صبحي غندور
يرى صاحب كل فكر الصواب فـي فكره، والخطأ فـي فكر غيره، لكنْ قليلٌ من المفكّرين من يرى احتمال الخطأ فـي فكره أو احتمال الإصابة فـي فكر الآخر. وهذا منطلق مهم لإمكان نجاح أي حوار بين أفكار وآراء مختلفة، ومع انعدام هذا المنطلق المشترك الذي يحتمل الصواب والخطأ فـي كل رأي، سيسير أي حوار بين رأيين أو موقفـين مختلفـين فـي طريق مسدود.
عوامل كثيرة تدفع بعض الناس إلى الانحباس فـي خنادق فكرية فـيعتقدون أنّهم بذلك يصونون أنفسهم من مخاطر جحافل «الفكر الآخر»، بينما هم فـي الواقع يسجنون ما لديهم من فكر ورؤى، فلا «الآخر» يصل إليها أو يتفاعل معها، ولا هم يتطوّرون أو يكسبون فكراً جديداً بل يبقون على ما هم عليه جامدين متحجّرين.
هكذا هي أحياناً مشكلة بعض الحركات السياسية، الإسلامية أو القومية، أنّها لم تحسن إدراك المفهوم الصحيح للمفاهيم المتداولة أو للانتماءات الدينية والقومية، وقام هذا البعض بخلط المفهوم الفكري والثقا فـي مع المضامين والمواقف السياسية، فأصبحت أخطار الممارسة مقرونة بمفهوم الانتماء أو الهُويّة نفسها. من أجل ذلك خرجت مدارس فكرية وسياسية تدين هذا الاتجاه الديني أو ذاك القومي بحالٍ من التعميم لكلّ ما هو «إسلامي» أو «قومي»، بينما لا تجد الحالة الفكرية السليمة تناقضاً ما بين الهويّة الثقا فـية القومية وبين المضمون الحضاري الإسلامي لها.
هي أيضاً مشكلة مصطلح «العلمانية» الذي يخضع للكثير من الذمِّ والمدح دون اتفاقٍ أولاً على مفهوم المصطلح نفسه، وعلى التمييز المطلوب بين التجارب العلمانية فـي العالم. فالمسلمون فـي أميركا – كما غيرهم من أتباع الديانات الأخرى- يمارسون كامل حقوقهم الدينية فـي ظلِّ مجتمع قائم على النظام السياسي العلماني. لكن علمانية الدستور الأميركي اختلفت مثلاً عن علمانية التجربة الفرنسية من حيث النشأة، كما من حيث التطبيق أيضاً. ففرنسا اختارت العلمانية تاريخياً من أجل وضع حدٍّ لتدخّل الكنيسة فـي شؤون الدولة، بينما الآباء الدستوريون فـي أميركا، و فـي مقدّمتهم توماس جيفرسون، اختاروا النظام العلماني لضمان حرّية تعدّد الطوائف الدينية ولعدم طغيان طائفة على أخرى. فأميركا لم تشهد تاريخياً الصراع الذي جرى فـي أوروبا بين رجال الكنيسة وبين رجال وأمراء الدول، ولذلك اختلف المفهوم واختلف التطبيق رغم وحدة التسميات. وهذا ينطبق أيضاً على الفارق بين التجارب العلمانية الشيوعية وغيرها من الأنظمة العلمانية الديمقراطية، حيث سعت العلمانية الشيوعية لفصل الدين عن المجتمع كلّه، لا لفصل الدين عن الدولة فقط كمفهوم عام لمصطلح العلمانية.
إنَّ «العلمانية الأميركية» لا تفصل الدين عن الدولة كلّياً كما هو الحال مثلاً فـي فرنسا وتجارب أوروبية أخرى، ولا يجد أي رئيس أميركي حرجاً فـي الذهاب أسبوعياً للكنيسة من أجل الصلاة، والحرص أحياناً على التغطية الإعلامية لهذا الأمر، كما هو الحال أيضاً فـي جلسات الكونغرس التي يتمّ افتتاحها بقراءات من كتب مقدّسة، بينما لا يُتصوّر قبول ذلك فـي تجارب علمانية أوروبية. فالعلمانية الأميركية تشجّع على الإيمان الديني ولا تحاربه، وتقوم المؤسسات الحكومية بدعم المراكز والمؤسسات الدينية (وبعضها إسلامي)، وتتمّ الصلاة فـي مؤسسات حكومية وتشريعية
بشكلٍ مشابه تماماً لما يحصل فـي كثير من البلدان العربية والإسلامية. وحقوق الناس فـي ممارسة شعائرهم الدينية (بما فـي ذلك مسائل الشكل واللباس) هي مصونة بحكم القانون. وهذا أمرٌ لا توفّره مثلاً التجربة العلمانية الفرنسية أو حتّى التركية إلى وقتٍ قريب.
إذن، رفض العلمانية بالمطلق، أو الدفاع عنها بالمطلق، هو إجحاف بحقِّ المفهوم والتجارب التنفـيذية له. فالعلمانية، فـي التجربة الأميركية، هي لضمان حقوق كل الطوائف والأديان ولمنع هيمنة إحداها على الأخرى، بينما يتمّ استخدام العلمانية فـي تجارب عالمية أخرى للحدِّ من دور الدين فـي المجتمع.
فالتوافق على فهمٍ مشترَك لمعنى ومضمون أي مصطلح فكري هو المدخل الأهم لأي جهد فكري متعدّد الآراء. هذا الأمر ينطبق حتّى على ما يندرج تحت خصوصيات قائمة داخل الأمَّة الواحدة. فالحلُّ لا يكون برفض المصطلح لمجرّد اختزان مفاهيم عن تجارب محدّدة سلبية تحمل تسمية المصطلح نفسه، إذ المشكلة هنا تكمن فـي أنّ المصطلحات كلّها تعرّضت إلى تجارب تطبيقية سلبية ومسيئة: فـي الفكر الإسلامي والفكر القومي والفكر العلماني، كما على صعيد شعارات الحرّية والديمقراطية والوطنية.
ومن غرابة الأمور، أنّ التشويه حدث ولا يزال يحدث فـي البلاد العربية لمصطلحات فكرية ولمفاهيم كانت هي الأساس فـي تغيير إيجابي بكثير من أرجاء الأمَّة العربية، و فـي مراحل زمنية مختلفة، بينما تنتعش مفاهيم ومصطلحات أخرى تحمل أبعاداً سلبية فـي الحاضر والمستقبل إذا ما جرى الركون إليها أو التسليم بها. فمصطلح «الشرق الأوسط» أصبح أكثر تداولاً الآن من تعبير «الأمَّة العربية». ومصطلح «المصالح الطائفـية والمذهبية» أضحى أكثر انتشاراً من الحديث عن «المصلحة الوطنية». والاحتلال الأجنبي تحوّل إلى «تحرير من نظام ديكتاتوري»! و«الخصخصة» أصبحت بديلاً لواجبات الدولة فـي التخطيط الاقتصادي الشامل و فـي ضمان «العدل الاجتماعي»، أمّا «الديمقراطية» فجرى اختصارها فـي آليات انتخابية ودمغ الأصابع بالحبر!.
إنَّ العقود الثلاثة الماضية شهدت ضغوطاً أميركيّة كثيرة من أجل التطبيع العربي مع إسرائيل، كمدخل مطلوب لمشروع «الشرق الأوسط الكبير»، وهو المشروع الذي جرى الحديث عنه علناً فـي مطلع التسعينات بعد مؤتمر مدريد للسلام، وبما كتبه شيمون بيريز آنذاك من دعوة (لتكامل التكنولوجيّة الإسرائيليّة والعمالة المصريّة مع المال الخليجي العربي) فـي إطار «شرق أوسطي جديد» يُنهي عمليّاً «الهويّة العربية» ويؤسّس لوضع إقليمي جديد تكون إسرائيل فـيه بموقع القيادة الفاعلة عملياً.
أيضاً، نجد المنطقة العربية تعيش الآن مخاطر التهديد للوحدة الوطنية كمحصّلة لمفاهيم أو ممارسات خاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من الأوطان العربية، وما يزال، من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.
هي الآن مرحلة حاسمة ليس فقط فـي «تاريخ» العرب، بل أيضاً فـي«جغرا فـية» أوطانهم و فـي «هويّتهم» و فـي مستقبل أجيالهم.
شّعوب كثيرة فـي «شرق» الأرض و«غربها»، و فـي «شمالها» و«جنوبها»، خلُصت إلى قناعة بضرورة نبذ العنف بين بلدانها وداخل مجتمعاتها الخاصّة، وباعتماد النّهج الديمقراطي فـي الحكم والعلاقات بين المواطنين والأوطان، بينما للأسف تزداد ظواهر الانقسام والعنف الدّاخلي فـي أرجاء المنطقة العربية، ويستمرّ تهميش القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، ويتواصل استنزاف الجيوش العربية الكبرى فـي معارك أمنية داخلية، وتتعمّق المفاهيم و«الهويّات» الإنشطارية فـي كل أرجاء الأمَّة على حساب «الهُويّة الوطنية» الواحدة و«الهويّة العربية» المشتركة!.
إنّ الحروب الأهليّة هي طاحونة الأوطان فـي كلّ زمانٍ ومكان. وهاهي المجتمعات العربيّة أمام تحدٍّ خطير يستهدف كلَّ من وما فـيها. هو امتحان جدّي لفعل المواطنة فـي كل بلدٍ عربي إذ لا يمكن أن يقوم وطنٌ واحد على تعدّدية مفاهيم «المواطنة» و«الهويّة». وحينما يسقط المواطن فـي الامتحان يسقط الوطن بأسره.
إنّه لواقع حال لا يعبّر فقط عن أزمة فهم المصطلحات، إذ لو كان الأمر كذلك لأضحى الحل فـي طباعة قاموس جديد!. حقيقة المشكلة هي أنّ وراء كل مصطلح مشوَّه، تجارب محلية سيئة أو أهداف خارجية مشبوهة، وبعض هذه التجارب السيئة مستمرٌّ فـي الحكم، والبعض الآخر فـي المعارضة! من هنا يمكن البدء فـي تصحيح المفاهيم والاتفاق على المصطلحات، ثمّ العمل المشترك لتصحيح الواقع.
وللحديث صلة عن مفاهيم (الحوار) و(الجدل) و(التفاوض) وما نحتاجه عربياً.
Leave a Reply