علي حرب
عندما انفجرت قنبلة فـي شارع المتنبي فـي بغداد عام ٢٠٠٧، أغرقت الدماء أرصفة الشارع العريق المعروف كمركز ثقافـي رئيس لبيع الكتب والمنشورات، ولقي ٣٠ شخصاً على الفور حتفهم. لكن المذبحة لم تتمكن من قتل الشارع وما يمثِّل من رمزية أدبية فكرية، بل تجدد واستمر واحة للأفكار والأدب وتحول إلى أيقونة عالمية لوصل البشر بالثقافة ومثالاً حياً على نبذ العنف والتطرف. «شارع المتنبي يبدأ هنا»، هو عنوان المعرض الفني لإحياء وتكريم الشارع المرموق، افتتح فـي المتحف الوطني العربي الأميركي فـي ٦ آذار (مارس) الحالي. الشاعرة العراقية الأميركية أليس الالوسي التي نسقت المشروع، أعربت عن أملها ان يساعد المعرض الجمهور على التعلق بالشارع وبما يمثل.
«على عكس الجنود الأميركيين الذين يموتون فـي هذا النزاع، لن يتم نشر أسماء معظم الضحايا العراقيين وستُرسَل هوياتهم إلى المجهول الذي يلفه الموت فـي العاصمة العراقية هذه الأيام»، هكذا كتب مراسل «واشنطن بوست» آنذاك أنطوني شديد بعد تفجير عام ٢٠٠٧. ولكن الصحفـي الراحل رفض أنْ يسمح بنسيان اسم الشارع الذي كان مركزاً حيويا لبيع الكتب والمطبوعات.
لذا كتب شديد نبذة دامغة معبِّرة عن بائع الكتب محمد حياوي، الذين لقي حتفه فـي الهجوم فوصل صدى مديحه وتأبينه له إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة حيث شعر الجميع بالحزن الشخصي على وفاته.
وتأسس مشروع «شارع المتنبي يبدأ هنا» بعد فترة قصيرة من الانفجار الإرهابي، عندما شعر بائع كتب فـي مدينة سان فرانسيسكو اسمه بيو بوسوليل، الذي كان من المعارضين لحرب العراق، بالمسؤولية الشخصية لتكريم زملائه باعة الكتب فـي بغداد.
«شارع المتنبي يبدأ هنا. لكن لا نهاية له»
وقالت الالوسي«أدرك بو بوسوليل أنه لو كان فـي بغداد فـي ذلك الوقت، لكان متواجداً فـي الشارع ذاته».
وقد دشن بوسوليل الحملة من خلال عرض ١٣٠ منشوراً مؤلفاً من القصائد المتعلقة بالشارع المنكوب.
وتحول المشروع إلى معارض فـي جميع أنحاء مدن العالم، بما فـي ذلك سان فرانسيسكو ونيويورك وبوسطن وبورتلاند وبروكسل والقاهرة– والآن فـي ديربورن. كما تسلط المبادرة الضوء على االرسائل الفنية فـي أغلفة الكتب والمطبوعات بأحرف كبيرة ورسومات.
ومن بين تحف المعرض توجد مخطوطة تعرض خطوط الشعر العربي والنوتات الموسيقية وصورة جندي يحمل بندقية آلية. «اصنع الكتب، لا الحرب» شعار ظهر فـي أحد جوانب المعرض كما عرضت قطع من كتاب فـي شكل يد مع إصبع أحترق جزئياً وهو يكشف عن صفحة أخرى وعن طبقة أخرى. وهناك أيضا فـي المعرض مختارات من الشعر تحكي قصص شارع المتنبي.
وكانت الآلوسي قد قررت المشاركة فـي المشروع عندما طلبت شركة للطباعة فـي بروكلين عرض واحدة من قصائدها على منشور. وتقدمت الشاعرة بطلب للحصول على منحة من منظمة «تحدي فرسان الفنون» العام الماضي وحصلت على منحة مطابقة بقيمة ٢٠٠٠٠ دولار من «مؤسسة النايتس فاونديشين» لنقل المعرض الى ديترويت.
وقالت «إن المشروع أُنشيء للرد على أي هجوم على الثقافة الأدبية، حيث يتجمع الناس حول الكتب والفنون والأفكار».
وأضافت الشاعرة الآلوسي أنها تريد من زوار المعرض استشفاف روابط أكثر عمقاً تجمعهم مع الشارع البغدادي من خلال الفن. وتحدثت بحماس عن الوقت الذي قضته فـي العراق خلال طفولتها وعن مناهضتها للعقوبات وللحرب. قد أرادت من مشروع «شارع المتنبي يبدأ هنا» أن يكون وسيلة للأميركيين كي يتعرفوا عن كثب على نكبة العراق، التي تتحمل مسؤوليتها الإدارة الأميركية ولو جزئياً.
واستطردت «ما هو فريد فـي هذا المشروع هو أن هناك رغبة عنيدة لعدم المضي إلى الامام. لقد شعرت دائماً بالإحباط بسبب عدم وجود تواصل فـي هذا البلد حول ما يجري فـي العراق. ومن ثم يطلب هذا المشروع من الناس تخصيص يوم واحد، يوم تفجير واحد واستخدامه بمثابة عدسة لدراسة ما حدث قبل ذلك وبعد ذلك ووصله بما يحدث فـي العراق الآن».
وأضافت أن المعرض يتطرق أيضاً إلى مجموعة متنوعة من الموضوعات الأخرى، بما فـي ذلك الرقابة والحرية الأكاديمية. واستشهدت الآلوسي بكتاب فـي المعرض تم وضعه من قبل ثلاثة فنانين محليين كرد فعل على اغلاق وخفض تمويل المكتبات العامة فـي ديترويت.
الشاعرة العربية الأميركية عاشت فـي العراق فـي سن مبكرة وآخر مرة زارت فـيها البلاد كانت فـي عام ١٩٩٩ عندما كان العراق يعاني اقتصادياً من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة مما أدى إلى شل اقتصاده ودفع الناس إلى حافة المجاعة.
وتابعت «بالإضافة إلى الكتب، فـي ذلك الوقت كان العراقيون يبيعون كل شيء على شارع المتنبي».
وأوضحت الآلوسي «أن المشروع يتحدى الهجمات على الثقافة فـي العراق اليوم حيث يقوم تنظيم «داعش» الإرهابي بتدمير التحف القديمة وبشن الحرب على جميع أشكال الفنون فـي المناطق التي يسيطر عليها. ففـي الشهر الماضي فقط، دمر الإرهابيون الأعمال الفنية القديمة التي لا تقدر بثمن فـي متحف الموصل».
وواصلت الحديث بالقول «أنا لا أعتقد أن أي شخص توقع نشوء «داعش». لقد وقعت حرب ضروس بين إيران والعراق، وبعد ذلك نشبت حرب الخليج ثم جاءت العقوبات، ومن ثم حرب الخليج الثانية. لا أحد توقع أن هذه ستكون النتيجة النهائية بعد سنوات عديدة من الدمار والمصاعب والمعاناة. من الصعب للغاية استيعاب ما يحصل، إنَّ أسوأ انواع الخوف نعيشه الآن»
واستطردت وهي تحبس دموعها، أنها لم تشاهد فـيديو الإرهابيين وهم يسحنون المتحف فـي الموصل. وأعربت عن ان بصيص الامل الوحيد هو المتحف الوطني فـي بغداد، والذي تعرض بدوره للنهب أثناء الغزو الأميركي فـي عام ٢٠٠٣ وافتتح فـي وقت مبكر ردَّاً على الهجمات فـي الموصل ليبعث برسالة تحد للإرهابيين. وأكدت الآلوسي أنه «فـي قلب هذا المشروع تكمن مسألة تسليط الضوء على الفن والأدب كضحايا الحرب والمجموعات الإرهابية مثل «داعش» التي لا تريد ان يقرأ الناس فـيصبحوا متمكنين فتمتد جذورهم العميقة ونفوسهم بالتاريخ لان هذا يتعارض مع ما تقوله والذي يتلخص الآتي: نحن المسؤولون عن ان نقول لك كيف تعيش حياتك».
سيبقى المعرض مفتوحا حتى ١٢ تموز (يوليو)القادم وتشمل المبادرة ورشة عمل حول كيفـية وضع الكتاب يوم ٢٨ آذار (مارس) الجاري الساعة ٢ ظهراً، وورشة عمل حول أساليب الكتابة لطلاب المدارس الثانوية فـي ١٦ أيار (مايو) المقبل عند الظهر.
وافتتح المعرض بقراءة شعرية للكاتبة دنيا ميخائيل، التي تلت قصائد عن الخسارة والحنين الى الماضي (نوستالجيا) كما تجلت فـي تجربتها العراقية الأميركية.
وقالت ميخائيل فـي دردشة مع «صدى الوطن» على هامش المعرض «أتذكر أشياء متناثرة. هي ذكريات تأتي كما لو كانت مشاهد مقتطفة من أفلام مختلفة. الذاكرة هي تجربة حياتك. الفن فـي هذا المشروع كبير، ولكن الرسالة هي أكثر أهمية. هي محاولة لجمع الصور المنثورة واستعادة الذكريات».
Leave a Reply