار تغيير قواعد الإشتباك وفك الساحات والميادين كما قال الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، ليحدث هذا الأمر تحولاً استراتيجياً فـي الصراع مع العدو الإسرائيلي الذي كان يستهدف الأنظمة العربية ويستفرد الجيوش داخل الكيانات السياسية التي صنعها الإستعمار ليعطل فعاليتها، ويعطي التفوق للعدو الصهيوني الذي هاجم الجيوش العربية فـي 5 حزيران من العام 1967 عند حدود الكيانات وهزمها واغتصب مزيداً من الأرض فـي الضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان، وأبقى لبنان بعيداً عن الحرب مستضعفاً جيشه ومستهزئاً به، وأن دورية من المجندات على دراجات هوائية مع فرقة موسيقية تدخل لبنان فـي الساعة التي تريدها «إسرائيل»، لكن هذا الحلم الصهيوني تبخّر، وهذه الغطرسة اليهودية تكسّرت عند أقدام المقاومة فـي لبنان التي تصدت للغزو الصهيوني مرتين فـي العام 1978 وفـي العام 1982، ووصلت فـي اجتياحها صيف 82 الى بيروت التي كبّدتها المقاومة خسائر بشرية ومادية كبيرة، وفرّ ضباطها وجنودها من أول عاصمة عربية بعد أيام قليلة على دخولها، حيث لقنتها المقاومة درساً بعد أن تمكّنت من تحرير الأرض المحتلة على مدى 22 عاماً، ولم يرسل قادة العدو لا المجندات على دراجات هوائية ولا فرقة موسيقية، بل ألوية من المشاة والمدرعات والمجنزرات والمدافع والطائرات والبوارج، لتقاتل على مساحة لا تتعدى فـي أماكن القتال الكيلومتر الواحد.
فلم تعد «إسرائيل» تملك المبادرة، ولا قرار الحرب والسلم بل أصبح فـي يد المقاومة فـي لبنان كما فـي فلسطين وهي تتمدد الى الجولان، ليكتمل محور المقاومة بوجه العدو الإسرائيلي فتتوحّد الجبهات العسكرية فـي جبهة واحدة على مساحة جغرافـية واسعة، فتتوسّع رقعة عمل المقاومة من غزة الى الناقورة وصولاً الى مزارع شبعا والجولان، فتشتت قوة «إسرائيل» العسكرية، التي كانت تستهدف لبنان فـي حروبها عليه منفرداً، وكذلك تفعل فـي غزة منذ العام 2008، فـي وقت كانت تتصاعد الأصوات منذ العام 1967 بضرورة بناء «الجبهة الشرقية» من سوريا والعراق والأردن لوضع الكيان الصهيوني بين فكي كماشة، وكان لبنان يستثنى من ذلك، على رغم أهمية موقعه الجغرافـي، لأن مسؤوليه كانوا يرفعون شعار «حياد لبنان وقوة لبنان فـي ضعفه».
لقد أعلن السيد نصرالله سقوط الحدود الجغرافـية وإقامة جبهة عسكرية موحدة من المقاومة، لها عمق فـي العراق وإيران، وبهذه المعادلة الجديدة لجهة توحيد الجبهات والساحات والميادين، وتغيير قواعد الإشتباك مع العدو الإسرائيلي، تكون المنطقة قد أصبحت فـي خارطة جديدة، يمكن للمقاومة أن تضرب وتقوم بعمليات فـي أي مكان وزمان، إذا ما تعرّضت لعدوان إسرائيلي، أو قام العدو الإسرائيلي باغتيال أحد عناصر المقاومة، فإن المعركة مفتوحة على كل الإحتمالات، وأن عملية مزارع شبعا كانت فـي هذا السياق، والرد جاء مدروساً ودقيقاً ومقصوداً، وتمّ الإعداد له منذ وقوع جريمة إغتيال المقاومين فـي القنيطرة، إذ أخذت قيادة المقاومة قرار الرد بعد عشر دقائق من وقوع الجريمة كما أعلن السيد نصرالله، واستغرقت عملية الرد نحو عشرة أيام، كان خلالها العدو الإسرائيلي مربكاً، وقيادته تقف على رجل ونصف الرجل عند الحائط كما قال السيد نصرالله، وهي تنتظر من أين سيأتيها الرد، وهذا تحول فـي الصراع مع الكيان الصهيوني، الذي يهرع مستوطنوه الى الملاجئ ويعيشون كوابيس وصول المقاومة إليهم، عبر الأنفاق التي حفروها وأخذوا تهديد السيد نصرالله على محمل الجد أن المعركة المقبلة إذا ما قرّر العدو وغامر فـي حرب على لبنان ستكون فـي الجليل وما بعد الجليل فـي فلسطين المحتلة، بحيث تحوّلت مستوطنات الشمال الى مناطق خالية من السكان، فـي وقت كان أهل الجنوب فـي منازلهم وعلى الشرفات يحتسون القهوة، ويعملون فـي متاجرهم والطلاب فـي مدارسهم والمزارعون فـي مزارعهم، فتبدّلت الصورة عندما كان ابن الجنوب ينزح من القصف الإسرائيلي، ويخاف الذهاب الى حقله، كما يخشى أن يسير فـي شوارع قريته، وبات المشهد معكوساً، الإسرائيلي مختبئ وهارب، والجنوبي اللبناني فـي أرضه وعند تخوم الحدود يعيش حياة طبيعية هادئة، بفضل وجود المقاومة التي أقامت توازن ردع ورعب مع العدو الذي بات يحسب ألف حساب لأي عدوان، وهو بلع رد المقاومة على عدوانه، وأبلغ الأمم المتحدة أنه لن يذهب الى الحرب أو المواجهة الشاملة، وقد ظنّ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أن «حزب الله» المشغول بالقتال فـي سوريا لن يرد، وسيغض النظر عن مقتل ستة من عناصره، وأن إيران تتابع مفاوضات ملفها النووي مع أميركا والدول الست، ولن تفتح جبهة عسكرية، وستطلب من «حزب الله» السكوت عن الإعتداء، ريثما تنجلي صورة المفاوضات، لكن السيد نصرالله كان صريحاً وواضحاً أن لا إيران ولا سوريا ولا أية دولة صديقة أخرى تقرر عن المقاومة ماذا تفعل، وهي اتّخذت قرارها بالرد ووضعت أمامها كل الإحتمالات ومنها أن ترد «إسرائيل» بعدوان على غرار ما حصل فـي العام 2006، وربما يكون أوسع وأقسى، حيث وضعت المقاومة فـي حالة استنفار وجهوزية لصد أي عدوان، وهو ما وصل الى قادة العدو الذين بلعوا عملية مقتل قائد سرية فـي لواء غفعاني وهو برتبة رائد مع جندي وجرح سبعة جنود.
فالحرب لو شنتها «إسرائيل»، كانت المقاومة مستعدة لها، ولو أرادتها من جديد فـ «حزب الله» لن يخشاها كما أكّد السيد نصرالله، الذي بات مطمئناً لقدرات المقاومة التي بدأ العدو الإسرائيلي يقلق من امتلاكها النوعي للسلاح من صاروخ «فاتح 110» الإيراني الصنع الذي يصل مداه الى 350 كلم ويحمل رأساً حربياً يزن حوالي نصف طن، وهذا ما ترك قادة العدو يمتنعون عن الرد، وإن كان نتنياهو أطلق رسائل تحذير وتهديد ومثله فعل أفـيغدور ليبرمان الذي هدد بحرب ثالثة على لبنان، ستكون أعنف من الحربين السابقتين فـي 1982 و2006، إذ ستستخدم «إسرائيل» سياسة الأرض المحروقة بتدمير ليس فقط الضاحية الجنوبية فقط بل بيروت وكل البنى التحتية لإعادة لبنان عقود الى الوراء، حيث يعلم قادة العدو أن مثل هذا التهديد تمّ تنفـيذه فـي حروب سابقة ضد لبنان، وجف «بنك الأهداف» بعد 72 ساعة على بدء العدوان فـي العام 2006، وبقيت صواريخ المقاومة تتساقط على الكيان الصهيوني من حيفا والى ما بعد حيفا، ولم تصل الى تل أبيب لأن المقاومة وضعتها مقابل بيروت، وهي فـي أية حرب مقبلة ستكون فـي بنك أهداف المقاومة الذي فـيه الكثير من الأرصدة التي يحتفظ بها لتكون موجعة لعدو قام على الغطرسة دون أي رادع له.
فالأمن الإسرائيلي الذي كان يصل الى حدود باكستان كما كان يزعم أرييل شارون، فإنه بات محصوراً فـي مساحة جغرافـية ضيقة، وأقام جداراً يفصل بين الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية المحتلة فـي العام 1948، وهي إجراءات لا تمنع المقاومة من الوصول الى كل مكان فـي فلسطين المحتلة، بالصواريخ أو العبوات الناسفة أو الأجساد المتفجرة، وأن تسليح الضفة الغربية هو ما يجري العمل عليه، وأعلن مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي، ضرورة أن تتسلح الضفة الغربية كما هو وضع غزة التي فرضت على العدو الإنسحاب منها وتفكيك المستوطنات الـ 21 الموجودة فـي فضائها، وتحوّل القطاع ذات المساحة البالغة 365 كلم2، الى قوة عسكرية صمدت بوجه العدو الإسرائيلي فـي ثلاثة حروب شنت عليه فـي نهاية 2008 ومطلع 2009، وفـي العام 2012 وفـي صيف 2014، وفـي هذه الحروب التي امتد كل منها الى أسابيع، كانت المقاومة تخرج منها منتصرة بصمودها، حيث سجّلت فـي آخر حرب واجهتها وكانت تدميرية، إمطار المستوطنات بالصواريخ التي وصلت الى تل أبيب وأماكن أخرى، مما أربك العدو الصهيوني.
فما أعلنه السيد نصرالله فـي كلمته بتأبين شهداء القنيطرة عن جغرافـية جديدة للمقاومة، وتغيير فـي قواعد الإشتباك ، ووضع خطة جديدة للمواجهة وفرض على الكيان الصهيوني أن يتعامل مع هذا التطور الميداني، الذي سيبرز فـي الأسابيع والأشهر المقبلة، أن المقاومة الشعبية لتحرير الجولان التي تحدّث عنها السيد نصرالله قبل حوالي العامين، باتت موجودة، وما استهداف موكب المقاومة فـي القنيطرة إلا ضربة استباقية نفّذتها طائرة إسرائيلية ضد «حزب الله» بأنها ستمنع نشوء مقاومة فـي الجولان ولن تكرر ما حصل فـي جنوب لبنان، وهي لن تتخلى عن جبل الشيخ كموقع استراتيجي وخزان المياه للكيان الصهيوني.
Leave a Reply