علي حرب
التاريخ الحديث للشرق الأوسط مشبع بالحروب التي لا تنتهي. الكتب تحدثنا عن ذلك، ولكن الصحافـي البريطاني المشهور روبرت فـيسك شهد تلك الحروب والأحداث بنفسه عن كثب ومباشرة، وساهم عمله فـي اتساع رقعة علمنا حول الماضي العنيف المتلبس بهذه المنطقة الملتهبة من العالم.
تقاريره الخارجة عن القوالب والسياق فـي كثير من الأحيان قد تسببت له بالمتاعب فـي مهنة المتاعب. قضى معظم عمله المهني فـي بيروت مراسلاً لصحيفة «التايمز» اللندنية وفـي وقت لاحق لصحيفة «الاندبندنت»، ولكنه لم يكتف بالمكان فكان يلاحق الخبر حيث يوجد فكان هناك عندما غزا الاتحاد السوفـيتي أفغانستان، وبعث بتقارير من ضفتي الجبهة الإيرانية-العراقية خلال حربهما الطاحنة. عاد إلى العراق بعد حرب الخليج الأولى وبعد الغزو الأميركي. وبرغم أنه كان فـي موقع الحدث خلال الأنباء المفصلية التي ساهمت كتاباته فـي سبر أغوارها، لكنه لا يحب أن يُطلَق عليه لقب «الأسطورة».
فـي مقابلة مع «صدى الوطن»، تحدث فـيسك عن تجربته بعمق وكشف أوراقه الصحفـية العامرة، فبدأ من الميدان الذي خبره أولاً: مشكلة الشرق الأوسط حيث أكد انها تعود للافتقار إلى التعليم والفهم الخاص. «وخلال الثورات العربية التي نزلت الى الشوارع، عندما كنت انا هناك لم أر أبداً أي شخص يريد الديمقراطية. ادعينا أنهم كانوا يطالبون بها، ولكنهم كانوا يطالبون بالكرامة والعدالة، وليست هي الشيء نفسه، ونحن لم نكن ننوي منحهم إياهما».
وأردف فـيسك «تحصل على الكرامة من خلال الثقافة والتعليم، ولكن النظام التعليمي فـي الشرق الأوسط هو الفشل بعينه». ودلَّل على ذلك بالقول «إسبانيا تنشر كتباً أكثر من الشرق الأوسط». وأضاف «البلدان التي شهدت ثورات بما فـي ذلك مصر عادت إلى النظم السلطوية لأن هذا هو كل ما يعرفونه. لقد عادوا الى شخصية الأب القائد، الذي يعاملهم مثل أطفال المدارس لأنه لم يكن لديهم العمق الفكري التعليمي بما فـيه الكفاية لتحريك الثورة فـي الاتجاه الذي من شأنه أن يحل مشاكل البلاد. لذا تراجعوا إلى الوراء وعادوا إلى الحكم العسكري».
وأوضح فـيسك «أن عدم وجود الفكر المتعلم ليس خطأ من الجماهير.إذا ذهبت إلى أحد المستشفـيات المصرية تكون تخاطر بحياتك ولكن إذا ذهبت إلى هيوستن، تجد أن بعضاً من خيرة الأطباء هم من أصل مصري أو عراقي. هذا الأمر ليس له علاقة بالناس أنفسهم. ففـي البيئة المناسبة، يمكن للمرء أن يتطور». وقال فـيسك «إن الأنظمة الديكتاتورية السلطوية فـي ليبيا ومصر وسوريا تدهورت عندما بدأ الحكَّام «آباء الشعب» بتعيين أبنائهم الحقيقين ورثة. فـي مصر كان سيأتي جمال مبارك وفـي ليبيا كان سيأتي سيف الإسلام القذافـي وفـي سوريا بالفعل أتى بشار الأسد. عندها فقط أدرك الناس فجأة أن أولاد الرئيس البيولوجيين هم سيستلمون السلطة ولن يبقوا أبناء البلد».
فـيسك يقترب من السبعين عاماً لكنه لا يزال يسافر فـي شتى أنحاء العالم ليشهد ويكتب التاريخ. وبقسمات وجه معبرة وبحركات مكثفة من اليدين تحدث من خلال مسحة من اليأس فـي صوته عندما سئل عن حل لقضايا الشرق الأوسط. «لا توجد حلول للدول» عبر فـيسك بصراحة «هناك تسويات لا حلول».
وتطرق الى موضوع «داعش» فوصفها بأنها «جماعة متطرفة هي النقيض للتعلم». وأوضح أن تقبل أسامة بن لادن يعود إلى أنه كان قادراً على قول ما لم يكن يجرؤ الديكتاتوريون العرب على الجهر به حول السياسة الخارجية الأميركية واحتلال فلسطين، على الرغم من أن الجماهير العربية لم تتفق بالضرورة مع أساليبه. أما بالنسبة لـ«داعش» فتقبلها يكمن فـي قدرتها على تقديم قوة وأهمية للأشخاص الذين يعيشون حياة عادية». واستطرد «ما كانت «داعش» قادرة على القيام به هو إدراك وجود الأنا الموجودة فـينا جميعاً وتحقيق هذه الأنا من خلال إطار معاش». وقال فـيسك، الذي أجرى مقابلات مع بن لادن والقائد العسكري لحزب الله عماد مغنية من بين العديد من القادة العرب، الصالح منهم والطالح، ان الأراضي التي تسيطر عليها «داعش» هي الأماكن الأولى فـي مسيرته الصحافـية التي ليس على استعداد للذهاب اليها. وأضاف « أنه قبل أن تشارك أميركا عسكرياً، كان متاحاً لي أن أذهب إلى أي مكان».
سوريا: «لا أخيار هناك»
وقال فـيسك إنه لم ير أي دليل على وجود متمردين معتدلين فـي سوريا، مضيفاً أن معظم المنشقين الذين شكلوا «الجيش السوري الحر» قد عادوا إما الى الجيش العربي السوري أو رجعوا الى ديارهم. وفقاً لفـيسك، لقي ٤٦ ألف جندياً مصرعهم، مما أعاق قدرة الجيش على الاستمرار فـي الحفاظ على المناطق التي استعاد السيطرة عليها من المعارضة.
وزعم ان «الجيش الذي يغلب عليه السنة، يعتمد الآن على المقاتلين الشيعة الأجانب»، قائلاً انه شهد «وجود مقاتلين من الأفغان يرتدون زي الجيش السوري إلى جانب وجود لحزب الله».
«لم اعتقد أبداً بإمكانية الإطاحة بالنظام (السوري)» أكد فـيسك وتابع «تأسس حزب البعث لكي يبقى على قيد الحياة، هكذا كان نظام صدام حسين لو لم يغز الأميركيون العراق. لقد نجا «نظام البعث فـي العراق» من الانتفاضات الضخمة من قبل الأكراد والشيعة، وحزب البعث لم يؤسس لصالح الشعب بل لصالح نفسه».
ومع ذلك، أكد فـيسك أنه إذا كانتْ هُناك أية مؤسسة تقوم بالحفاظ على أي نوع من النظام فـي سوريا، فهي مؤسسة الجيش. «هذا لا يعني انَّي أنا أحب الجيش السوري، بل هم مجرمو حرب(..) انهم تباهوا لي أنهم لا يأخذون سجناء بل يتركون السجناء المصابين لتنهشهم الكلاب، وهذا ما تفعله «داعش» كذلك. لا يوجد أخيار هناك، اذا كنت كنت تتساءل».
وقد تعرض فـيسك لانتقاد حاد من قبل كل من الحكومة السورية والمعارضة بسبب تقاريره، وخصوصاً من قبل الأخيرة بعد تغطية الحرب من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة فـي بداية الانتفاضة.
«فـي البداية انتقدوني، ولكن كلمات النقد هذه صامتة الآن.؟ اليس كذلك؟ لأن «داعش» صعدت فجأةً اعتقدت بالحاجة لوجود شخص ما يغطي جانب الأسد من القصة، لا يكون منحازاً لأي جانب، ولكن لتغطية ما يجري. لقد وجدنا شخصاً ما الى جانب المتمردين. فأنت لا يمكنك وضع مراسل واحد فـي كل من الأماكن فـي الوقت نفسه. هذا لا يعمل بشكل مثمر».
وأكد فـيسك انه اكتشف فـي وقت مبكِّر ان الجيش السوري هو قوة قتالية حقيقية وقد لا يتصدع النظام. «ولحظة قلت ان نظام الأسد باق على قيد الحياة، بدأ كل انواع الإسفاف ينزل علي. صرخ الناس فـي وجهي خلال المحاضرات التي ألقيتها فـي النرويج. قلت أنا آسف، أنا أؤدي وظيفتي. أنا مراسل الشرق الأوسط ولست ناشطاً». وقد كتب فـيسك فـي مقالة مؤخراً أنه ما دام كلا الجانبين فـي الحرب السورية يعتقدان أنهما قادران على الفوز، سوف تستمر الحرب. وأضاف «لكن إذا مر الاتفاق الإيراني مع الأميركيين، فإن الحرب السورية يمكن ان توقف غداً».
وأوضح «أن الولايات المتحدة ستقول للسعوديين إن الأمر قد انتهى وأن إيران ستوحي للأسد بوقف القتال. إنهم يدركون أن حكومة ما بعد الحرب ستدرك حتماً أنه بلد ذات أغلبية سنية، من دون تهميش العلويين، وخاصة البيروقراطيين الذين يعرفون كيفـية إدارة البلاد. ان السوريين، مثل العراقيين بعد الغزو الأميركي، يبغون الأمن والسلام.
سياسة خارجية بلا رؤية
واتهم فـيسك سياسة الولايات المتحدة وبريطانيا الخارجية بالمساهمة إلى حد كبير فـي المشاكل فـي الشرق الأوسط. وقال «ونظرا لافتقارنا نحن للتعليم وعدم فهم ما تعنيه السياسة الخارجية، لم نعد نتطلع إلى الأمام بعد الآن، ونحن لا نخطط».
وأضاف فـيسك أنه «خلال الحرب العالمية الثانية، فـي وقت مبكر من عام ١٩٤١ أنشأ رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل لجنة لرسم استراتيجية حول كيفـية التعامل مع مرحلة ما بعد الحرب فـي ألمانيا المحتلَّة .حتى وهو يجابه الغزو، كان تشرشل يخطط كيف علينا أن نحكم ألمانيا بعد الفوز ولكن عندما عبرت الدبابات الأميركية نهر دجلة فـي بغداد، لم يفكر فى هذا الأمر لمدة نصف ساعة. وأضاف أن الرئيس جورج دبليو بوش «لم يكن راغباً فـي معالجة أمور وشؤون الناس. كان مهتماً فـي الأرض وهذه هي المشكلة».
وقال المراسل المخضرم أنه لم يلتق بالعديد من العراقيين الذين لا يودون أن يعودوا إلى عهد صدام حسين، على الرغم من وحشية النظام المخلوع. ووصف العرب بأنهم لا يفكرون على المدى الطويل، لأن السياسة الخارجية الأميركية تحكمهم. «إننا نعطيهم أولئك الطغاة المثيرين للسخرية، وهم لا يسألون عن الديمقراطية لأنهم يربطونها بالأشخاص المغذين للطغاة. إن التخبط فـي السياسة الخارجية الأميركية والبريطانية فـي الشرق الأوسط ليس بسبب مؤامرة مخطط لها، بل لانعدام الرؤية».
ومضى إلى القول «البريطانيون والأميركيون يجدون صعوبة فـي فهم أن سبب الهجمات الإرهابية هو الرد على تدخلنا العسكري والسياسي والثقافـي المستمر فـي العالم العربي والإسلامي. ففـي أعقاب غزو العراق، كان التواجد العسكري الغربي فـي الشرق الأوسط اكثر من عدد الصليبيين فـي بداية القرن الـثاني عشر. فهل من المستغرب أن يحدث ما حدث؟ ألم نحدث نحن الفوضى فـي الشرق الأوسط؟ نعم، ولكن فعلنا ذلك عن طريق الخيال. كما هو الحال فـي القرن التاسع عشر عندماتخيلنا وجود الحريم والسيدات المنقبات، وها نحن نتخيل الآن أننا ذاهبون لخلق الديمقراطية على الجبهة من رأس دبابة.
وسائل الإعلام الغربية فـي الشرق الأوسط
واعرب فـيسك عن وجود علاقة وثيقة خطيرة دائمة بين الصحفـيين الأميركيين والحكومة فـي الولايات المتحدة وان «المشكلة هي أن الصحف ومحطات التلفزيون خادمة للسلطة ومذعورة من إسرائيل لدرجة انها خائفة من تعرضها لهجوم من قبل إسرائيل، وهذا هو السبب فـي تغطيتها التي يرثى لها للضفة الغربية وقطاع غزة».
وحدد ان المراسل الأجنبي لا يمكنه أن يكون حيادياً عندما يكتب تقاريره فـي الشرق الأوسط. فـ«مهمتك هي تحدي السلطة».
وتابع أيضاً قائلاً: «إن الصحافة الموضوعية ليس لها دور فـي الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن المدارس الإعلامية تعلم الصحافـيين الشباب إعطاء كلا الجانبين من القصة وقتاً متساوياً أو مساحة متساوية».
«الشرق الأوسط ليس مباراة لكرة القدم، إنه مأساة دامية، وعندما تتعامل مع المعاناة الإنسانية على هذا النطاق الضيق، عليك أن تكون إلى جانب أولئك الذين يعانون، وإذا كنت تغطي تجارة الرقيق فـي القرن ١٨، فهل تهدر٥٠ فـي المئة من تقريرك بالتحدث إلى قبطان سفـينة الرقيق؟ ام تفضل ان تتحدث مع العبيد المحظوظين بالبقاء على قيد الحياة وإحصاء عدد الذين ألقوا الى أسماك القرش لتنهش لحومهم؟!».
وقال: فـي شهر آب (أغسطس) من عام ٢٠٠١، بعد قيام جهادي من منظمة الجهاد الاسلامي بهجوم انتحاري فـي متجر بيتزا «سبارو» فـي القدس الغربية، مما أسفر عن مقتل ١٥ مدنيا،ً وكتب تقرير عن الضحايا، وليس الجهادي. وأضاف «فـي مخيمي صبرا وشاتيلا، كنت هناك عندما كان القتلة من الكتائب لا يزالون هناك. ولم اعط وقتاً متساوياً للإسرائيليين الذين شاهدوا «المجازر». وكان كل ما كتبته هو عن قصص الناجين وما رأيت من القتلى». وقد شهد فـيسك المجازر والمشاهد الدموية المرعبة طيلة حياته المهنية. ومع ذلك، فإن الصور القاتمة الصادرة عن الحروب لا تؤثر عليه نفسياً، على حد قوله.
وتابع «لم أر أبداً أحلاماً سيئة. ومازال بإمكاني الخروج لتناول العشاء فـي المساء أو مشاهدة فـيلم» إلا أنه قال انه يغضب عندما يرى أناساً أبرياء وخصوصا الأطفال، يموتون، لكنه يرى نفسه صديقاً للضحايا من الأموات الذين يكتب عنهم.
وختم بالقول «انهم يريدون مني أن أخبر قصتهم للعالم».
Leave a Reply