مريم شهاب
الغلاف أنيق، تخترق السواد فـيه لوحة لامرأةٍ عارية، تتدثر بغطاءٍ من الساتان الأبيض المثير وتنام على جناح رغبة حمراء وتبدو كأنها تطير فـي حلم. أكثر القصص القصيرة داخل الكتاب، مكتوبة بكلام كالشعر الغارق فـي لغة الجسد وشهوته وتأوهاته حتى الوجع. كتبها بذكاء متقن، الكاتب نشأت المندوي تحت عنوان «حين يتكلم الجسد» وكأنه يصور مشاهد سينمائية أو يرسم لوحات إنسانية. يعتني الأستاذ المندوي بتفاصيل قصصه القصيرة، ويتقن تصوير الأحاسيس وخاصة الأنثوية، بحرفـية ورشاقة، تدل على قدرة كاتبها على تقديم شخصياته بسلاسة أحياناً، وأحياناً بغموض دامس. فـي كلا الحالتين لا ينال ذلك من عمق القصص ولا يسطحّانها.
القصة الأولى والتي تحمل عنوان الكتاب «حين يتكلم الجسد». الجسد هنا هو جسد «لونا» الإبنة المراهقة التي تتفتح براعم أنوثتها فـي عالم ضائع، تائه بين الأب والأم المطلّقين، والجد «دقة قديمة» المتزمت بالأعراف والقاسي فـي تربيتها. والمعلمة الجاهلة ومديرة المدرسة التي تنعتها «بالمشاكسة» وتضربها لجرأتها فـي طرح أسئلة بريئة وكتابة بعض خواطرها وما تشعر به من شهوة الجسد وغليان المراهقة. فـي القصة كلام الجسد كثير ومثير ولكن لا أذن صاغية تسمعه وتفهمه.
كتب العديدون عن هذا الموضوع، موضوع الجسد وشهواته ورغباته، ونيرانه عندما تستعر خصوصاً عند البنات. وبعض الكتّاب يجد لذّة فـي الكتابة عن الهم الأساس الأزلي، المرأة والجنس. خصوصاً فـي وقت غاب القارئ المثقف، وفـي زمنٍ يسود الابتذال عالم الإستهلاك الطاحن. ربما من أجل جذب قارئٍ آخر، زاد الأستاذ نشأت جرعة التشويق، فـي مجريات حوادث القصة وغمس قلمه فـي ذلك الحبر الساخن وأنصت لكلام الجسد فـي معظم قصصه.
هذه الكتابات قد تروق للكثير من القرّاء. أنا لست واحدة منهم. فـي الحياة الكثير من المعاناة والآلام تستحق الإصغاء أكثر من كلام الجسد ولوعاته.
«صهريج الحرب يخطف سيقان الأحبة، بلا توقيت، ويعيدها سنابل مُحناة فـي صناديق خشبية». صورة معبرة جداً عن وجع يسكننا جميعاً كشرقيين فـي قصة «الحزن يأتي مبتسماً».
غفوة، وطن للإيجار، ومضة، للضيوف طعم الطفولة وفجر يشبه الذاكرة وغيرها، قصص تستحق التنويه، «بعيداً عن كلام الجسد». لأن الكاتب لا يراعي، لا يلاطف ولا يوارب ولا يخفف الوطأة. يكتب عن الإنسان فـي خوفه وشكوكه وقلقه وقرفه ووحشيته ووجعه وضياعه ورغباته. إنها كتابة، ولو بدت متوترة أحياناً، لكنها مشحونة بنبرات الهدوء والاتزان وقائمة على السرد الغلياني بإيقاع متمهل وبدون ترهل.
لا أدّعي لنفسي الكتابة ولا أتقن النقد الأدبي ولكن كقارئة، برأيي الخاص وقد أكون مخطئة، ذروة هذا العمل الأدبي الجديد للأستاذ نشأت المندوي تتمثل فـي قصة «زهرة القبر». «على بوابة القرية، عند عتبة زقاق الطفولة، توقف، لملم رماداً تناثر كحبات اللقاح على مستنقع الماضي». هذه الكلمات لمست وتراً قديماً موجعاً فـي قلبي. ذكرتني بموت أبي المفاجئ ودفنه المفاجئ منذ سنين عديدة. آلمني عتاب الصبي الملائكة عن جسد والده الغافـي «بلا أنيس». هذا الصبي الذي أصبح شاباً وأتى زائراً لقبر أبيه، ولسبب ما لم يجده. القبر الضائع، ربما يرمز إلى الوطن، الأرض، الأم، الأحبة. ختم الكاتب قصته بصورة معبرة جداً؛ «مال – أي الشاب – نحو الأرض أمسك زهرة بيضاء وحفنة تراب، لفّها بمنديل ودسّها بجيبه مردداً ببطء: سأجعلها حديقة بيتي».
للكاتب الراقي نشأت المندوي كتابات عديدة منها «رائحة التفاح»، «ومرافئ خجولة» بالإضافة إلى كتابه الجديد «حين يتكلم الجسد» كلها قصص رشيقة، ذات معان كبيرة، تشد القارئ، فيتركها مرغماً ويعود لقراءتها ثانية متحمساً.
Leave a Reply