صبحي غندور
اختار الأوروبيون الذين قاموا بحملاتٍ عسكرية على بلاد الشرق العربي، من أواخر القرن الحادي عشر حتّى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر، اسم «الحملات الصليبية» كتوصيف لحروبهم التوسّعية من أجل تبريرها أمام شعوبهم بالادّعاء أنّها من أجل الوصول إلى القدس، مهد السيد المسيح عليه السلام. وأدرك العرب آنذاك بطلان هذا التبرير الأوروبي فأطلقوا على هذه الحملات اسم «حروب الأفرنجة»، خاصّةً أنّ قبائل عربية مسيحية عديدة قاتلت ضدّ الغازين الأفرنج إلى جانب المسلمين العرب.
هكذا أيضاً جرى خداع شعوبٍ عديدة فـي مراحل زمنية مختلفة من خلال تبرير حروب كثيرة أخرى جرت على مدار التاريخ، حيث ابتدع لها أسماء وصفات لا تُعبّر عن حقيقة أهداف هذه الحروب. ألم تكن حرب إدارة بوش على العراق تحت اسم «الحرب على الإرهاب»؟! ثمّ ألم يُشوّه الأوروبيون معنى كلمة «الاستعمار» فاستخدموها لتبرير احتلالهم لبلدان عديدة فـي آسيا وإفريقيا؟! وألم تفعل ذلك أيضاً الحركة الصهيونية باستغلال اسم «إسرائيل» لتبرير مشروعها الاستيطاني على أرض فلسطين؟!.
ولعلّ أخطر التوصيفات للحروب والصراعات يحدث حينما يحصل استغلال أسماء دينية ومذهبية لوصف حروب ونزاعات هي بواقعها وأهدافها سياسية محض، وهذا ما يجري عادةً فـي الحروب الأهلية التي تُسخّر فـيها كل الأسلحة بما فـيها سلاح الطائفـية السياسية. فالحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت فـي العام 1975 بسبب خلاف بين القوى السياسية اللبنانية حول مسألة الوجود الفلسطيني المسلّح فـي لبنان تحوّلت فـيما بعد إلى «حرب بين المسلمين والمسيحيين»!!.
ولنتخيّل لو جرى اعتبار الصراعات والحروب التي حصلت بين الهند وباكستان أنّها بين المسلمين والهندوس تستوجب الصراعات بين الطرفـين حيثما يتواجدان فـي العالم! أو لو تمّ توصيف الحرب بين الإنجليز والأيرلنديين الشماليين بأنّها حرب بين الكاثوليك والبروتستانت تفرض الصراع بين الطائفتين فـي كلّ أنحاء العالم المسيحي!!.
طبعاً ما كان غائباً فـي هذه الصراعات المشار إليها هو وجود «الطرف الثالث»، الذي تكون له مصلحة كبيرة فـي تصعيد وتوسيع دائرة الصراعات وتأجيج المشاعر الانقسامية بشأنها، وهو الموجود للأسف حالياً فـي كلّ الصراعات والحروب المحلّية الجارية فـي المنطقة العربية. وهذا «الطرف الثالث» الحاضر فـي الأزمات العربية هو مجموعة من الجهات الإقليمية والدولية التي قد تتباين مصالحها، لكنّها تتّفق على هدف جعل الأزمات العربية تأخذ أبعاداً طائفـية ومذهبية وإثنية. فصحيحٌ أنّ هناك خلافاتٍ عديدة بين إيران وبعض دول الخليج العربي، لكن ما المصلحة العربية والإسلامية من توصيف هذه الخلافات بأسماء مذهبية أو قومية؟! ولماذا يحرص البعض على القول إنّ الصراع مع «إسرائيل» ليس بصراعٍ ديني بينما يتمّ استخدام التوصيفات الدينية والمذهبية فـي صراعاتٍ مع أطراف أخرى؟!.
ويسعى الكثير من العرب والمسلمين لنزع الصفة العربية والإسلامية عن جماعات التطرّف والإرهاب، بينما لا يجدون مشكلة فـي تعميم التسمية الطائفـية أو المذهبية على أي خلاف مع فريق سياسي محلّي أو بلد عربي أو إسلامي مجاور.
إنّ المخاطر القائمة حالياً هي ليست على أتباع هذا الدين أو ذاك المذهب فقط، بل هي أخطار محدقة بحقّ الأوطان كلّها، بما فـيها الشعوب والحكومات والمكوّنات الاجتماعية فـيها. فضحايا العنف المسلّح الجاري الآن عربياً، من أيّة جهةٍ كان مصدر هذا العنف، هم من أوطان ومناطق وأديان ومذاهب مختلفة.
إنّ تنظيم «داعش» مثلاً، ينتعش ويستفـيد من هذ التوصيفات المذهبية لصراعات سياسية محلّية أو إقليمية، حتّى من قِبَل بعض من يتحدّثون ضدّه شكلاً ويدعمون ضمناً – ولو عن غير قصد – مبرّرات وجوده حينما يتّجهون بحديثهم إلى «عدوّهم» الآخر، وهو هنا قد يكون من طائفة أخرى أو مذهب آخر أو من دولة أخرى. فكثيرٌ ممّن يظهرون الآن على الفضائيات العربية يبدأون حديثهم ضدّ «داعش»، لكنّهم فوراً ينتقلون إلى الحديث عن «الحالة الطائفـية والمذهبية»، وعن وجود «الخطر الآخر» فـي داخل الوطن أو من دولة مجاورة، ممّا يساهم فـي إعطاء الأعذار لوجود «داعش» ولممارساتها باسم الإسلام، الذي هو كدين براءٌ من فكر هذه الجماعات وأساليبها.
طبعاً، فإنّ هذا النوع من الأحاديث الطائفـية والمذهبية يزيد الآن الشروخ الدينية والوطنية ولا يبني سدوداً منيعة أمام جماعات التطرّف، بل على العكس، يرفدها بمزيدٍ من المؤيّدين. فالمواجهة مع جماعات «التطرّف العنفـي» تحتاج الآن إلى وقف كل الصراعات والخلافات داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وإلى تحقيق أقصى درجات التوافق الوطني والديني حتّى يمكن محاصرة هذه الجماعات وتجفـيف كل منابع الدعم المادي والبشري لها.
فـي الدول الغربية، ما زال الكثير من الآراء يُحمّل الإسلام كدين مسؤولية وجود جماعات التطرّف العنفـي التي تعمل بأسماء مختلفة؛ منها «القاعدة» المنتشرة عالمياً، و«بوكو حرام» فـي نيجيريا، وحركة «الشباب» فـي الصومال، وصولاً الآن إلى جماعات «داعش»، وغيرها العديد من الأسماء العاملة تحت رايات «إسلامية» فـي آسيا وإفريقيا، وبعضها يتحرّك فـي نطاق محلّي فقط، لكن البعض الآخر له امتدادات دولية تصل إلى أماكن مختلفة فـي «العالم الإسلامي»، وفـي القارّتين الأوروبية والأميركية.
إذن، خطر جماعات التطرّف العنفـي بأسماء «إسلامية» موجودٌ فعلاً ولا مجال لنكرانه، ولا يصحّ القول فقط إنّ هذه الجماعات هي «صناعة خارجية» يتمّ الآن توظيفها. فالمشكلة الأساس هي بوجود بيئة مناسبة لنموّ مثل هذه الجماعات فـي الدول العربية والإسلامية، بغضّ النّظر عمّن يبدأ بالزرع وعمّن يحصد «الثمرات» لاحقاً. فلو كانت «الأرض الفكرية» لهذه الجماعات قاحلة ويابسة وغير مرويّة محلّياً، لما أمكن لأيّ زرعٍ خارجي أن ينجح أو أن يحصد ثمار شرّ ما يزرع!. فلو لم يكن هناك فراغ فكري للمفهوم الصحيح للدين وللمواطنة لما أمكن استقطاب هذا الحجم من أتباع هذه الجماعات.
فالمنطقة العربية مهدّدةٌ الآن بمشروعين يخدمان بعضهما البعض: مشروع التدويل الغربي لأزمات عربية داخلية، ثمّ مشروع التقسيم الصهيوني لأوطان وشعوب المنطقة. وما تقوم به جماعات التطرّف الديني العنفـي يساهم بتحقيق المشروعين معاً فـي ظلّ غياب المشاريع الوطنية العربية التوحيدية.
إنّ إعلان وجود «الدولة الإسلامية» فـي العراق وسوريا هو مقدّمة عملية لإنشاء دويلات دينية جديدة فـي المنطقة، كما حصل من تقسيم للبلاد العربية بعد اتفاقية سايكس- بيكو فـي مطلع القرن الماضي، ممّا سيدفع هذه الدويلات، فـي حال قيامها، إلى الصراع بعضها مع البعض الآخر، وإلى الاستنجاد بالخارج لنصرة دويلة على أخرى، وإلى إقامة تحالفات مع إسرائيل نفسها، كما حصل أيضاً خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية.
لكن ليس التطرّف باسم الدين هو المستفـيد الأوحد من تشويه حقائق الصراعات والحروب، بل إنّ المستفـيد الأوّل منها هو المشروع الصهيوني التقسيمي للمنطقة العربية، والذي كان حاضراً بقوّة فـي الحرب الأهلية اللبنانية وبإعلان «دولة لبنان الحر» عام 1978، وبالتشجيع على «حرب الجبل» فـي العام 1983، وفـي دعم الجنوبيين السودانيين للانفصال عن الشمال، وفـي مساندة مشروع انفصال الشمال الكردي عن العراق، وفـي حثّ صُنّاع القرار الأميركي على غزو العراق فـي العام 2003، وفـي الدعم الحاصل الآن لبعض قوى المعارضة السورية على الحدود مع سوريا، وفـي الدعوة لتشكيل جبهة عربية – إسرائيلية مشتركة ضدّ إيران، كما ردّد نتنياهو ذلك مرّاتٍ عدّة خلال الفترة الماضية.
فهل يشكّ أحدٌ بمصلحة إسرائيل ودورها فـي نموّ جماعات التطرّف الديني وفـي وجود دولة «داعش»؟! وأين المصلحة الإسلامية والعربية فـي مواصلة الصراعات والخلافات الفرعية أمام هذا الخطر المحدق الآن بالجميع ؟!.
وإذا لم يستطع العرب وقف خطايا حروبهم وصراعاتهم الداخلية، فليحسنوا على الأقل توصيف هذه الصراعات حتّى لا يخدموا عدوّهم الحقيقي وأفرعه الدولية والمحلّية!.
Leave a Reply