نبيل هيثم
عشرة ايام، كانت كافـية لكي يستعيد الجيش العراقي وقوات «الحشد الشعبي» السيطرة على مدينة تكريت مسقط رأس الرئيس العراقي السابق صدام حسين.
قد توحي تلك الفترة الزمنية القصيرة التي انتهت بتحرير معظم احياء تكريت من قبضة تنظيم «داعش»، بأن الحديث يدور عن «انتصار وهمي»، كما قال المتحدث الرسمي باسم «داعش» (ابو محمد العدناني) فـي تسجيله الصوتي الاخير، لكن الوقائع الميدانية والتعقيدات السياسية تشي بعكس ذلك.
إنفجار سيارة مفخخة في تكريت |
على المستوى الميداني، تكتسب معركة تحرير تكريت اهمية استراتيجية قصوى، فتحريرها من قبضة التكفـيريين يعني استكمال القوس العسكري حول مدينة الموصل، استعداداً للمعركة الحاسمة، التي من شأنها ان تقلب مسار الحرب ضد «داعش»، بالنظر الى ما تمثله ثاني كبرى مدن العراق من رمزية بالغة، التي منها اعلن «البغدادي» قيام «الخلافة»، ومن احد مساجدها كان ظهوره العلني النادر، علاوة على ما تمثله من خط امداد لمناطق السيطرة «الداعشية» على امتداد الاراضي العراقية والسورية، من سنجار الى الرقة.
علاوة على ذلك، فإن معركة تكريت ابرزت معادلات جديدة من الناحية الميدانية، إذ كان ملفتاً فـيها غياب الدور الاميركي فـي مقابل بروز الدور الايراني، الذي بلغ ذروته فـي حضور الجنرال قاسم سليماني على الأرض بشخصه فـي جبهات القتال، الى جانب الجيش العراقي و«الحشد الشعبي».
وانطلاقاً من هذا الواقع، فقد كانت الانتصارات التي حققها الثلاثي المتمثل بالجيش العراقي والحشد الشعبي والحرس الثوري الايراني فـي تلك الفترة الزمنية القصيرة مؤشراً جديراً بالاهتمام، يستحضر المثل القائل بأن «اهل مكة ادرى بشعابها»، اذا ما قورنت تلك الانتصارات السريعة بعجز الترسانة الحربية الغربية، المتمثلة فـي طائرات «التحالف الدولي»، عن تحقيق نتائج ميدانية ملموسة منذ بدء الحملة العسكرية على «داعش» فـي آب الماضي.
وللمناسبة فإن تكريت ليست التجربة الاولى فـي هذا الإطار، فقد سبقها بضع وقائع مماثلة بدءً بنجاح السوريين الاكراد فـي تحرير مدينة عين العرب (كوباني)، تزامناً مع تحرير محافظة ديالى على ايدي الجيش العراقي و«الحشد الشعبي»، وصولاً الى الانتصارات التي حققها الجيش اللبناني ضد الجماعات التكفـيرية فـي جرود رأس بعلبك، وقبلها نجاح الجيش السوري و«حزب الله» فـي التصدي للكثير من هجمات الارهابيين، لا بل تحريرهما مناطق عدّة على امتداد الاراضي السورية.
وعلاوة على ذلك، فإن معركة تكريت نسفت بعض التنظيرات الاميركية بشأن خطوة الركون الى «القوى الشيعية» فـي تحرير «مدينة سنّية» مثل تكريت. وعلى هذا الاساس، اتت المشاركة الملفتة من قبل ابناء العشائر العراقية – سواء أكانت رمزية او فاعلة – لتسحب كل الذرائع التي تتحجج بها الولايات المتحدة للانفراد فـي العمل العسكري ضد «داعش»، ومن بينها المخاوف من الصراع المذهبي، وهو ما سينسحب بالضرورة على المعركة الكبرى فـي الموصل.
وفـيما كان عدد من الخبراء الاميركيين يطرحون تساؤلات بشأن مصير سكان الموصل، فـي حال تم تحريرها من قبل الجيش العراقي وقوات «الحشد الشعبي»، ومدى قبولهم «بفـيض جديد من الغرباء الشيعة من جنوب العراق لحفظ أمن مدينتهم بعد القضاء على داعش»، على حد قول احد هؤلاء الخبراء، فإن مشهد استقبال اهالي تكريت للجنود العراقيين والمتطوعين – الذين كان بعضهم معمّماً – ربما اجاب على كل تلك التساؤلات.
اما التعقيدات السياسية المرافقة لمعركة تكريت فلم تقل فـي اهميتها عن الجانب العسكري، فقد بدا واضحاً ان ايران قد نجحت فـي فرض حضورها على الساحة العراقية بفعالية، واثبتت نفسها رقماً صعباً فـي القتال ضد الارهاب «الداعشي»، وهو امر لا يقتصر على الميدان العراقي بل يشمل جبهات قتال اخرى، قد يكون ابرزها ما يجري على جبهة درعا، التي تشهد تحولات مهمة لصالح الجيش السوري، وسط حديث، بات مؤكداً، عن دعم ايراني، واشراف مباشر احياناً، وعبر وسطاء احياناً اخرى، من قبل الجنرال سليماني.
واذا ما اضيف الى كل ذلك ما بين سطور شهادات وزير الخارجية الاميركي جون كيري ووزير الدفاع اشتون كارتر ورئيس الاركان مارتن ديمبسي امام الكونغرس، مباشرة بعد وصول الجيش العراقي وقوات «الحشد الشعبي» الى الشطر الشمالي من تكريت، لتبيّن ان الادارة الاميركية باتت مستعدة للقبول، ولو على مضض، بدور ايراني فاعل فـي الحرب ضد «داعش».
ولا يخرج عن هذا الاطار ايضاً ما صرّح به جون كيري بشأن الاسد، وقوله انه لا بد ان يكون جزءً من الحل السياسي فـي سوريا، ما يشي بأن الاميركيين باتوا مستعدين بشكل اكثر للتسليم باهمية الحضور الايراني على الجبهات المشتعلة فـي سوريا والعراق على اعتاب التوصل الى اتفاق نووي فـي محادثات لوزان وبروكسل.
ولكن تلك التحوّلات الاستراتيجية على المستويين العسكري والسياسي ربما تحتاج لكي تتبلور وتترسخ الى انتظار تفاعلها فـي الميدان الاهم فـي العراق، وهو مدينة الموصل، التي ما زالت تحت قبضة «داعش»، والتي يتوقع ان تكون معركة تحريرها، الى جانب المعارك الاخرى فـي اروقة الديبلوماسية، اكثر تعقيداً، خصوصاً فـي ظل السباق الايراني-الاميركي-التركي على المشاركة فـيها.
والواضح أن الاستعدادات لتحرير الموصل تجرى على قدم وساق، حيث تؤكد الأطراف كافة رغبتها فى المشاركة فـي العمليات.
وفـيما غابت الولايات المتحدة عن معركة تكريت، بعد اصرار عراقي مباشر على ذلك، وربما اصرار غير مباشرة من الايرانيين، كما تردد، فإن الاميركيين سيسعون بالضرورة الى ان يكونوا جزءً من المعركة الجديدة فـي الموصل، التي تبدو اكثر حساسية ومصيرية من سابقتها، وهنا يكمن بيت القصيد فـي تحديد ما اذا كانت معركة تحرير ثاني اكبر المدن العراقية ستتم بالتنسيق او بالتنافس بين واشنطن وطهران.
ولعل ما يضيف الى المسألة مزيداً من التعقيد هو المفاجأة المدهشة التي تمثلت فـي اعلان تركيا عزمها المشاركة فـي معركة الموصل، حسبما اعلن وزير الدفاع التركي عصمت بلمار مؤخراً، ما يثير تساؤلات بشأن التحولات المحتملة فـي موقف رجب طيب اردوغان، خصوصاً ان الموصل تمثل بالنسبة الى الاتراك اهمية كبرى، بعدما شعروا بأنها سلخت منهم فـي التفاهمات التي اعقبت نهاية الحرب العالمية الاولى.
وعلى هذا النحو، يتوقع ان تتقاطع كل التعقيدات عند مداخل الموصل مع بدء الاستعداد للمعركة الحاسمة والتي لم يحدد بعد توقيتها، وان كان الحديث يدور عن الفترة الزمنية الممتدة بين الربيع الحالي ومطلع الصيف المقبل.
ويبدو مؤكداً ان معركة تكريت ستكتسب طابعاً مصيرياً سواء بالنسبة الى «داعش» او بالنسبة الى ايران والولايات المتحدة، وهو ما دفع بأحد المراقبين الى وصفها بأنها «ستالينغراد الحرب الداعشية»، فـي اشارة الى معركة ستالينغراد التي شكلت تحولاً فـي مسار الحرب العالمية الثانية.
ويضاف الى ذلك كله الحضور الكردي المثير للاهتمام فـي محيط الموصل، ما يعني ان اية عملية لتحرير المدينة لا بد ان تكون مرتبطة بتفاهمات مع حكومة اقليم كردستان العراق.
وبالنسبة الى «داعش»، فإن الهزيمة فـي الموصل ستحدد مصير التنظيم المتشدد فـي العراق، ليس لجهة كسر شوكته فحسب، بل فـي انتزاع عاصمة «الخلافة»، وتضييق الخناق على مراكز قيادته فـي سوريا.
ومن الناحية العسكرية، فإن سقوط الموصل يعني سقوط كل المناطق الواقعة تحت سيطرة «داعش» فـي شمال العراق، بحيث لن يبقى للتنظيم المتشدد سوى مدينة الرقة السورية، حيث مراكز القيادة والتحكم، وبعض البقع فـي المناطق الصحراوية فـي الانبار، حيث ستكون ملاذاً للفارين منهم، على غرار ما حدث منذ العام 2006.
وفـي حال سارت الامور على هذا النحو، فإن «داعش» سيجد نفسه محاصراً بفك كماشة من الشرق (الجيش العراقي والحشد الشعبي)، والغرب (الجيش السوري وقوات الدفاع الوطني)، والشمال (وحدات حماية الشعب الكردية)، ومن السماء حيث تواصل طائرات التحالف الدولي غاراتها.
ولهذا السبب فإن التوقعات الميدانية توحي بأن «داعش» سيخوض معركة حياة او موت فـي الموصل، وهو سيحاول التشبث بالمناطق التي يسيطر عليها فـي عاصمة «الخلافة»، وربما يعمد الى شن هجمات ضد القوات العراقية فـي أماكن أخرى لتشتيت جهودها. وفـي كل الحالات فإن معركة الموصل ربما تؤشر الى تحولات استراتيجية فـي الحرب على التنظيم المتشدد.
اما بالنسبة الى الاميركيين، فمن المؤكد ان معركة الموصل ستطرح تساؤلات عدة على ادارة الرئيس باراك اوباما، ولعل ابرزها المفاضلة بين وجود فرق أميركية مشتركة للإشراف ميدانيا على الهجوم النهائي.. وبين التسليم بدور ايراني اساس سواء خلال الهجوم او بعده.
معركة معقّدة !
وتفرض مدينة الموصل تحدياً كبيراً بالنسبة الى الحكومة العراقية وشركائها فـي الخارج.
وتضم مدينة الموصل فسيفساء من الأديان والأعراق، وهي باتت العاصمة الرمزية لـ«دولة الخلافة»، ولا توازيها فـي الاهمية سوى مدينة الرقة التي تعد العاصمة العسكرية.
وتفـيد تقديرات أميركية بأنه ما بين ألف وألفـين من مسلحي «داعش» يتمركزون داخل الموصل التي تقع على واحد من أهم الطرق التي يستخدمها «داعش» فـي نقل الجنود والإمدادات إلى شمال العراق من سوريا.
ووفق الملخص الذي كشفت عنه «القيادة المركزية الأميركية» فـي شباط الماضي، يمكن أن تشمل القوة المهاجمة خمسة ألوية من الجيش العراقي، وثلاثة ألوية أصغر من قوات «البشمركة» الكردية، وألوية عراقية للدعم. وفـي ظل ظروف مثلى ومع تخطيط دقيق، فإن القوة المخطط لها، التي تشمل 20 إلى 25 ألف جندي، قد تكون كبيرة بما يكفـي لتحقيق النصر على «داعش».
وربما يبالغ تنظيم الدولة فـي رد فعله ويسرّع من زواله من خلال أعمال وحشية تثير رفضاً لوجوده وتَحوّلاً من جانب إلى جانب.
ويمكن تسريع أي من هذه الاحتمالات من خلال شن ضربات جوية تقوم بها قوات التحالف والقيام بعمليات نفسية مدعومة من قبل الولايات المتحدة تتولى السيطرة على شبكات الاتصال اللاسلكية وتسمح بالتواصل مع الجمهور بشكل مباشر.
ومن شأن القوة المهاجمة أن تُخدم بشكل جيد من خلال الاستيلاء بشكل انتقائي على مواقع رمزية مثل مطار الموصل، ومعسكر الغزلاني العسكري المجاور، وحتى جسور دجلة.
وبعد النجاحات فـي تكريت، يتوقع ان يلقى بثقل العملية على كاهل الجيش العراقي خصوصاً انه يحظى باحترام مواطني الموصل.
ولكن ذلك يطرح تحديات كبرى يفترض ان تتم معالجتها قبل بدء الهجوم، سواء لجهة التدريب والتجهيز او لجهة التحسب لعمليات انتقامية قد يشنها «داعش» فـي مناطق اخرى فـي العراق لتشتيت الجهود عن المعركة الاساس.
وفـي هذا الإطار، لا بد من الاشارة الى ان معركة الموصل يفترض ان تحشد ثلاثة على الأقل من أقوى وحدات الجيش المتبقية شمال بغداد، الأمر الذي سيؤدي إلى تقليص القوة العسكرية العراقية فـي العاصمة إلى النصف، ما يترك تأمين مركز الحكومة العراقية إلى حد كبير بأيدي «وحدات الحشد الشعبي» الشيعية ووحدات وزارة الداخلية.
تركيا .. ومعركة الموصل؟!
بعد تحفظات على اكثر من جبهة، ابدت تركيا رغبتها فـي المشاركة فـي معركة الموصل.
ولا يمكن فهم الموقف التركي المتغير الا باستحضار عدد من العوامل المؤثرة لدى صناع القرار فـي انقرة.
وبالنسبة الى تركيا، فإن الموصل كانت تعد جزءً من اراضيها حتى العام 1918، حين احتلتها القوات البريطانية، وذلك برغم توقيع «هدنة مودروس» فـي العام 1918 بين السلطنة العثمانية ومعسكر الحلفاء فـي الحرب العالمية الاولى.
اثر ذلك، وقعت تركيا «اتفاقية لوزان» فـي العام 1923، التي شكلت عملياً النهاية الرسمية للسلطنة العثمانية والاعتراف بالجمهورية التركية الجديدة وفق الحدود الجديدة.
ولا بد من الاشارة هنا الى ان قضية الموصل ظلت خارج «اتفاقية لوزان»، حيث اتفق الطرفان على البت بوضعها النهائي من خلال «عصبة الامم»، التي اوفدت لجنة تقصي حقائق وأوصت بأن تبقى المدينة تابعة للعراق، وقد وافقت تركيا على ذلك فـي العام 1926.
ومن المنظور التركي، تبدو مدينة الموصل، ومحافظة نينوى عامة، ضمانةً لمواجهة الطموحات الكردية، كما ان محافظة نينوى، بمساحتها ومواردها وتركيبتها الديموغرافـية، تمثل السد الذي يمكن أن يمنع الاتصال الفعال بين كردستان العراق والمواقع الكردية فـي سوريا، وبالتالي تسمح بأن تبقى المشاريع الاستقلالية الكردية، فـي سوريا والعراق، على شكل أقاليم جغرافـية مطوقة ومعزولة، ما يمنع الأكراد الأتراك من الاستفادة من المتغيرات الجديدة.
وربما تكون المشاركة الإيرانية فـي معركة تحرير تكريت، عاملاً إضافـياً يشجع تركيا على المساهمة البرية فـي معركة الموصل.
Leave a Reply