كمال ذبيان
تسيطر حالة من «الستاتيكو» على الوضع السياسي فـي لبنان الذي يمر من أزمة الى أخرى دون أن يسقط فـي الحروب والحرائق المشتعلة من حوله، فـيحافظ على استقراره الداخلي بضبط الوضع الأمني، بالرغم من الانقسام السياسي فـي المواقف، والانجذاب الى لعبة المحاور، وارتباط كل فريق بتحالفات إقليمية ودولية.
وتتصدّر أزمة رئاسة الجمهورية ما يعانيه لبنان من عدم انتظام مؤسساته الدستورية، وما يمثّله وجود رئيس للجمهورية على رأس الدولة، ومدى الحاجة الى صلاحياته الدستورية التي انتقلت الى مجلس الوزراء مجتمعاً، حيث الإرباك يحيط بالسلطة التنفـيذية وممارستها لها فـي غياب رئيس للبلاد إذ إن الخلاف حول هذه الممارسة كاد أن يطيح بالحكومة، للتفسيرات المتناقضة التي أدلى بها هذا الفريق أو ذاك حول آلية عمل الحكومة، وما هي المهام المنوطة بها، وما هي المسائل التي يمكن أن تتطرّق إليها وتبحثها وتقرّها، إذ إن الدستور لم ينتبه لمثل هذا الواقع فـي الفراغ الرئاسي الذي طال لأكثر مما هو متوقّع، لا بل لم يكن أحد يتوقّع أن لا تحصل انتخابات لرئاسة الجمهورية أو أن تتعطّل.
فالرئاسة الأولى كانت دائماً وفـي تاريخها صناعة خارجية، تتدخل دول فـي تسمية رئيس الجمهورية ثمّ انتخابه، وهذا ما حصل منذ العام 1943 حتى تاريخ استقلال لبنان وانتخاب بشارة الخوري أول رئيس للجمهورية بتأييد ودعم بريطاني الى الرئيس ميشال سليمان الذي تمّت تسميته من قبل أميركا ومصر وفرنسا والسعودية، ومن دون اعتراض إيران وسوريا، وتكرّس فـي اتفاق الدوحة بقطر فـي اجتماع القوى السياسية اللبنانية المتصارعة فـي 20 أيار 2008.
وفـي هذه الدورة، فإن المؤشرات السياسية والمعلومات المتداولة، تكشف عن تراخي الدور الخارجي، أو شلل تأثيراته، وهو ما أظهرته حركة الموفدين الدوليين الذين لم يتمكّنوا حتى الآن من إيجاد حل للأزمة الرئاسية، إذ إن القرار الدولي – الإقليمي الذي يشجّع ويحث اللبنانيين على سد الفراغ فـي رئاسة الجمهورية والإسراع فـي انتخاب رئيس للجمهورية، إلا أن مفاعيله ضعيفة على القوى السياسية اللبنانية، المنقسمة فـيما بينها على ثلاثة مرشحين مفروزين على ثلاث كتل نيابية، 8 آذار تدعم ترشيح العماد ميشال عون و14 آذار تؤيّد ترشيح سمير جعجع، وكتلة وسطية يمثّلها النائب وليد جنبلاط رشحت النائب هنري حلو، حيث لا يستطيع أي من المرشحين تأمين فوزه بنيل الأكثرية المطلقة من عدد النواب أي النصف زائداً واحد ما يساوي 65 نائباً، وأن كل طرف لم يتمكّن من أن يؤمّن تأييد الطرف الآخر لمرشحه لضمان انتخابه، كما لم تنجح محاولات الاتفاق على مرشح خارج المرشحين الثلاثة وما يسمونه بالتوافقي الذي يلقى اعتراض العماد عون و«حزب الله» وحلفائهما لأنهم يرفضون تكرار تجربة الرئيس ميشال سليمان فـي رئاسة الجمهورية الذي انتخب كمرشح توافقي ومن موقعه قائداً للجيش الذي أبقى المؤسسة العسكرية على مسافة واحدة من الجميع، إلا أنه وفـي نهاية عهده انقلب على وسطيته كما يقول فريق 8 آذار، لينعطف الى جانب سياسة 14 آذار، ويغيّر موقعه من دعم المقاومة والعلاقة مع النظام السوري الذي أوصله الى قيادة الجيش، مع بدء الأزمة السورية فانحاز الى الحلف المعادي للرئيس بشار الأسد، وقد ظنّ أنه سيسقط، وكان فـي رهانه هذا يعوّل على التمديد له فـي رئاسة الجمهورية، لكن الرئيس سليمان يرد على خصومه بأنه التزم «إعلان بعبدا» الذي صاغه وأقرّته طاولة الحوار بكامل أعضائها ويقضي الى تحييد لبنان عن صراعات المنطقة والمحاور.
فالجمود الذي تعيشه انتخابات رئاسة الجمهورية التي دعا إليها رئيس مجلس النواب 21 مرة ولم يتأمّن لها النصاب القانوني، وقد تمتد الى أجل غير مسمى، وإن كان البعض فـي لبنان يحاول أن يربطها بأزمات المنطقة وتطوراتها والبرنامج النووي الإيراني الذي انتهت المفاوضات حوله الى إتفاق – إطار، لكنه لم يحرّك ملف رئاسة الجمهورية الذي مازال الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله يؤكّد أنها صناعة لبنانية فـي وقت يربطها غيره بالتوافق السعودي – الإيراني على أهميته، لكن طهران رفضت أن تكون رئاسة الجمهورية فـي لبنان مرتبطة بأي شأن آخر إقليمي أو دولي، وأن المسؤولين الإيرانيين أبلغوا المفاوضين حول البرنامج النووي أنه منفصل عن أي ملف آخر فـي المنطقة، كما أن القيادة الإيرانية أكّدت للموفد الفرنسي فرنسوا جيرو مدير دائرة أفريقيا والشرق الأوسط فـي الخارجية الفرنسية، أن انتخابات رئاسة الجمهورية هي شأن لبناني وليس إيرانياً، وأن الموضوع يبحث فـي لبنان ومع الأطراف اللبنانية، وهو ما أنهى مهمة جيرو قبل أكثر من شهرين إذ جاء الى لبنان ورأى كيف أن الرئاسة فـيه معقدة، بسبب الانقسام السياسي، ولعدم تمكّن اللبنانيين من التوافق على مرشح لا يكون تحدّياً لأحد، وهذا المرشح قد يكون متوفراً بمرشحين يتم التداول بأسمائهم كقائد الجيش العماد جان قهوجي أو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أو النائب السابق جان عبيد، أو الوزير السابق زياد بارود، إلا أن كلاً من هؤلاء يوجد «فـيتو» على اسمه، أولاً من الأطراف المسيحية الفاعلة، كون كل مرشح لا يمثّل بيئته المسيحية سياسياً وشعبياً، بل سيكون رئيساً ضعيفاً أمام رئيسين لمجلس النواب والحكومة يمثّلان بيئتهما الطائفـية، وهو ما يرفضه المسيحيون عموماً والموارنة خصوصاً، لكن هؤلاء لا يتّفقون على مرشّح له تمثيل من بينهم، حيث رمى المسلمون السياسيون الكرة فـي ملعبهم، بأن يتّفقوا على مرشح وهم يؤيّدونه، وباعتقادهم أنهم لن يتّفقوا، فـي وقت لن يتّفق المسلمون أيضاً على مرشّح وهو أحد أسباب الحوار بين «تيار المستقبل» و«حزب الله» وتثبيت الأمن ثمّ البحث عن مرشح توافقي، لأن حوار «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» لن يصل هو أيضاً الى اتفاق على مرشح منهما أو من خارج ترشيحهما، لكن «حزب الله» متمسك بترشيح عون طالما لم ينسحب وأن إيران لا تتدخل فـي الموضوع، فـي حين أن الرئيس سعد الحريري لا يستطيع تأمين حياد السعودية التي تضع «فـيتو» على ترشيح عون الذي أعلن هو نفسه ذلك، وهذا ما يدع إنتخابات رئاسة الجمهورية تدور فـي حلقة مفرغة.
فبعد أكثر من شهر يكون قد مرّ عام على انتهاء ولاية الرئيس سليمان ولم ينتخب خلف له، وقد وضع لبنان أمام مأزق فراغ رئاسة الجمهورية الذي بات يؤثّر على وضع المؤسسات التي بات التمديد عنواناً لها، بحكم الأمر الواقع الذي يفرض نفسه على الحياة الرسمية والسياسية، ويكشف أن النظام السياسي فـي لبنان يعيش أزمة وجوده واستمراره، لأنه منتج للخلافات ومفجّر للفتن والحروب، كما أن الطبقة السياسية أثبتت عدم أهليتها القيادية ولا جدارتها السياسية فـي القيام بواجب النهوض بلبنان والتقدم به، إذ بممارستها الفئوية والطائفـية والمصلحية، برهنت على أنها بعيدة عن تحمّل المسؤولية الوطنية، وهي لديها القناعة أيضاً أن لا أحد يعمل على تغييرها، بسبب الطائفـية السياسية التي سلّطت زعماء طوائف على اللبنانيين الذين تحوّلوا من مواطنين الى رعايا عند القوى السياسية الطائفـية.
فرئاسة الجمهورية لم تكن فـي أزمة، لو أن مَن هم فـي موقع المسؤولية فـي لبنان عملوا على تطبيق اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب الأهلية ولم يُنهها، وأول بنوده الإصلاحية هي إلغاء الطائفـية السياسية، فكانت الرئاسات الثلاث خارج التصنيف الطائفـي أو التوزيع الطائفـي الذي لم ينص الدستور على أن تكون رئاسة الجمهورية للموارنة، ورئاسة مجلس النواب للشيعة، ورئاسة مجلس الوزراء للسّنّة، بل هو عُرف تحوّل الى ما يشبه النص الدستوري جرى الإتفاق على توزيع السلطات مؤقتاً بين الطوائف وفق المادة 95 من الدستور، ريثما تلغى الطائفـية السياسية، وهذه آفة هذا النظام الذي قيل إن الطائفة فـيه نعمة والطائفـية نقمة وهي التي تحوّلت الى أزمات سياسية ودستورية وحروب أهلية.
فالرئاسة الأولى المحجوزة للموارنة فـي لبنان، الذين إن خيّرتهم بين لبنان ورئاسة الجمهورية لاختاروا الثانية، وهي مشكلة الساسة الموارنة، وكلّ منهم مرشح دائم للرئاسة، وهذه أسباب إضافـية، لعدم التمكّن من انتخاب رئيس للجمهورية، إذ إن هذا الموقع يقترح البعض أن يكون لكل المسيحيين من كل المذاهب، وهو ما كان عليه منذ إعلان دولة لبنان الكبير فـي العام 1920، إذ تبوّأه أشخاص من مذاهب مسيحية غير مارونية، مثل أيوب تابث وبترو طراد، وهو ما حصل أيضاً فـي رئاسة الحكومة التي تولاها إميل إدّه، ورئاسة مجلس النواب التي آلت الى محمد الجسر، لكن ميثاق عام 1943 بين بشارة الخوري ورياض الصلح وزّع الرئاسات الثلاث على الطوائف الرئيسية المارونية والسنّيّة والشيعية، وهو ما حرم الطوائف والمذاهب الأخرى مسيحية وإسلامية من الوصول إليها، وهو ما شجّع النائب كمال جنبلاط فـي مرحلة الصعود الوطني والتقدمي والقومي واليساري أن يطرح برنامجاً إصلاحياً للحركة الوطنية اللبنانية فـي أبرز بنوده إلغاء الطائفـية السياسية، وقانون انتخاب على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة تعتمد النسبية، واعتماد الكفاءة والنزاهة فـي الوظائف إلخ…
هذه البنود اعتمدت فـي وثيقة الوفاق الوطني فـي الطائف، لكنها لم تنفّذ، وهو ما يوقع لبنان فـي أزمات دائمة تهدده بأمنه واستقراره، وتفرض عليه الاستعانة بالخارج لحل أزماته المدمرة.
Leave a Reply