نبيل هيثم
ليست مصادفة التزامن بين الصراعات الداخلية التي يخوضها «الإخوان المسلمون» فـي مصر، وبين ما يتردد همساً وجهاراً فـي مراكز القرار الاقليمية والدولية بشأن إعادة تشكيل التنظيم الإسلامي، على المستوى القيادي فـي مختلف الدول العربية.
وإذا كان الحديث عن إعادة تشكيل «الإخوان» للعب دور سياسي فـي المرحلة المقبلة، والذي فـي سياق التوافق القطري-السعودي- التركي، ما زال فـي اطار التسريبات الإعلامية، أو ما يمكن تلمسه بين سطور التقارير المنشورة فـي الصحف، أو الدراسات الصادرة عن مراكز الأبحاث الإقليمية والدولية، فإن التطوّرات الخطيرة التي شهدها التنظيم الام فـي مصر يبدو معبّراً.
الأسبوع الماضي، طفت الصراعات «الإخوانية» فـي مصر على المنابر الإعلامية التابعة للجماعة المحظورة، حين نشر موقع مقرّب من الجماعة المصنّفة إرهابية فـي مصر خبراً يشير إلى أن القيادات التاريخية، والتي اختفت فـي أعقاب فض اعتصام «رابعة العدوية» فـي آب العام 2013، عقدت اجتماعاً طارئاً، خلصت فـيه إلى انتخاب محمد عزت مرشداً لـ«الإخوان» خلفاً لمحمد بديع، المسجون إلى جانب العشرات من قيادات الجماعة، وتشكيل مكتب إرشاد جديد ضم سبعة اشخاص، هم من حضروا الاجتماع.
وبدا واضحاً، فـي تسريب الخبر أن القيادة الجديدة التي تولت قيادة «الإخوان» بعد اعتصام «رابعة العدوية»، لم تكن حاضرة الإجتماع، ما يعني عملياً، وبحسب ما ظهر فـي ردود الفعل عبر المواقع «الإخوانية»، أنه تم اقصاؤها، حتى صار الحديث يدور علناً عن «انقلاب» نفذته «القيادة التاريخية» على «القيادة الشابة».
ومنذ الكشف عن هذه التفاصيل، بات واضحاً ان ثمة فرز عمودي فـي صفوف الجماعة، بين «الحرس القديم» الذي يتزعمه محمود عزت، الذي كان يشغل منصب نائب المرشد قبل سجن بديع، ومحمود غزلان المتحدث الرسمي باسم «الإخوان»، ومحمود حسين الأمين العام السابق، وعبد الرحمن البر الملقب بـ«مفتي الإخوان»، وبين «الحرس الجديد»، الذي يمثله مسؤول ملف التربية والشباب محمد طه وهدان، أعضاء مكتب الإرشاد محمد عليوة ومحمد كمال، بالإضافة إلى عضو مجلس شورى «الإخوان» علي بطيخ والامين العام لـ«حزب الحرية والعدالة» حسين ابراهيم.
هذا الفرز رافقته مجموعة تطورات، كان ابرزها قيام محمد غزلان، وهو من «الحرس القديم»، بنشر مقال يدعو الى السلمية، ويرى أن من يلجأ إلى العنف فهو ليس من «الإخوان»، وهو ما ذكر بمقال نشره المرشد المؤسس حسن البنا بعنوان «ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين» هاجم فـيه حينها ميليشيا التنظيم الخاص التابعة للجماعة، وذلك فـي خضم أزمة حادة افضت إلى حل «الإخوان المسلمين» أيام الملك فاروق.
وبدا واضحاً من خلال مقال غزلان، وبعد ذلك من خلال الاجتماع «الانقلابي» أن القيادة القديمة ترى أن القيادة الجديدة تنتهج سياسة خطيرة، تقوم على ممارسة العنف، وهو ما يعرض جماعة «الإخوان» لخطر وجودي، ما اقتضى عودة القيادات التاريخية الى المشهد، بعد غياب استمر قرابة عام، للامساك مجدداً بزمام الامور، خصوصاً ان القيادة الجديدة هي «لجنة ازمة» عينها المكتب القديم لمهمة محددة ومؤقتة، وانها اخذت فرصتها بالكامل فـي ادارة شؤون الجماعة، وفشلت.
وفـي المقابل، فإن القيادة الجديدة، الممثلة لجيل الشباب، رأت أن ما قامت به القيادة القديمة هو إنقلاب على انتخابات تنظيمية جرت فـي الرابع من شباط العام 2014، وأن دعوتها إلى «السلمية» يهدم كل ما قام به «الإخوان» منذ سقوط نظامهم، لجهة معركة استنزاف نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي من الداخل والخارج، ومنعه من تحقيق أي استقرار اقتصادي أو سياسي أو أمني، وتشكيل ضغط متواصل على مفاصل الدولة المصرية
وتعكس الخطوات التي قامت بها القيادات التاريخية، الممسكة بقطاعي التمويل والعلاقات الخارجية، رغبة فـي تهدئة الاوضاع مع النظام المصري، املاً، فـي ما يبدو، بمصالحة تنهي الحرب المفتوحة بين الطرفـين منذ سقوط نظام «الإخوان المسلمين» على اثر «ثورة 30 يونيو»، وهو ما عكسه مقال محمود غزلان، الداعي الى «السلمية».
وفـي المقابل، فإن القيادات الجديدة، الممسكة بقطاعي الشباب والاعلام، قابلت الدعوات الى السلمية التي اطلقها الجناح القديم، برفض شديد، ترجمته بتأييد بيان صادر عن علماء مسلمين بعنوان «نداء الكنانة» يتضمن تشريعاً للعنف فـي وجه النظام الحاكم، واعتبرت نفسها القيادة الشرعية الوحيدة لـ«الإخوان» الى حين خروج قيادة ما قبل «ثورة 30 يونيو» من السجون.
ويبدو أن الصراع على القيادة داخل «الإخوان» تجاوز البيانات الاعلامية، ليصل الى تجاوز الخطوط الحمر، وهو ما تبدّى فـي دخول الامن المصري على خط الازمة باعتقال مسؤول قطاع التربية والشباب محمد طه وهدان من «القيادة الجديدة»، والذي يعتبر المرشد الخفـي لـ«الإخوان» بعد سجن محمد مرسي ومحمد بديع ونائبه خيرت الشاطر، والممسك الفعلي بكل خيوط اللعبة منذ فض اعتصام «رابعة العدوية»، والموجه الاول لاعمال العنف التي يقوم بها شباب الجماعة المحظورة.
وفـيما يبدو الصراع القائم حالياً تنظيمياً من ناحية (التنازع على القيادة) وعقائدياً من ناحية اخرى (التنازع بين السلمية والعنف)، الا ان للامر زاوية اخرى، لا يمكن فهمها الا من خلال محاولات السعودية اعادة تعويم «الإخوان المسلمين»، سواء فـي مصر او فـي سوريا والاردن، بما يجعلهم فصيلاً اسلامياً قادراً على مواجهة المد الايراني فـي فترة ما بعد توقيع الاتفاق النووي بين الجمهورية الاسلامية ومجموعة دول «5+1».
وليست مصادفة ان يخرج صراع «إخوان» مصر الى العلن مع حديث يروّج له عن المصالحة بين التنظيم الام والدولة المصرية من جهة، والصراع المحتدم بين اذرع «إخوان» الأردن من جهة ثانية، والسعي الدؤوب من قبل السعودية لتمكين «إخوان» سوريا فـي الصراع الدامي، وبطبيعة الحال إعادة «إخوان» اليمن الذين اخرجهم «أنصار الله» من المشهد السياسي قبل اشهر.
كذلك، ليست مصادفة ان يتزامن الكشف عن الصراع الداخلي «الإخواني» مع الزيارة التي قام به وزير الخارجية السعودي عادل الجبير الى القاهرة، يوم الاحد الماضي، ولقائه الرئيس عبد الفتاح السيسي.
الزيارة، وبعيداً عن العبارات الديبلوماسية التي تفوّه بها الوزير السعودي ونظيره المصري سامح شكري، اظهرت ان ثمة تبايناً كبيراً بين الرياض والقاهرة فـي ملفات عدّة، ابزرها سوريا واليمن، واهمها ملف «الإخوان المسلمين».
ومما رشح من أجواء الزيارة فإن القيادة المصرية ابلغت الرياض عن قلقها من المبالغة فـي الانفتاح على جماعة «الإخوان المسلمين» فـي الوطن العربي، ومن مغبة الركون إليها فـي الازمات المشتعلة، كما هي الحال فـي اليمن وسوريا، مع التشديد على ان هذا النهج الانفتاحي سيقود الى عواقب وخيمة على الاستقرار الاقليمي، بالنظر إلى تجارب سابقة اظهرت أن «الإخوان» فـي حال تمكّنوا من العودة إلى الحياة السياسية سيحاولون العودة مجدداً إلى الحكم، بما يهدد كل الانظمة العربية الحاكمة حالياً.
وفـي الملف السوري، ابلغت القاهرة الرياض بأن ثمة استياء فـي اوساط المعارضة السورية ازاء تسارع وتيرة الاتصالات السعودية مع «الإخوان»، فـيما كان رد الرياض بأن التصور السعودي للمستقبل السياسي لسوريا ما بعد الأسد لا يمكن أن يستثنى الإخوان بالصورة التى تريدها القيادة المصرية.
وفـي الملف اليمني، تردد ان القيادة المصرية ابلغت السعوديين بأن القوى اليمنية تحمّل الدعم السعودي لـ«الإخوان» فـي اليمن مسؤولية ما آلت اليه الاوضاع فـي هذا البلد، كما تأخذ على الرياض سعيها لمنح «الإخوان» الغلبة فـي المشهد السياسي وليس مجر المشاركة فـي الحكم.
وفـي العموم، فقد ابلغت القاهرة الرياض بأنها تتفهم القلق السعودي من التمدد الايراني، والذي يكاد يدفع السعودية إلى أن تجاهر بأنها على استعداد لكي تضع يدها حتى بيد الشيطان لمواجهة هذا التمدد، لا بل أن مصر تشارك المملكة النفطية هذا القلق، ومع ذلك فقد كان موقف القيادة المصرية حاسماً فـي ما يتعلق بالمساعي السعودية لتعويم «الإخوان»، وهو ان مصر ترفض مواجهة قوى دينية بقوى دينية اخرى، بحسب ما قالت بعض المصادر الديبلوماسية.
وفـيما لا يزال من المبكر الحديث عن صراع سعودي-مصري بشأن «الإخوان»، بالنظر إلى أن البلدين يحتاجان اليوم إلى بعضهما البعض لأسباب كثيرة، إلا أن تضارب المصالح قد يقود الى صدام حاد بين الجانبين فـي حال قررت السعودية المضي قدماً فـي خطة التعويم «الإخوانية».
ولم يكد الجبير يغادر القاهرة حتى اتى الرد المصري امنياً هذه المرّة عبر توقيف محمد غزلان وعبد الرحمن البر، وهما من القيادات التاريخية الداعية الى نبذ العنف. ويبدو ان توقيت اعتقال القياديين «الإخوانيين» ذو دلالة كبيرة، اذ جاء بمثابة رسالة مزدوجة: الاولى لـ«الإخوان» ومفادها أن لا مصالحة مع الدولة المصرية.. والثانية، وهي الأهم، للسعودية ومفادها ان القيادة المصرية لن تقبل بأن تفرض عليها الاجندة «الإخوانية» مجدداً، ولو ادى ذلك الى فض التحالف القائم بين القاهرة والرياض منذ عزل محمد مرسي.
العلاقات السعودية – «الإخوانية»
كان أول اتصال بين جماعة «الإخوان» والسعودية فـي تشرين الثاني العام 1928، حين نقل الشيخ السلفـي محب الدين الخطيب الى حسن البنّا عرضاً من مستشار الملك عبد العزيز آل سعود الشيخ حافظ وهبة، للسفر إلى المملكة الوليدة، للعمل كمدرس فـي المعاهد السعودية، إلا أن الموضوع لم يتم بسبب عدم اعتراف الحكومة المصرية بحكومة آل سعود فـي ذلك الوقت.
وبعد محاولة الاعتداء التي تعرّض لها الملك عبد العزيز من قبل أحد اليمنيين فـي الحرم المكي، رفع المؤتمر الثالث لـ«الإخوان» (1934)، برقيات بأسماء كافة أعضاء مكتب الإرشاد تضمنت «التهنئة الخالصة لجلالة الملك عبد العزيز آل سعود على نجاته»، و«الاستنكار لهذا العدوان الأثيم».
وفـي العام التالي، بدأت الإجراءات العملية للتقارب مع السعودية، حيث اعتمد مجلس الشورى العام لـ«الإخوان» لائحة الحج فـي العام 1935، وتقرر إرسال وفد من مئة كادر «إخواني» يتقدمهم المرشد المؤسس حسن البنّا لأداء الفريضة المقدسة فـي موسم الحج للعام 1354 هجري /1936 ميلادي.
وخلال هذه الرحلة، كان اللقاء الشهير بين البنّا والملك عبد العزيز، والذي طلب فـيه مؤسس «الإخوان» إنشاء فرع للجماعة فـي السعودية، فكان جوابُ الملك برفض الطلب. ومع ذلك، فإن زيارة البنا للسعودية، وما شهدته من لقاءات، فتحت المجال أمام «الإخوان» لتوسيع دائرة علاقاتهم العامة فـي المملكة.
وبرغم تحفظات الملك عبد العزيز، قام البنا بتشكيل شعبة لـ«الإخوان» فـي السعودية، وقد عملت بشكل دؤوب خلال السنوات العشر اللاحقة على استقطاب مريدين سعوديين.
خلال رحلة الحج الأهم، التي وصلت جدة فـي 10 تشرين الثاني العام 1945، نظمت بعثة «الإخوان» حفل استقبال حاشد فـي فندق «بنك مصر» فـي مكة، ودعت إليه كبار المسؤولين فـي المملكة السعودية، وقد مثل الملك عبد العزيز وقتها فـي هذا الحفل إثنان من أمراء آل سعود.
وحين زار الملك عبد العزيز مصر فـي العام 1946، أخذت فرق الجوالة التابعة لـ«الإخوان» على عاتقها تنظيم استقبالات له خلال جولاته فـي الاسكندرية وأنشاص والزعفران والمحلة الكبرى.
لكن العلاقة بين «الإخوان» والسعودية شهدت توتراً حاداً فـي شباط العام 1948، حين أيّدت الجماعة «الثورة الدستورية» فـي اليمن، والتي وقفت السعودية ضدها. وخلال تلك الفترة استشعر الملك عبد العزيز الخطر الذي يمكن أن يمثله «الإخوان» على أنظمة الحكم فـي الوطن العربي. ولم يسمح للبنّا بالحج خلال ذلك العام، إلا بعدما تعهد الأخير بعدم الخطابة والكلام فـي السياسة.
برغم ذلك، فإن السعودية لعبت دوراً مهماً، خلال عهد الملك سعود (1953-1964)، فـي تأجيل الصدام بين «الإخوان» والنظام الناصري.
وخلال حقبة الستينيات، استفاد «الإخوان» من الصراع الذي كان قائماً بين مصر والسعودية، فازداد نشاطهم فـي المملكة بشكل واضح خلال عهد الملك فـيصل (1964 – 1975).
وتولى قادة «الإخوان» مسؤوليات عدّة فـي المؤسسات الدعوية والتربوية والدينية فـي السعودية، ما عزز العلاقة بين الطرفـين، فاتسع انتشار التيار «الإخواني» هناك، فـيما تأثر قادة «الإخوان»، فـي المقابل، بأجواء الوهابية والسلفـية فـي السعودية.
واستمر الأمر على هذا النحو حتى مطلع التسعينيات، حيث حدث توتر بين الطرفـين على خلفـية تأييد «الإخوان» لغزو العراق للكويت.
وبرغم المد والجزر الذي شهدته العلاقة بين «الإخوان» والسعودية، إلا أن الأمر لم يبلغ مستوى القطيعة إلا فـي مرحلة «الربيع العربي»، على خلفـية التنافس القطري-السعودي، وقد بلغ الهجوم السعودي على «الإخوان» ذروته بعد «ثورة 30 يونيو»، ووصل الى حد ادراج الجماعة المحظورة فـي مصر على قائمة المنظمات الارهابية فـي السعودية.
ولكن فـي ظل التقارب الاخير بين المملكة والامارة، وفـي ظل المخاوف السعودية من تنامي النفوذ الايراني بعد توقيع الاتفاق النووي، يبدو ان ثمة تحوّلاً فـي موقف القيادة السعودية تجاه «الإخوان» وهو ما يتبدى فـي محاولات تعويمهم فـي سوريا ومصر واليمن على وجه الخصوص.
Leave a Reply