صبحي غندور
يصرّ بعض المفكّرين والمعارضين العرب على الحديث فقط عن «المسألة الديمقراطية» وعن تغيير «أنظمة الاستبداد» بمعزلٍ كامل عن قضايا أخرى هامّة تتّصل بحاضر الأمَّة العربية وتاريخها المعاصر، كقضية التحرّر الوطني من الاحتلال أو الهيمنة الأجنبية، أو قضية الصراع العربي/الصهيوني التي هي فاعلة فـي كلّ ما تشهده الآن المنطقة من تطوّرات سياسية وأمنية، أو حتّى فـي قضية هويّة الأوطان العربية التي تطمسها الآن هُويّات فئوية ضيقة تُمهّد لمرحلة الدويلات الطائفـية والإثنية.
حبّذا لو يُدرك هؤلاء أنّهم يعيدون بذلك فتح أبواب الأوطان العربية للنفوذ الأجنبي، ولإعادة حقبة «المستعمرات العربية» التي أسقطتها ثورات عربية تحرّرية حقيقية فـي منتصف القرن الماضي، بعد عقودٍ من النضال الوطني امتدّ من المغرب إلى جزائر المليون شهيد، إلى تونس، إلى ليبيا عمر المختار، إلى مصر عبد الناصر، إلى عدن والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان. فتلك كانت ثورات جادّة من أجل أوطانها وشعوبها، وأدّت إلى توحيد شعوبها وإلى تعزيز الهويّة العربية المشتركة، بينما «الثورات الحديثة» تنفخ فـي بوق التدخّل الأجنبي وتُسهّل عودة القوى العسكرية الغربية التي كانت تحتلّ الأرض العربية وتستنزف ثرواتها. بل ما هو أخطر من ذلك، هو هذا التفكّك الوطني والشعبي الذي يحدث فـي مجتمعات «الثورات الحديثة».
لكن إنصافاً للحقيقة، فإنّ معارك التحرّر الوطني فـي القرن العشرين لم تصل نتائجها إلى بناء مجتمعات حرّة يتحقّق فـيها العدل السياسي والاجتماعي والمشاركة الشعبية السليمة فـي الحكم وفـي صنع القرار. وبسبب ذلك، كان سهلاً حدوث التدخّل الإقليمي والدولي فـي القضايا الداخلية العربية وعودة مشاريع الهيمنة الأجنبية من جديد. ربّما هي سمةٌ مشتركة بين عدّة بلدان عربية أنّ شعوبها نجحت فـي مقاومة المستعمر والمحتل ثمّ فشلت قياداتها فـي بناء أوضاع داخلية دستورية سليمة.
فما يحدث الآن فـي داخل أوطان من مشرق الأمّة ومغربها، وفـي عمقها الإفريقي، هو دلالة مهمّة على نوع وحجم القضايا التي تعصف لعقودٍ طويلة بالأرض العربية، وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية والتدخّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وفساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني والمصالح الأجنبية فـي هدم وحدة الأوطان.
لكن الفتن الداخلية العربية الجارية الآن فـي أكثر من مكان، لا يمكن عزلها عن الصراع العربي/الصهيوني على مدار مائة عام. فلم يكن ممكناً قبل قرنٍ من الزمن تنفـيذ «وعد بلفور» بإنشاء دولة إسرائيل دون تقطيع الجسم العربي والأرض العربية، حيث تزامن الوعد البريطاني/الصهيوني مع الاتفاق البريطاني/الفرنسي المعروف باسم «سايكس- بيكو» والذي أوجد كياناتٍ عربية متصارعة على الحدود، وضامنة للمصالح الغربية، ومسهّلة للنكبة الكبرى فـي فلسطين. فلا فصل إطلاقاً بين معارك التحرّر الوطني من المستعمر الغربي التي جرت فـي البلاد العربية والصراع العربي/الصهيوني. ولا فصل أيضاً بين أيِّ سعي لاتّحاد أو تكامل عربي، وتأثيرات ذلك على الصراع العربي/الصهيوني.
وربّما ما يحدث اليوم على الأرض العربية هو تتويجٌ لحروب المائة سنة الماضية. فالاعتراف الدولي بإسرائيل، ثمّ الاعتراف المصري/الأردني/ الفلسطيني بها، بعد معاهدات «كامب ديفـيد» و«أوسلو» و«وادي عربة»، ثمّ «تطبيع» بعض الحكومات العربية لعلاقاتها مع إسرائيل، كلّها كانت غير كافـية لتثبيت «شرعية» الوجود الإسرائيلي فـي فلسطين، وللتهويد المنشود للقدس ومعظم الضفة الغربية، فهذه «الشرعية» تتطلّب قيام دويلاتٍ أخرى فـي محيط «إسرائيل» على أسس دينية أيضاً، كما هي الآن مقولة «إسرائيل دولة لليهود». فما قاله «نتنياهو» فـي العام الماضي بأنّ (المشكلة مع الفلسطينيين هي ليست حول الأرض بل حول الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية) يوضّح الغاية الإسرائيلية المنشودة فـي هذه المرحلة من المتغيّرات السياسية العربية الجارية الآن فـي مشرق الأمَّة العربية ومغربها. فكلّما ازدادت الصراعات الطائفـية والمذهبية والإثنية على الأرض العربية، كلّما اقترب الحلم الصهيوني الكبير من التحقّق فـي أن تكون إسرائيل هي الدولة الدينية الأقوى فـي منطقةٍ قائمة على دويلاتٍ طائفـية. فالمراهنة الإسرائيلية هي على ولادة هذه «الدويلات» التي بوجودها لن تكون هناك دولة فلسطينية مستقلة، ولا تقسيمٌ للقدس، ولا عودة الملايين من اللاجئين الفلسطينيين، بل توطينٌ لهم فـي «الدويلات» المستحدثة وتوظيف سلاحهم فـي حروب «داحس والغبراء» الجديدة.!
رغم ذلك، استمرّت بعض قوى المعارضات العربية بالمراهنة على دعم الخارج لمعاركها الداخلية، ويتواصل عربياً تهميش القضية الفلسطينية وتجاهل العامل الإسرائيلي فـي حروب العرب مع بعضهم البعض، وفـي نشأة جماعات التطرّف والإرهاب بالمنطقة التي نرى مثالاً لها مؤخّراً، وليس أخيراً، فـي جماعات «داعش» و«النصرة»!.
فكم هو جهلٌ مثيرٌ للتساؤل الآن حينما يتمّ استبعاد الدور الإسرائيلي فـي تفاعلات داخلية تحدث فـي عدّة أوطان عربية، وحينما لا ينتبه العرب إلى المصلحة الإسرائيلية الكبرى فـي تفتيت أوطانهم وفـي صراعاتهم العنفـية تحت أيِّ شعارٍ كان. فأمن إسرائيل يتحقّق (كما قال أحد الوزراء الإسرائيليين بعد حرب 1967)«حينما يكون كره العربي للعربي أكثر من كرهه للإسرائيلي». ثم كم هو نكرانٌ لوقائع حدثت فـي حروب أهلية عربية معاصرة، كالحرب الأهلية اللبنانية، حينما كان الدور الإسرائيلي فاعلاً فـيها على مدار 15 سنة، ثم استمرّ بعد ذلك عبر عملاء على كلّ الجبهات السياسية اللبنانية.
إنّ نشوء الدويلات الدينية الجديدة فـي المنطقة سيدفع هذه الدويلات إلى الصراع بعضها مع البعض الآخر، وإلى الاستنجاد بالخارج لنصرة دويلة على أخرى، وإلى إقامة تحالفات مع إسرائيل نفسها، كما حصل أيضاً خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، وكما تفعل ذلك الآن بعض قوى المعارضة السورية. وحينما تنشأ هذه الدويلات، فإنّها ستحتاج إلى زيادة ديمغرافـية فـي عدد التابعين لهذه الطائفة أو ذاك المذهب، ممّا سيسّهل حتماً مشروع توطين الفلسطينيين فـي لبنان وسوريا والعراق وبعض دول الخليج العربي. وفـي ذلك حلٌّ لقضية «اللاجئيين الفلسطينيين»، تُراهن أيضاً إسرائيل عليه.
وفـي حقبة «الصراعات الدموية العربية»، ستواصل إسرائيل بناء المستوطنات فـي القدس والضفة، وستزيد من درجة الضغوط على فلسطينييّ 1948 لتهجير ما أمكن منهم إلى «دويلات» تحتاجهم عدداً، بل ربّما يكون ذلك، بالتخطيط الإسرائيلي، الوقت المناسب لجعل الأردن «الوطن الفلسطيني البديل» مع أجزاء من الضفة الغربية.
إسرائيل بمختلف حكوماتها راهنت على تجزئة المجزّأ عربياً، وشجّعت كل الحركات الانفصالية بالمنطقة كالتي قامت فـي جنوب السودان وفـي شمال العراق، وأقامت إسرائيل «دولة لبنان الحر» على الشريط الحدودي لها مع لبنان فـي ربيع العام 1979 كمدخل لمشاريع التقسيم الطائفـي الذي أعدّت له منذ حقبة الخمسينات من القرن الماضي.
فإسرائيل التي رفضت وترفض قرار تقسيم فلسطين (رقم 181)، وهو الاسم الذي أطلق على قرا «الجمعية العامة للأمم المتحدة» الجمعية العامة التابعة لهيئة «الأمم المتحدة» والذي أُصدر بتاريخ 29 نوفمبر، هي نفسها التي عملت وتعمل على تقسيم البلاد العربية، إذ إنّ قرار تقسيم فلسطين يعني إعلان حدود دولية للدولة الإسرائيلية، ووجود دولة فلسطينية مستقلّة على ما هو أـشمل بكثير من الضفة الغربية وغزّة، كما يعني وضع مدينة القدس وجوارها تحت الوصاية الدولية، وهي أمور كلّها مرفوضة من كلّ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
المنطقة العربية تعيش الآن مرحلة سقوط «النظام العربي الرسمي المريض» فـي ظلّ تضاعف الاهتمام الدولي بموقع المنطقة وثرواتها، وبوجود تأثير كبير لـ«دولة إسرائيل» على أحداثها وعلى القوة الدولية الأعظم فـي هذه الحقبة الزمنية. هي مرحلةٌ لا يمكن الدفاع فـيها عن واقع حال «النظام العربي الرسمي المريض» أو القبول باستمرار هذا الحال، لكن التغيير المنشود ليس مسألة أهداف وشعارات فقط، بل هو أيضاً فكر وبرامج وقيادات وأساليب سليمة وتمييز دقيق فـي المراحل والأجندات والأولويات والصداقات، وهي كلّها عناصر لم تتوفّر بعد!.
Leave a Reply