نبيل هيثم
فجأة، ومن دون مقدّمات، اتجهت الانظار مجدداً الى الجبهة الشمالية فـي سوريا، وبشكل خاص الى ريف ادلب، بعدما نجحت فصائل من المعارضة المسلحة، التي تغلب عليها الجماعات الاسلامية مثل «جبهة النصرة» و«جيش الفتح»، فـي السيطرة على مدينة جسر الشغور ذات الاهمية الاستراتيجية، فـي تطوّر ميداني فتح الباب امام تساؤلات تتجاوز عمليات «الكر والفر» الدائرة فـي سوريا منذ اكثر من اربع سنوات، لتطال التحولات الاقليمية، بدءً بالاتفاق النووي المرتقب بين ايران والولايات المتحدة، وصولاً الى الحرب السعودية على اليمن.
لا جدال فـي ان ما حققته «جبهة النصرة» و«جيش الفتح» فـي جسر الشغور يمكن اعتباره، فـي الميزان العسكري، انجازاً ميدانياً مهماً لقوات المعارضة المسلحة، وانتكاسة ليست بالقليلة بالنسبة الى الجيش السوري، فتلك المدينة الريفـية تكتسب اهمية خاصة على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي، بما تمثله كنقطة مهمة تتحكم فـي امدادات الجيش فـي ادلب وطريق سهل الغاب وطريق اللاذقية، ما يعني ان سيطرة الجماعات المسلحة عليها تجعل آلاف الجنود السوريين مهددين بالبقاء دون امدادات تماماً، علاوة على انها قد تمثل نقطة انطلاق لشن هجمات على مدينة اللاذقية الساحلية، والتي تعد احد ابرز معاقل النظام السوري.
وفـي العموم، فإن معركة إدلب تحمل الكثير من المؤشرات الخطيرة سواء لجهة موقعها والغاية من السيطرة عليها، اذ سيكون من الممكن للجماعات المسلحة فـي حال تمكنت من فرض نفوذها فـي هذه المحافظة السورية أن تجعل منها قاعدة مهمة لعملياتها، على غرار ما جرى فـي بنغازي والموصل، وذلك بالنظر الى موقعها الاستراتيجي على الحدود السورية-التركية، واتصالها المباشر بقاعدة الاسناد اللوجستي فـي انطاكية، والقدرة الكبيرة على الانطلاق منها لتهديد المحافظات المتاخمة مثل حلب وحماه واللاذقية.
ولكن، برغم التهليل الذي استقبل به البعض هذا التطوّر فـي ريف ادلب، والتهويل الذي تلاه من قبل البعض الآخر، فإن ما جرى لا يمكن وضعه فـي سياق تغيير المشهد الميداني على نحو دراماتيكي، سواء على المستوى العسكري، حيث من الصعب على الجيش السوري القبول بامر واقع يفرضه المسلحون – مع العلم ان ثمة حديثاً يجري حالياً عن خطة لاستعادة المدينة او على الاقل منع المسلحين من التحرك بحريّة فـيها – او على مستوى التوازنات الدولية، اذ سيكون من المستحيل ان تقبل روسيا، التي تمتلك قاعدة بحرية فـي مدينة طرطوس، لاي جهة باختراق الخط الأحمر الذي يحدد قواعد الاشتباك على الساحل السوري.
وفـي الواقع، لا يمكن فصل ما جرى عن كل سياق المعركة، فليست هذه المرة الاولى التي يتعرض لها الجيش السوري من الجهات الحدودية، وخصوصاً من تركيا، حيث ثمة امكانية لدعم المجموعات المسحلة بالعتاد والعديد.
وفـي المنظور العسكري، طالما ان الجيش السوري فـي حالة اشتباك مستمرة، فذلك يعني ان الجماعات المسلحة، وخصوصاً التنظيمات الاسلامية، لن تكون قادرة على تثبيت مراكز ثابتة، وايجاد نقطة تواصل مع الجبهات الاخرى، ما يجعل من الصعب الحديث عن تغيير دراماتيكي فـي المشهد الميداني.
ومع ذلك، فإن التطورات الجارية فـي ريف ادلب الغربي، وبالنظر الى تفاصيلها، تندرج فـي سياق خطير للغاية يمارسه المثلث الاقليمي المعارض لنظام الرئيس بشار الاسد، والمتمثل فـي كل من تركيا والسعودية وقطر، والذي انكشف دوره سريعاً فـي فتح الحدود الشمالية للمسحلين، وتزويدهم بالاسلحة الاميركية المتطورة، ومن بينها صواريخ «تاو»، وادارة هذه المعركة عبر غرفة عمليات مشتركة فـي انطاكية.
ويبدو واضحاً، ان هذا الثلاثي بات يسعى حالياً الى تسخين الجبهات العسكرية، وتحقيق انجازات ميدانية، يمكن استثمارها فـي مرحلة يمكن وصفها بأنها مصيرية على المستوى الاقليمي.
وليس من قبيل الصدفة ان الهجوم على جسر الشغور – وقبله سيطرة تنظيم «جبهة النصرة» على مدينة ادلب- قد اتى فـي خضم الحديث عن تحريك للحل السياسي فـي سوريا، سواء عبر الجهود التي تقودها روسيا، او من خلال المبادرة الديبلوماسية التي يقودها الوسيط الدولي استيفان دي ميستورا لجمع ممثلين اطياف الصراع السوري فـي جنيف.
ويبدو ان هدف تركيا، التي يقود رئيس استخباراتها حاقان فـيدان معركة ادلب بنفسه، كما ذكرت تقارير غربية، هو السيطرة على محافظة إدلب لتشكل ضغطاً سياسياً فـي المفاوضات المقبلة فـي جنيف، ولكي تستعيد نفوذها بعدما خسرت «الائتلاف» الذي بات شبه منحل وبدون أي مصداقية وحضور، فضلاً عن محاولة تكريس امر واقع جديد، يقود الى اقامة منطقة عازلة فـي شمال سوريا، وهو هدف ينطوي على اهمية استراتيجية بالنسبة الى رجب طيب اردوغان، لارتباطه بالصراع ضد الاكراد.
اما السعودية، فـيبدو انها راغبة فـي البحث عن انجازات ميدانية، بعد فشل عدوانها على اليمن، وشعورها بأن الاتفاق النووي المرتقب بين ايران والولايات المتحدة سيسهم فـي تهميش دورها، وتكريس تراجع نفوذها الاقليمي، الذي بدأت تعاني منه منذ بدء ما صار يعرف بـ«الربيع العربي»، وهو تراجع تبدّى بشكل واضح حين عجزت المملكة النفطية عن تأمين تحالف صلب لحربها ضد الحوثيين، حين حيّدت باكستان نفسها عن «عاصفة الحزم»، وابدت مصر تحفظات على مشاركتها فـي المعركة البرية التي كان مخططاً لها.
واما قطر، فـيبدو انها شعرت، بدورها، ان عدّوتها اللدود مصر قد بات لها دور كبير فـي تأسيس معارضة سورية جديدة، ووجدت نفسها فـي تقاطع مصالح واضح فـي الداخل السوري مع تركيا، التي سهلت ايصال الدعم للفصائل الاسلامية المدعومة من قبل الامارة النفطية، وخصوصاً «جبهة النصرة»، ومع السعودية، التي مارست على ما يبدو ضغوطاً كبيرة لتعطيل اجتماعات قوى المعارضة فـي القاهرة.
ولعل تشكيل جبهة موحدة من قبل ما يعرف بـ«الجيش السوري الحر» (تركيا)، و«جبهة النصرة» (قطر)، وغيرهما من المجموعات الاسلامية (المدعومة من السعودية)، يؤكد تلاقي المصالح بين القوى الاقليمية الثلاث، بما افضى الى اتخاذ القرار بفتح معركة ادلب، التي تمت مناقشة تفاصيلها خلال الزيارة الاخيرة لولي العهد السعودي محمد بن نايف لتركيا قبل اربعة اسابيع.
ويبدو أن فشل الفصائل المسلحة فـي تحقيق انجازات ميدانية على الجبهة الجنوبية فـي سوريا، تبدو ضرورية لبدء ما يعرف بـ«معركة دمشق الكبرى»، وتسارع الاتفاق النووي الإيراني – الأميركي، عززا قوة الاستقطاب ضد سوريا، إلى حد موافقة بعض الفصائل على توسيع العمليات العسكرية فـي الشمال السوري.
ومن المؤكد ان معركة ادلب لم تكن لتتم من دون تنسيق بين القوى الاقليمية الثلاث وبين الولايات المتحدة، خصوصاً ان معركة كهذه ستنقل المواجهة العسكرية / السياسية الى مستوى خطير، يتمثل فـي انها ستلامس الخطوط الحمراء المرسومة على المستوى الدولي بين الساحل السوري والمناطق الداخلية، بما يعني تغيير قواعد الاشتباك الدولية بين روسيا والولايات المتحدة.
وفـي ما يؤكد هذا التنسيق الاميركي-التركي-القطري-السعودي، لم تكن مصادفة ان يتزامن الحديث عن العدوان الذي شنته اسرئيل – الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة برغم الخلافات القائمة بين باراك اوباما وبنيامين نتنياهو – على منطقة القلمون، مع التطورات الجارية فـي الجبهة الشمالية.
ولعل ما يعزز تلك الفرضية ان الغارات الاسرائيلية على القلمون استهدفت مواقع تابعة للواء 93 (دفاع جوي)، واللواء 155 (اسلحة استراتيجية)، واللواء 65 (مدرّع). وتبدو التفاصيل هنا مهمة لفهم حقيقة النوايا الاسرائيلية، فقد درجت تل ابيب فـي غاراتها السابقة على استهداف مقرات عسكرية تحتوي على صواريخ استراتيجية، وهو ما ينطبق على اللواء 155، اما وانها اختارت لواءً مدرّعاً ولواءً للدفاع الجوي فـي بنك الاهداف الاخيرة، فذلك يعني انها اختارت الانتقال الى مرحلة اكثر تقدماً فـي تغيير قواعد الاشتباك داخل سوريا، فـي ظل اشتعال الجبهة الشمالية واقتراب الساعة الصفر لبدء العملية العسكرية التي يخطط لها الجيش السوري و«حزب الله» ضد الجماعات المسلحة فـي ريف دمشق.
من هو «جيش الفتح»
برز اسم «جيش الفتح» مؤخراً فـي المعارك الجارية فـي شمال سوريا، وتحديداً فـي ادلب، وهو تحالف اعلن عن تأسيسه فـي شهر آذار الماضي من قبل «جبهة النصرة»، ذراع تنظيم «القاعدة» فـي سوريا، وعدد من الفصائل الاسلامية والجهادية المقاتلة أبرزها حركة «احرار الشام» المدعومة من السعودية، و«فـيلق الشام» المرتبط بجماعة «الاخوان المسلمين» المدعومة من تركيا، و«جند الاقصى» وهي مجموعة جهادية صغيرة.
ويتحالف ائتلاف الفصائل هذا مع كتائب اخرى بينها «فرسان الحق»، التي تلقت اسلحة اميركية فـي وقت سابق، ومن بينها صواريخ «تاو».
وسيطر «جيش الفتح» منذ آذار الماضي على مواقع رئيسية فـي محافظة ادلب بينها مركز المحافظة.
وتتلقى فصائل «جيش الفتح» دعما خارجيا وتحديدا من قطر والسعودية وتركيا التي تتنافس لكسب نفوذ اكبر فـي صفوف المعارضة المسلحة. ويرى البعض ان تحالف هذه الفصائل جاء نتيجة توافق اقليمي بين الدول الثلاث. والملفت ان «جبهة النصرة» التي تصنفها واشنطن كمنظمة «ارهابية» قد طردت العديد من الفصائل المصنفة «معتدلة»، والمدعومة من قبل الولايات المتحدة من محافظة ادلب خلال العام الحالي، لكنها تتعاون اليوم مع كتائب سبق ان تلقت صواريخ اميركية مضادة للطائرات تم استخدامها فـي المواجهات الاخيرة ضد الجيش السوري.
صاروخ «تاو»: سلاح جديد في المعارك
من الملفت خلال الفترة الاخيرة ان المجموعات المسلحة قد ادخلت فـي ترسانتها صواريخ «تاو» الاميركية، واستخدمتها بكثافة فـي معاركها الاخيرة، ولا سيما معركة جسر الشغور.
وبدأ تطوير صواريخ «تاو» المضادة للدروع (واسمها الكامل هو BGM-71 TOW) من قبل شركة «هيوز» الأميركية فـي منتصف ستينيات القرن الماضي، ودخلت الخدمة لدى الجيش الأميركي للمرة الأولى عام 1970، وهي لا تزال فـي الخدمة فـي جيوش عدد من بلدان العالم مثل إسرائيل وتركيا والأردن والسعودية ودول الخليج ولبنان وإيران. وجرى تطوير أجيال عدة من هذه المنظومة التي تتميز بمدى يصل إلى حوالى 4 كيلومترات، وبرأس حربي يتراوح وزنه بين 3 و6 كيلوغرامات بما يؤمن قدرة اختراق عالية للدروع. وتعتمد هذه المنظومة على التوجيه السلكي شأنها شأن العديد من الصواريخ التي صممت وطورت. ويجري تركيبها غالباً على متن عربات مدرعة أو عربات دفع رباعي، كما يمكن استخدامها عبر منصات أرضية متحركة. وبحسب خبراء عسكريين فإن الصواريخ التي تمتلكها الفصائل المسلحة اليوم هي من الجيل الثاني القادر على اختراق درع سماكته 900 ميللمتر. وبحسب الخبراء ايضاً، فإن كون هذه الصواريخ من الجيل الثاني، وتعود تحديداً الى العام 1990، فإنّ مصدرها هو فـي الغالب الدول التي اشترت تلك المنظومة من الولايات المتحدة (تركيا، الأردن، أو إحدى دول الخليج).
وبرغم اهميته فـي المعارك البرية، إلا ان «تاو» لا يشكّل كسراً للتوازن، ذلك ان قدرته، بحسب الخبراء العسكريين، لا تتفوق أبداً على قدرة الصواريخ الأخرى المستخدمة منذ عامين، ولكن حضوره على هذا النحو فـي المعارك الاخيرة ينطوي على مؤشرات خطيرة، مفادها أن الولايات المتحدة، ومعها الدول الاقليمية الحليفة، باتت مستعدة لخرق التوازنات العسكرية عبر تقديم اسلحة نوعية فـي مواجهة السلاح الروسي الذي يستخدم بفعالية من قبل الجيش السوري.
جسر الشغور: أهمية استراتيجية
تقع مدينة جسر الشغور فـي الريف الغربي لمحافظة إدلب أقصى الشمال الغربي للحدود السورية التركية، وتمسك فـي أطرافها جبل الأكراد فـي ريف اللاذقية.
ومن الناحية الاستراتيجية، فإن وجود المدينة على الطريق الدولي الذي يصل حلب باللاذقية يجعلها حلقة وصل وممرا إجبارياً بين المدن الساحلية ومحافظتي ادلب وحلب شمال سوريا، علاوة على قربها من الحدود السورية – التركية.
ومن المؤكد ان هذا الموقع الحساس اكسب جسر الشغور أهمية استراتيجية كبيرة، جعلتها هدفاً للجماعات المسلحة منذ بداية الاحداث فـي سوريا، علاوة على انها تتميز مع القرى المحيطة بها بالتنوع الطائفـي والديني، حيث يبلغ عدد سكانها مئة وخمسين ألف نسمة.
وتمثل جسر الشغور بوابة المنطقة الساحلية وعلى الخط الفاصل مع الحدود التركية- السورية، وتقع غرب مدينة ادلب التي تمكنّت المجموعات المسلحة مؤخراً من السيطرة عليها وتحولت إلى مركز إداري للدولة السورية بعد سقوط ادلب .
وقد يؤدي بسط المسلحين سيطرتهم على المدينة إلى أن يؤمن لهم قاعدة انطلاق لفتح معارك وجبهات أخرى فـي ريفـي ادلب واللاذقية، ما قد يهدد طرق الامداد للجيش العربي السوري نحو حلب واللاذقية، لكن إعادة نشر الجيش لوحداته فـي محيط المدينة والطريق الدولي من شأنه ان يبعد هذا السيناريو فـي ظل وجود قواعد خلفـية له فـي ريف اللاذقية والمدينة وابقائه على مواقع له فـي ريف أدلب وتحديداً فـي بلدتي أريحا والمسطومة على بعد خمسة وعشرين كيلومترا من جسر الشغور.
Leave a Reply