كمال ذبيان
هل بدأت عملية اقتلاع المسيحيين من المشرق العربي، بقرار أو تواطؤ دولي، تحرّض عليه دول أوروبية، مستغلة الأحداث التي تجري فـي العراق وسوريا، وما حصل قبلهما فـي لبنان، لنقل المسيحيين الى فرنسا خصوصاً وأوروبا عموماً، حيث صرّح وزيرا خارجية وداخلية فرنسا لوران فابيوس وبرنار كازنوف فـي 28 تموز عام 2014، وبعد شهر على غزو تنظيم «داعش» لمحافظة نينوى حيث الغالبية المسيحية من السكان، والانهيار المفاجئ للجيش العراقي فـي 10 حزيران وتسليم الموصل الى «الدولة الإسلامية فـي العراق والشام»، وهو ما دفع نصف مليون مواطن من مختلف المذاهب المسيحية الى ترك منازلهم والفرار باتجاه دول الجوار فـي لبنان وسوريا بعد أن هجرتهم منها «داعش» وهم فـي أغلبيتهم من المسيحيين الآشوريين والسريان.
مقاتلون من وحدات حماية الشعب الكردي أمام كنيسة في قرية آشورية(رويترز) |
لقد سكت الغرب عن تهجير المسيحيين ولم يتقدم لحمايتهم، كما فعل فـي القرن التاسع عشر إثر المجازر التي حصلت بين الدروز والموارنة فـي جبل لبنان وامتدت الى مناطق أخرى فـي سوريا، إذ قررت فرنسا حماية المسيحيين، وأخذت منهم كما فعلت الدول السبع التي شكّلت الوصاية على الطوائف اللبنانية إثر أحداث 1840 – 1860، والبروتوكول الذي وقع بين الدول التي كانت تهدف من الفتنة الطائفـية التي اندلعت، الدخول الى السلطنة العثمانية التي بدأت تضعف لترثها فـي المنطقة، وقد تحركت فرنسا لحماية المسيحيين، فـي حين تشجعهم مع دول أخرى على ترك أرضهم فـي عملية «ترانسفـير» خطيرة يشهدها مطلع القرن الحادي والعشرين، فـي وقت يقوم اليهود وعبر الوكالة العالمية التي أنشأوها بنقل الجاليات اليهودية الموجودة فـي عدد من الدول مستغلين أحداثاً معينة، كما حصل مع انهيار الإتحاد السوفـياتي ومنظومته الإشتراكية، إذ تمّ نقل حوالي مليون و200 ألف يهودي من دول الاتحاد السوفـياتي الى الكيان الصهيوني الغاصب، وفـي أكبر عمليات الترحيل التي شهدها العالم، والتي سبقتها عمليات أخرى تمّ نقل اليهود الى «إسرائيل»، كان أبرزها «يهود الفالاشا» من أثيوبيا، بالإضافة الى انتقال اليهود من العديد من الدول العربية بعد اغتصاب فلسطين وإثر حرب حزيران 1967، كما حصل انتقال جماعي ليهود من دول أوروبية وأميركا الجنوبية والشمالية، وكانت آخر الدعوات التي أطلقها رئيس حكومة العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي دعا يهود فرنسا للمجيء الى فلسطين المحتلة، لكي تحميهم من الإرهاب الذي ضرب فرنسا من خلال مجزرة جريدة «شارلي إيبدو»، حيث استغلّها نتنياهو، وما تعرّض له مواطنون يهود من أعمال انتقامية، ليطالب بعودة اليهود الى «أرض الميعاد» وفق ما جاء فـي التوراة.
ومع دعوة نتنياهو لعودة اليهود الى «إسرائيل»، فإن فرنسا ودولاً أخرى كانت تدعو مسيحيي المشرق للهجرة إليها، وقد فتحت الأبواب لهم، إذ أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند فـي أيلول الماضي عن أن بلاده ستمنح تأشيرات الهجرة لمسيحيي العراق الذين استقبلت منهم 1500 مواطن، ونحن نرحب بإندماجهم التام فـي المجتمع الفرنسي، وهو ما يفسّر الإهتمام الدولي بنقل المسيحيين من العراق وسوريا، وقد فتحت السفارات أبوابها لقبول النازحين من البلدين، وقد تنبّه الكرسي الرسولي فـي الفاتيكان إلى ما يحصل مع المسيحيين، وكيف تنظم جمعيات غير حكومية رحلات هجرة لهم لترك بلدانهم فـي وقت يدعوهم البابا الى التمسّك بأرضهم ويطالب المجتمع الدولي بحمايتهم بدل اقتلاعهم من أرضهم وقد تناقص عددهم منذ بداية القرن الماضي، بسبب الأوضاع السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية، إذ كان عدد المسيحيين فـي العراق حوالي مليون ونصف مليون مواطن، ويشكّلون نحو 5 بالمئة من السكان، والآشوريون 3 بالمئة منهم، وأن عددهم تراجع بعد الغزو الأميركي للعراق ليصل الى 500 ألف مواطن، لينتهي وجودهم مع غزو «داعش» لمحافظة نينوى، مع بقاء بضعة مئات منهم فـي عدد من المدن، حيث تعرّضت كنائسهم الى التدمير والنهب.
أما فـي سوريا فإن المسيحيين الذين كانوا مع مطلع القرن الماضي يشكّلون 25 بالمئة من السكان نصفهم من الطائفة الأرثوذكسية، وقد بدأت أعدادهم بالتناقص الى نحو 12 بالمئة، وتراجع مع الأزمة السورية، إذ تعتبر سوريا مهد المسيحية، كما أن بلاد ما بين النهرين شهدت بدايات اعتناق الرسالة المسيحية، وفلسطين يكاد ينعدم فـيها الوجود المسيحي التي وُلد فـيها السيد المسيح ومنها انطلق ليبشّر مع تلامذته بالعقيدة المسيحية أو الديانة الجديدة التي انتشرت فـي الهلال الخصيب ومنه الى إنطاكية وأوروبا والعالم.
فهذا الوجود المسيحي المهدد بالانقراض، هو ما تعمل له دول فاعلة فـي مجلس الأمن الدولي التي تحاول تمرير مشروع قرار بترحيل المسيحيين من المشرق على أن تبدأ العملية بمسيحيي العراق وسوريا فـي المرحلة الأولى، وقد تناقص عددهم فـي لبنان الى نحو 30 بالمئة من عدد السكان وهم لا يبلغون الـ 600 ألف مواطن، وفق آخر الإحصاءات، إذ إن الهجرة التي بدأوها منذ القرن التاسع عشر، ارتفعت مع الحرب الأهلية.
وأقلقت محاولات ترحيل المسيحيين قيادات مسيحية فـي لبنان والتي تنسق مع بكركي التي تخشى أيضاً على الوجود المسيحي فـي لبنان، وهو الوحيد فـي الدول العربية التي يرأس فـيها شخص مسيحي الجمهورية، وللمسيحيين مشاركة فعالة فـي السلطة ومؤسسات الدولة، حيث ينتاب الخوف دوائر الفاتيكان من أن يخسر المسيحيون عموماً والموارنة خصوصاً رئاسة الجمهورية، بما يعرض الوجود المسيحي للخطر والاضمحلال أيضاً، ولا يعود للمسيحية جذور، وهو ما تسعى له جماعة «المسيحية المتصهينة» أو مَن يسمون أنفسهم «المحافظون الجدد» الذين ينتظرون عودة المسيح الثانية، ولتحصل هذه العودة، لا بدّ أولاً من إقامة «إسرائيل الكبرى»، ولتبرير هذه العودة، فارتكازهم هو على أن المسيح الذي ظهر ليس الحقيقي بنظر بعض الخارجين على المسيحية ولتبرئة اليهود من صلبه، وأن الظهور الحقيقي للمسيح سيكون مع اكتمال مشروع «إسرائيل الكبرى» التي أظهرت الوقائع استحالة حصولها، وأن ترحيل المسيحيين جزء من الترويج لمقولة، أن المسيح لم يأتِ ولو أتى لكان له أتباع، وهذا ما يتطابق مع الشعار المشهور الذي رفعه اليهود لاغتصاب فلسطين وتمرير مشروعهم للاستيلاء عليها، بأن رفعوا عبارة «شعب بلا أرض لأرض بلا شعب»، فأنكروا وجود الشعب الفلسطيني وتمّ طرده من أرضه وتهجيره على يد العصابات الصهيونية التي هوّدت المدن والقرى، وأقامت المستوطنات وأسكنت اليهود الذين أتوا إليها من أصقاع الأرض تحت شعار «أرضك يا «إسرائيل» من الفرات الى النيل».
والمسيحيون فـي المشرق العربي يتعرضون لمؤامرة ترحيلهم من أرضهم، حيث تعمل دول أوروبية على تنفـيذ مشروع لاقتلاعهم، ونقل حوالي ثلاثة ملايين مواطن من العراق وسوريا، ليقيموا توازناً مع المسلمين فـي أوروبا وتحديداً فرنسا القلقة من تنامي ظاهرة الأصولية الإسلامية، وعدم اندماج المسلمين فـي مجتمعها كما فـي مجتمعات أخرى، وهو ما شجّع جماعات عنصرية ومتطرفة أن ترفع شعارات «لا لأسلمة الغرب»، وبدأت تنمو ظاهرة الانتقام من المسلمين.
فترحيل المسيحيين هو مشروع غربي أوروبي يقف وراءه «لوبي يهودي»، يقدم الدعم لجماعات إرهابية تكفـيرية، تقوم بأعمال القتل والتهجير، لتحقيق «الخلافة الإسلامية»، وهو ما يبرّر لـ «إسرائيل» إعلان «يهودية الدولة»، وأن تطهرها من الفلسطينيين فـي عملية تهجير جديدة، تحت شعار أن المسلمين فـيها هم «إرهابيون»، بعد أن بات الفلسطينيون المسيحيون يشكّلون نسبة قليلة جداً، لا تتعدّى 1 بالمئة من عدد السكان إذ تراجع عددهم الى الآلاف بعد أن كانوا يشكّلون نسبة 30 بالمئة من السكان.
Leave a Reply