نبيل هيثم
تكفـي مقارنة بسيطة لمجريات الصراع الدائر فـي سوريا، وما رافقها من تغطيات اعلامية، لتبيان التخبط الذي تعيشه القوى المناوئة لمحور المقاومة فـي الشرق الاوسط.
الاسبوع الماضي، سعت تلك القوى الى خلق انطباع بأن كل شيء قد انتهى: «تحرير ادلب» يفتح الطريق امام «فتح حلب»، السيطرة على جسر الشغور جعل «الثوار» على ابواب معقل النظام السوري على الساحل السوري (اللاذقية وطرطوس)، «حزب الله» غير قادر على التحرك فـي القلمون، وبشار الاسد يبحث عن ملاذ آمن فـي ظل اقتراب سقوط نظامه… الى آخر تلك المقولات التي دأبت على بثها القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي المعروفة التوجهات. تلك كانت ذروة «الحرب النفسية»، التي حذر منها الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، فـي اطلالته التلفزيونية الاخيرة، الذي كرّس عملياً «الساعة الصفر» غير المعلنة لمعركة «ما بعد ذوبان الثلج»، ومن بعده، بيوم واحد، الرئيس بشار الاسد، فـي كلمته المقتضبة من مدارس ابناء الشهداء فـي دمشق، التي اعاد فـيها التذكير بألف باء الاستراتيجيات العسكرية والسياسية، بقوله «إننا نخوض حرباً وليس معركة».
واذا كانت «الحرب النفسية» تلك قد فعلت فعلها لدى كثيرين فـي سوريا وخارجها، فإن معطيات الميدان، الى جانب اجراءات اخرى، بدت ترياقاً لهذا السم الذي سعت الآلة الاعلامية المناوئة لمحور المقاومة الى نشره، وسلاحاً مضاداً لسلاح البروباغندا، الذي لا يقل خطورة من الناحية العسكرية عن غيره من الاسلحة، كما اظهرت التجارب منذ قدم التاريخ.
فـي العموم، كان خطاب السيد حسن نصرالله، وبعده كلمة الرئيس بشار الاسد، نقطة تحوّل فـي مسار الحرب النفسية المسعورة، التي بدأت مفاعيلها تتلاشى منذ بدء معارك القلمون، التي حقق فـيها «حزب الله» حتى الآن انجازات ميدانية بأقل من الخسائر المتوقعة، وكذلك جسر الشغور، التي حرمت حاميتها المتمركزة فـي المستشفى الوطني، ومن ثم الاختراقات التي حققها الجيش السوري هناك، المسلحين من نشوة النصر.
وليس بعيداً عن الميدان، فإن ثمة اجراءات اخرى، غير عسكرية، ترافقت مع تلك المعارك، واعادت رفع المعنويات فـي الشارع السوري، لعل ابرزها، واكثرها رمزية، الاجراءات الاقتصادية التي اتخذها المصرف المركزي السوري، والتي اتخذت شكل حملة مكثفة على الدولار، استعادت معه الليرة السورية عافـيتها، من خلال العودة الى العتبة الرمزية المتمثلة بسعر صرف مقداره 250 ليرة سورية فـي مقابل العملة الاميركية.
وفـي موازاة الحرب النفسية المضادة، كانت الاخبار الواردة من الحدود اليمنية-السعودية تظهر مأزقاً للسعودية، الساعية الى تعويض اخفاقات «عاصفة الحزم»، عبر وسيلتين: الاولى، اغراق الشعب اليمني بالدماء، والثانية البحث عن انجازات على جبهات اخرى، ولا سيما فـي سوريا. واذا كانت المملكة النفطية، قد حققت مع شريكيها القطري والتركي، انتصاراً محدوداً على مستوى الحرب النفسية تلك، على مدار الاسبوعين الماضيين، فإن قصف نجران ومنشآت «آرامكو» فـي ظهران من قبل «انصار الله» قد شكل الضربة القاضية للانتصارات الوهمية، التي سعى السعوديون للترويج لها عبر الحملة الاعلامية الضخمة، والتي يبدو ان ابواقها بدأت تفقد زخمها منذ الانسحاب «التكتيكي» لمسلحي «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» من اولى تلال القلمون.
وفـي ما يعكس حجم المأزق الذي يواجهه التحالف السعودي-القطري-التركي، وادواته فـي الداخل السوري، المتمثلة فـي «النصرة» و«داعش» واخواتهما، فإن «وحدة الصف الجهادي» فـي القلمون باتت شيئاً من الماضي، بعدما ادى الهجوم النوعي لـ«حزب الله» على جرود تلك المنطقة الاستراتيجية الى تخبط ميداني ترجم فـي اشتباكات عنيفة بين «جيش الفتح – القلمون» الذي انشأته «النصرة» (على غرار «جيش الفتح – ادلب»)، وبين تنظيم «داعش»، سرعان ما تحوّلت الى «حرب الغاء» او «استئصال»، بحسب ادبيات الجهاديين، تدور رحاها بين منطقة الحدود اللبنانية – السورية وريف حمص الشمالي.
وفـي مقابل الانتصارات الوهمية، التي اقتصرت على بعض وسائل الاعلام السعودية والقطرية التي كشفت صراحة عن دعمها للتكفـيريين، فإن الانتصارات الفعلية كان الجيش السوري و«حزب الله» يحققانها فـي الميدان، وبمقاربة استراتيجية.
وفـي هذا الإطار، تأتي معركة القلمون التي سيكون حسمها مقدمة لتغيير الخريطة الميدانية، ان لم يكن خريطة الصراع فـي سوريا، فالانتصار فـي تلك المنطقة يفتح الطريق نحو ادلب وحلب والرقة والحسكة، ما يعني عملياً السقوط المدوي للمشروع الأميركي- الإسرائيلي- التركي- الخليجي، لصالح القوى المناهضة للولايات المتحدة، ليس فـي سوريا فحسب، بل على مستوى الشرق الاوسط كله، حيث من شأن ذلك ان يعزز اوراق القوة لدى كل من ايران وروسيا.
هكذا يمكن القول ان معارك القلمون ستشكل ضربة استراتيجية، ليس للمجموعات المسلحة، والتكفـيرية منها على وجه خاص، فحسب، بل لكافة القوى الاقليمية التي يبدو انها اتحدت فـي حلف غير مقدس ضد سوريا ومحور المقاومة، بدءً بالثلاثي السعودي-القطري-التركي، مروراً بالولايات المتحدة التي فتحت مخازن اسلحتها لقوى الارهاب، وصولاً الى اسرائيل التي دخلت باكراً على خط تلك المعركة من خلال غاراتها الليلية التي استبقت بدء الجولة الحالية من القتال بأسبوعين.
اما على جبهة ادلب، فإن صمود مجموعة صغيرة من جنود الجيش السوري تحول إلى ورقة نعي للاندفاعة التركية – السعودية – القطرية، ورأس حربتها المسمّى «جيش الفتح»، الذي جمعت فـيه «جبهة النصرة» اخواتها من التنظيمات الجهادية.
ولذلك، لم يكن صدفة تعهد الرئيس بشار الاسد بارسال الجيش السوري الى جسر الشغور، فهو يدرك أنه يمثل جزءاً من شريان مهم لجهة المجال الحيوي للدولة السورية، وحمايتها تعد تكريساً لاستراتيجية الصمود والمواجهة للدولة السورية، والتي تقوم على إلحاق الهزيمة بأدوات المشروع الاميركي-الخليجي. وطالما أنّ هناك اشتباكاً قائماً حتى اللحظة فـي أكثر من نقطة، فإن إبقاء الاشتباك قائماً يعد انتصاراً الى حين الحاق الهزيمة السياسية والأمنية بأطراف العدوان.
فـي اطار المعارك الكبرى ثمة مناطق تغير مسار الحرب. فـي مثل هذه الايام قبل 70 عاماً، كان الصمود الاسطوري للجنود السوفـيات فـي ستالينغراد نقطة البداية لهزيمة النازية والفاشية. وقبل سنوت كانت جبال طورا بورا فـي افغانستان نقطة التحول فـي الحرب الاميركية ضد «طالبان»، حتى ان ثمة من يقول فـي الغرب انه لو قدر لقوات «المارينز» السيطرة عليها لما ظل التكفـيريون يشكلون مصدر تهديد اقليمي ودولي. اليوم تغيرت الجغرافـيا واللاعبون، لكن التجارب التاريخية تبدو ذاتها. بذلك لا شك ان جسر الشغور بات يمثل ستالينغراد سوريا، فـي حين يبدو سيناريو العجز فـي طورا بورا الحدود اللبنانية-السورية ابعد ما يكون عن التكرار، فـي ظل ما حققه «حزب الله» من انتصارات نوعية فـي الايام الاولى من المعركة ضد تكفـيريي القلمون.
ولعل الايام المقبلة تحمل مزيدا من الانجازات والانتصارات على هذا الصعيد، ولعل الاقرار بالانكسارات هو الذي يدفع الارهابيين الى تخوين بعضهم البعض، وتكفـير بعضهم البعض وصولا الى التذابح فـيما بينهم .. وما الصراخ الذي يعلو من
قبل الارهابيين سوى تعبير عن الخيبة، نادوا هل من ناصر ينصرنا، فذاب صوتهم فـي الصحراء، وما الصراخ ايضا سوى تعبير عن الوجع الذي قد لا يجدون له ما يسكنه فـي الآتي من الايام.
الأهمية الإستراتيجية للقلمون
تعدّ القلمون منطقة استراتيجية بسبب موقعها الجغرافـيّ فهي تقع على الحدود مع القرى اللبنانية ويمر بها الطريق الدوليّ الذي يربط دمشق بحمص. وتمتد من ريف حمص شمالا حتى أطراف غوطة دمشق الغربيّة جنوبا بالإضافة إلى أنّها طريق إمداد أساسيٌّ للمسلحين بين لبنان والداخل السوريّ.
وتشهد جرود القلمون الشماليّة المحاذية للحدود عمليات عسكرية بوتيرة عالية حيث بدأ الجيش السوري و«حزب الله» بحسم المعركة منذ اللحظة الاولى عبر السيطرة على جرود عسال الورد بعد عملية قتالية برّية مباغتة، بالاضافة الى معبر الصهريج يصل جرد عسال الورد السورية بجرد بريتال اللبنانية وطردوا المسلحين. وبذلك تمّ فصل جرود عرسال اللبنانيّة عن منطقة الزبداني وسرغايا ومضايا السورية ما أدى إلى تشتت وفرار المسلحين.
كما تمّت السيطرة على مساحات من الجزئين اللبنانيّ والسوريّ بلغت أكثر من مئة كيلومتر مربّع وتتضمن عشرات التلال والمغاور وفـيها مواقع ونقاطٌ عسكريةٌ ومعسكراتٌ شكّلت تحصينات للمسلّحين، فضلاً عن معسكر سهلة المعيصرة أكبر المعسكرات فـي جرود الجبة فـي القلمون وعلى قرنة رزق وتلة شميس فـي جرود الجبة وأم الركب وتلة الدورات.
وتتمثّل الأهمية الاستراتيجية لهذه العملية فـي تضييق الخناق على مسلحي الزبداني فـي القلمون الجنوبيّ الغربي وتأمين الشريط الحدوديّ كاملا بالإضافة إلى تأمين الطريقين الدوليّيْن دمشق حمص ودمشق بيروت وعزل مسلحي القلمون عن مسلحي الغوطة.
الأهمية الإستراتيجية لجسر الشغور
تقع مدينة جسر الشغور فـي الريف الغربي لمحافظة إدلب أقصى الشمال الغربي للحدود السورية التركية وتمسك فـي أطرافها جبل الأكراد فـي ريف اللاذقية.
ومن الناحية الاستراتيجية، فإن وجود المدينة على الطريق الدولي الذي يصل حلب باللاذقية يجعلها حلقة وصل وممرا إجبارياً بين المدن الساحلية ومحافظتي ادلب وحلب شمالي سوريا بالإضافة إلى قربها من الحدود التركية
وتمثل جسر الشغور بوابة المنطقة الساحلية وعلى
الخط الفاصل مع الحدود التركية السورية وتقع غرب مدينة ادلب التي تمكنّت المجموعات المسلحة مؤخراً من السيطرة عليها.
واذا كان الرهان لدى المسلحين بأن يتمكنوا من خلال السيطرة على جسر الشغور من جعلها قاعدة انطلاق لفتح معارك وجبهات أخرى فـي ريفـي ادلب واللاذقية، وتهديد الامداد للجيش العربي السوري نحو حلب واللاذقية، فإن صمود حامية مستشفى المدينة بدد كل تلك التوقعات، علاوة على ان إعادة نشر الجيش السوري لوحداته فـي محيط المدينة والطريق الدولي سيبعد كل المخاطر فـي ظل احتفاظه بقواعد خلفـية فـي ريف اللاذقية والمدينة وابقائه على مواقع له فـي ريف أدلب وتحديداً فـي بلدتي أريحا والمسطومة على بعد خمسة وعشرين كيلومترا من جسر الشغور.
Leave a Reply