كمال ذبيان
التوريث السياسي فـي لبنان يدخل من ضمن «الفولكلور» السياسي فـيه، فمنذ قرون والعائلات الإقطاعية والبيوت السياسية تتناسل من الأجداد الى الأبناء فالأحفاد، وكل مَن يمتّ بذرية الى هذا البيت السياسي أو ذاك، ولم ينجُ اللبنانيون من هذه العلّة التي زرعها العثمانيون فـي جسدهم، من خلال منح الألقاب لمن كان يواليهم، فظهرت عبارات أو توصيفات «البيك» والأمير والشيخ، والباشا والآغا الى آخر المفردات التي توارثتها عائلات ومازالت منذ أكثر من ستة قرون، وإن انقرض بعضها، وتلاشى دور غيرها، إلا أنها مازالت ثقافة سياسية سائدة.
رئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط ونجله تيمور في لقاء مع رئيس تيار المردة سليمان فرنجية ونجله طوني |
لدى تعداد العائلات التي تتوارث السياسة، نجد أنه ليس بالعدد القليل، إلا أن أبرزها هي الخازن، حبيش، أبي اللمع، نكد، عبد الملك، تلحوق، الخليل، عسيران، الزين، إرسلان، جنبلاط، الداوود، حمادة، الصلح، كرامي، فرنجية، عيسى الخوري، الضاهر، العلي، المرعبي، حرفوش، سكاف، سلام، الداعوق، بيهم، الأعور، شمعون، الجميّل، الخوري، وغيرهم من العائلات التي إختفى بعضها عن الحياة السياسية نتيجة ظروف داخلية وأخرى خارجية، وأبرزت الحرب الأهلية قوى سياسية وحزبية وعائلات لم تكن فـي سجلات العائلات السياسية، وأفرزت الحرب أمراء لها وأحزاب، كما غيّرت التحالفات أوضاعاً سياسية، وجاءت تحولات دولية وإقليمية وعربية، أنتجت واقعاً جديداً فـي لبنان، فظهرت حركة «أمل» و«حزب الله» فـي الطائفة الشيعية، وتراجع دور الإقطاع السياسي فـي الجنوب دون أن يضمحل نهائياً، بسبب الموروث التقليدي فـي بعض البلدات والقرى، وهو الأمر نفسه فـي البقاع، إذ أصبح التمثيل السياسي الشيعي هو من أبناء الطبقات الفقيرة والمحرومة والآتية من نضال حزبي وعمل مقاوم، لكن ثمة ظاهرة برزت وهي الرئيس نبيه برّي الذي لديه ميزة قيادية و«كاريزما» سياسية، مكّنته من أن يكون رقماً صعباً فـي المعادلة سواء داخل حركة «أمل» أو فـي رئاسته لمجلس النواب، وهو ما يطرح السؤال عن خليفته السياسية، حيث جرى الحديث عن نجله عبدالله الذي نفى ما أوردته وسائل الإعلام، ولأن التوريث فـي حركة سياسية نشأت ضد الإقطاع وناصبته العداء، ليس بالأمر السهل، كما هي الحال فـي العائلات السياسية، التي خفّ تأثيرها أو نفوذها فـي الساحة المسيحية مع الظاهرة التي مثّلها العماد ميشال عون، وكرّسته زعيماً قوياً فـي بيئته المسيحية، كما أن «القوات اللبنانية» التي أنشأها بشير الجميّل، تعاقب عليها قادة هم من أبناء عائلات مسيحية ليست سياسية ولا من أصحاب المال ورجال الأعمال، وأنتجت «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، قيادات سياسية شابة، كان منهم وزراء ونواب وموظفـون فـي فئات عليا، مما ترك أثراً لدى الشباب المسيحي للتحرر من الإرث السياسي الذي مثله حزب الكتائب عبر ترؤس آل الجميّل له، منذ المؤسس الجد بيار الجميّل الى نجليه أمين وبشير ثم بيار الحفـيد والآن سامي النائب الذي ورث المقعد، ليتقدم لوراثة حزب العائلة، بعد أن حصل خرق لرئاسته عقب وفاة المؤسس، فتبوّأ الموقع كل من جورج سعادة، إيلي كرامة، منير الحاج، كريم بقرادوني، ليعود الحزب الى آل الجميّل بعد عودة أمين من المنفى وخروج القوات السورية من لبنان.
والأحزاب العائلية، ظهرت لتنظيم إرثها، ولمواجهة مرحلة نمو الأحزاب الوطنية والقومية واليسارية والتقدمية، العابرة للطوائف، والرافضة للإقطاع السياسي، وللرأسمالية المتوحشة، فكان الرد على اكتساح الأحزاب العقائدية، بإنشاء أحزاب للعائلات بأسماء ديمقراطية واشتراكية ووطنية وعربية وتقدمية، كي تمنع تمدد الوعي الوطني والقومي الى الطوائف التي تتزعمها، وتقف سدّاً منيعاً فـي تثوير المواطنين، وتأطيرهم فـي مؤسسات، حيث ساهمت الحركات والأحزاب والتيارات السياسية الوطنية والتقدمية، فـي فرض تغيير ما فـي القوانين، وفـي تشكيل قوة ضغط داخل المجتمع عبر هيئاته المدنية والنقابات لتحقيق مكاسب وحقوق إجتماعية ومدنية.
كل هذا التطور الذي حصل فـي الحياة السياسية والحزبية، وفرض إصلاحات على النظام السياسي لم تتحقق منذ إتفاق الطائف، فإنه لم يمنع التوريث السياسي الذي أعلن عن نفسه هذا الأسبوع ومهّد له المورّثون، فأعلن النائب وليد جنبلاط أنه سيتخلى عن الزعامة الجنبلاطية لنجله البكر تيمور الذي يدرّبه على العمل السياسي منذ عشر سنوات، ويؤهّله ليتبوّأها، وقد شعر أن الخطر باغتياله قد يحدث فـي أي وقت، وجاءته التحذيرات من أكثر من دولة بضرورة أخذ الحيطة والحذر، وازداد خوفه بعد اغتيال الرئيس رفـيق الحريري، وقرّر أن يعمل «زبالاً فـي نيويورك»، لكنه بقي يعيش بقلق من أنه كأبيه وأجداده سيموت قتلاً، وهذا هو قدر عائلته كما يقول دائماً، فصمم على أن يسلّم ابنه تيمور الزعامة ومعها النيابة فـي المرحلة الأولى، وهو على قيد الحياة، ليرى وريثه كيف يعمل سياسياً، وهو الآتي مثله الى السياسة مرغماً، ولم تكن من اهتماماته، إذ كان وليد هاوياً لركوب الدراجات ومبذراً للمال الذي كان والده لا يمدّه به، إلا ما يحتاج إليه وفق روايات مقربين من كمال جنبلاط الذي درّب نجله الوحيد وليد ليرث الزعامة فاصطحبه معه الى القاهرة وقابل الرئيس جمال عبدالناصر وكان يجذبه كي يكون فـي مجلسه الذي لم يكن وليد من المحيطين بوالده، إلا فـي محطات قليلة، الى أن فرض عليه كما على كمال تزعّم «الجنبلاطية»، التي كاد قصر المختارة أن يخسرها بعد مقتل فؤاد والد كمال، لولا أن أمسكت سيّدته الست نظيرة والدة كمال بالسياسة وأدارتها وأبقت المختارة مرجعية ليكبر نجلها الوحيد، كي لا تنتقل الى جنبلاطيين آخرين فـي البرامية شرق صيدا.
فرضت الست نظيرة على ابنها العمل بالسياسة، بعد أن كانت الفلسفة استهوت كمال وكذلك الروحانيات والصوفـيات، فدخل الى السياسة مرغماً فنجح فـيها، وتأمّنت ظروف لصعوده وهو مشاركته فـي «الثورة البيضاء» حليفاً لكميل شمعون فـي «الجبهة الإشتراكية الوطنية» التي أسقطت بشارة الخوري فـي أيلول 1952، ثمّ فـي «ثورة عام 1958» ضد حليفه السابق شمعون الذي كان ينوي التجديد لرئاسته بعد أن تخندق فـي «حلف بغداد» وسار فـي المشروع الأميركي للرئيس دوايت إيزنهاور، وبرز نجم جنبلاط مطلع السبعينات كداعم للثورة الفلسطينية ومترئساً للحركة الوطنية التي طالبت بإصلاح النظام السياسي وحليفاً للإتحاد السوفـياتي والمنظومة الإشتراكية.
أغتيل كمال جنبلاط فـي 16 آذار 1977، ليلبس نجله وليد العباءة الجنبلاطية من قبل شيخ العقل آنذاك محمد أبوشقرا، لتستمر الزعامة عبر وريث لم يكن الدروز قد سمعوا به، سوى عن مغامرات له، وحضر الى الحركة الوطنية ليجالس قادتها من أبرز المناضلين والمفكرين السياسيين، ليؤثر عليه هذا الجو ويتحوّل الى القراءة، وهو خريج العلوم السياسية من الجامعة الأميركية، وانخرط فـي الصحافة عبر ملحق جريدة «النهار»، وبدأت تتكوّن ثقافة سياسية للإبن الذي أصبح سرّ أبيه الذي كان شغوفاً بالكتاب حتى قيل عنه إنه يقرأ نصف صفحاته قبل أن ينام.
وهكذا دخل وليد جنبلاط الزعامة من باب الحركة الوطنية التي نعاها بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان، حيث بدأ سياسة تحالفات متقلبة، فصالح النظام السوري وهو يعرف أنه إغتال والده كما يقول وكان آخر اعترافاته فـي المحكمة الدولية، وقد ساعده النظام على أن يهزم «القوات اللبنانية» فـي الجبل ليكرّس أميراً عليه دون منازع، فخلت الساحة الدرزية له، ليقضم من عائلاتها «اليزبكية» ويصبح الممثل الأقوى داخل الطائفة الدرزية التي احتكر أكثرية مقاعدها النيابية والوزارية فاستفاد من خدمات السلطة لاسيما وزارة المهجرين وصندوقها، فبات هو الممر الإلزامي للدروز ليعبروا من خلاله الى مؤسسات الدولة ووظائفها، وهو ما فرضه لاعباً داخل التركيبة اللبنانية، فـيميل يميناً ويساراً ويتوقف فـي الوسط، كما فـي علاقاته الدولية والعربية، فاستفاد من كل الأنظمة العربية دون استثناء من ليبيا معمر القذافـي الى عراق صدام حسين وإيران الإسلامية والمملكة السعودية ودول الخليج، وصولاً الى الإتحاد السوفـياتي سابقاً ثمّ أميركا وروسيا وفرنسا.
هذه المساحة الواسعة من العلاقات، يتركها النائب جنبلاط لإبنه تيمور ليلعب فـيها، فقرّبه من أمراء السعودية، وعرّفه على الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، واصطحبه الى روسيا، وقدّمه الى الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله وجال معه على قادة سياسيين لبنانيين، وقرّر أن يستقيل من النيابة ليحل مكانه عن المقعد الدرزي فـي الشوف، لكن ظروف التمديد لمجلس النواب، منعته من ذلك، فرأى أن يباشر تيمور اختباره الأول والمباشر مع المواطنين روّاد قصر المختارة يومي السبت والأحد، الأسبوع الماضي، وهو بعيد فـي فرنسا، وكان أول يوم عمل سياسي له يحيط به نواب ووزراء الحزب التقدمي الإشتراكي ومسؤولوه إضافة الى مناصريه، وجاءت الفحوصات الأولية التي أشرف عليها وزير الصحة وائل أبوفاعور مطابقة للمواصفات الجنبلاطية لجهة تبوّء الزعامة فـي الإستماع الى مطالب الوفود والمواطنين، وكلها تتعلّق بالخدمات التي تحال الى جهات معينة فـي الحزب لمتابعتها وتنفـيذها، إنما الإمتحان الأكبر الذي ينتظر الوريث الجنبلاطي، هو فـي القضايا السياسية الكبرى كالتحالفات، فهذه ستبقى من اختصاص الوالد وليد الذي لديه المقدرة على تدوير الزوايا والإنقلاب على المواقف وتغيير التحالفات، وتوجيه البوصلة السياسية بما يتوافق مع مصالحه السياسية.
إنه زمن التوريث السياسي فـي لبنان افتتحه تيمور رسمياً، ويحضّر له طوني سليمان فرنجية الذي وصلت إليه الزعامة من الجد قبلان والد جدّه سليمان الى جده طوني ووالده سليمان، فـيتم تدريبه وتأهيله على يد والده ومساعدين له كالوزير السابق يوسف سعادة، ليكون للبنانيين ورثة سياسيون هم سامي أمين الجميّل الذي يرث والده أمين فـي رئاسة حزب الكتائب بعد أن وصل الى النيابة، وتيمور وليد جنبلاط وطوني سليمان فرنجية وبعدهم كميل دوري شمعون وقبلهم سعد رفـيق الحريري، وفـيصل عمر كرامي الذي ورث الزعامة عن الجد عبدالحميد كرامي الى العم رشيد والوالد عمر، وكذلك الأمر مع النائب طلال إرسلان الذي يعود تاريخ عائلته السياسي الى خمسة قرون كما آل جنبلاط، وعاد العمل الى دارة آل سلام بعد ان كادت ان تقفل سياسيا مع وصول تمام سلام الى رئاسة الحكومة فعاد بيت أبوعلي سلام ليستعيد عافـيته السياسية التي كان عليها قبل اكثر من قرن، وأحيل الى التقاعد قبل أربعين سنة مع الرئيس صائب سلام.
Leave a Reply