خليل إسماعيل رمَّال
تحتفل «صدى الوطن» بعيدها الثلاثين هذا الأسبوع وبمسيرتها الحافلة التي اذا قيست بعمر الأمم لكانت زاخرة ومديدة ومزهرة. ذكريات هذه الجريدة عامرة بالحكايات والتمنيات والتحديات. اذ تغير العالم والزمن منذ ١٩٨٥ حتى اليوم وانقلبت الدنيا على بعضها فـي فترة ٣٠ سنة فقط من عمر الصحيفة كانت تتطلب فـي السابق قرناً بأكمله.
لن أنسى ما حُييت رؤية العدد الأول من «صدى الوطن» عندما كنت أتمشى وصديقاً أمام مكتبة خاصة على شارع وورن، وكنَّا فـي بداية نشاطنا السياسي والاجتماعي فـي أرض الكنانة ميشيغن. وإذا بنا نلمح فجأةً جريدة بحلَّة جميلة الشكل والمظهر ومنمَّقة الحروف وغنية المضمون فظننا للوهلة الأولى أنها من تصدير الخارج، خصوصاً أوروبا، حيث هاجرت آنذاك معظم المطبوعات اللبنانية وبدأت وقتها الآلة الإعلامية السعودية الهائلة تنفق الملايين من الدولارات على شراء الصحف والذمم مع كتابها ومحرريها وتصرف أكثر على المطبوعات الفخمة ذات الرونق والجودة العالية والطباعة الأنيقة الملونة. ولكن تبددت شكوكنا حالما أمعنا النظر ووجدنا أنها لم تصدر من لندن أو باريس أو واشنطن أو غيرها من المنافـي، بل من هنا من عقر دارنا ومحط رحالنا فـي ديربورن. وقد شدَّنا بشكلٍ خاص عنوان الجريدة العريض الذي حُفر فـي الذاكرة «لمن هذه الجريدة وكيف ستكون؟»، فأقبلنا على العدد التجريبي نلتهمه بقلوبنا قبل عيوننا لأن «صدى الوطن» سدّت فوراً حاجةً وأشبعت رغبة توَّاقة للقراءة والإطّلاع على أحوال وأخبار البلد اللبناني المهزوز مذاك والذي لا يزال كذلك حتى اليوم وعلى وضع العالم العربي والجالية فـي هذا المنقلب من الأرض. قبل «صدى الوطن» كنَّا نحلم بأنْ نقع على قصاصة ورق باللغة العربية لكي نسد بها رمق حب استطلاعنا ونهم ترقبنا للأوضاع المتغيرة.
فـي ذلك الزمن كان شريط الكاسيت هو الملك ووسيلة الاتصال الفضلى، بل الوحيدة، وبمثابة الإنترنيت اليوم، حيث كنَّا نرسل الرسائل الى الأهل فـي لبنان عبر تسجيل شريط كاسيت يصل لبنان بعد شهر أو شهرين او ثلاثة مع مسافر ما حسب التسهيل ثم نستقبل شريطاً جوابياً من الأهل بعد ستة أشهر تكون الأخبار قد ذبلت مثل جريدة الأمس. ولكن حتى الجرائد القديمة كنَّا نقبل عليها إقبال النحل على رحيق الورد. وكما كانت الاتصالات مع الأهل فـي لبنان بهذا العسر هكذا كان العمل الإعلامي حيث كان المراسل يبعث بتقريره عبر الهاتف فـيجري تسجيل صوته ثم تفريغه ثم طباعته بعد تنقيحه وتصحيحه. فـي ذلك الوقت، كان الاتصال بلبنان عبر الهاتف الأرضي لا الخليوي ولا من يحزنون وكان طلب الرقم غير مباشَر عبر السنترال الدولي فـي نيويورك. وهكذا كانت اجواء المهنة الإعلامية فـي بداية مسيرة الجريدة، شاقة وعويصة فـي بلاد الاغتراب، وعلى جيل اليوم أنْ يقدِّر ماذا فعلتْ التكنولوجيا والفضائيات بنا حيث نحصل الآن على آخر الأخبار ثانية بثانية وبأسرع من الضوء ومن خلال كبسة زر ونطلب الصوت والصورة ولو فـي الصين.
لهذا السبب خلال أيام «صدى الوطن» الأولى كان مصير العمل الإعلامي الفشل المحتوم بسبب جملة من التحديات المالية والإعلامية الهائلة، وحتى من ناحية المضمون والاستقلالية والمتابعة من قبل القراء. فطاحل الأدباء العرب المغتربون فـي بداية القرن العشرين فـي بوسطن ونيويورك وغيرها من المدن، من جبران إلى نعيمة وغيرهم من مؤسسي «الرابطة القلمية»، لم يتمكنوا من الاستمرار فـي جريدتهم «الهدى». أما «صدى الوطن» فلم تستمر ٣٠ عاماً فحسب، بل طوّرت نفسها وأجبرت جاليتها على التطور والتأقلم فـي نواحٍ عدة. لقد خبِرتُ ذلك عن كثب بنفسي من خلال تشرُّفـي بأنْ أكون من بين الرعيل الأول الذي عمل فـي الجريدة عندما كنَّا نزاول المهنة الإعلامية بشق الأنفس كما ذكرت سابقاً. وبإمكاني ان أقول بثقة ان الفضل فـي هذا العناد بالاستمرار والتطور والدفع إلى الإمام، رغم سيل القطوعات والعقبات العديدة، يعود الى التوفـيق من الله وبسبب الحلم الذي بدأه اسامة السبلاني وغرس شتلته بالتضحيات الشخصية الجسيمة حتى نما وترعرع وانساب من بين يديه ليصبح ملك كل الجالية. كانت «صدى الوطن» حلماً جميلاً واعداً بدأ فـي عام ١٩٨٥، وحلماً هي تبقى اليوم على الرغم من بلوغها سن الرشد والوعي والنضج وأصبحت أيقونة ومعْلَمَاً من معالم الإنجاز العربي الأميركي فـي العالم بحيث لم يعد بالإمكان تخيل الوجود العربي الأميركي من دون «صدى الوطن»!
بالعودة إلى اكتشافـي وصديقي للعدد التجريبي الأول، أذكر أنه بقي مسمَّراً فـي مكانه يقرأ وهو مشدوه بصدور الجريدة وكأنه غير مصدق لما تراه عيناه، ثم غادر المكان على عجل من دون أنْ يقول كلمة. هكذا «صدى الوطن» صدمتنا بتأسيسها لأنها لبَّت حاجةً ملحة وأساساً فـي حياتنا لم نتوقع حصولها كما صدمتنا إيجابياً باستمراريتها الأسطورية، وادهشتنا بكل القضايا التي أخذتها على عاتقها بكل جرأة دفاعاً عن العرب الأميركيين والمسلمين والكلدان والأقليات المضطهدة الأخرى ونصرة المظلومين والمهمشين اجتماعياً حتى داخل المجتمع العربي.
قد تكون هذه شهادة مجروحة لكنها للتاريخ وهي للتعبير عن تجربة ذاتية تاريخية أيضاً خضنا غمارها منذ البداية منذ عامود «نقاط على الحروف» النقدي الاجتماعي الذي كنَّا نكتبه إلى «رصاص قلم» يُطلق النار على كل الأخطاء والمثالب السياسية والاجتماعية. مبروك وشكر خاص لكل الذين أسهموا فـي بناء هذا الصرح الإعلامي، ومن فريق العمل الأول وحتى الأخير، وخصوصاً لأسامة السبلاني والمرحومة كاي سبلاني وكل الذين مروا على الصحيفة من كتاب وصحفـيين ومندوبين وموظفـين ولكل القراء الأعزاء، وألف مبروك لـ«صدى الوطن» فـي العيد الثلاثين! عقبال المئوية.
Leave a Reply