مريم شهاب
يرحم الله أيام زمان، عندما كانت الأميَّة مستحكمة فـي قرانا ولم تكن هناك فضائيات وراديوهات ولا صحف وأنترنت وفـيسبوكات، ولم يكن للمراسلين ووكالات الأنباء دور يذكر فـي نقل المعلومات. إعتمد القرويون على ما يقوله الرواة وعلى ما يسمعونه من الحلاق والمطهِّر والداية و«المبيّض» بالنظر لاختلاط أصحاب هذه المهن بالناس وسماعهم لما قيل وقال، كما أنهم بحكم مهنتهم كثيراً ما اطلعوا على أسرار حياة الناس الخاصة.
رحم الله أيضاً ظرفاء ذلك الزمن، الظرفاء بالفطرة، حيث كانوا يمتازون بحدة الذكاء وسرعة الجواب وبالحكمة الممتزجة بالسخرية والجد المرتبط بالهزل. وجود هؤلاء الظرفاء فـي سهرات القرية أو جلسات العصرونية تعطيها نكهة معطرة بالفكاهة والسخرية من الفقر والتعب وحماقة البعض وكسلهم وجشعهم.
ومن هؤلاء الظرفاء فـي قريتنا، كانت الحاجة حليمة، الف رحمة ونور على روحها الطاهرة. كانت سيدة أخت الرجال ورغم أنها أميّة لا تقرأ ولا تكتب، كانت صاحبة لسان متمكن وقادر على إفحام من يندد بها أو يتحداها، وكانت قفشاتها ودعابتها وسخرياتها تنير جلسات القرويين فـي الحقول وجمع المحصول، أو على العين أو فـي السهرات التي تتواجد فـيها، وأثناء الإحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، حيث هجر العديد القرية، بقيت هي فـي بيتها والبعض من جيرانها، تسليهم بخفة دمها وكرم روحها وتخفف عنهم وقع الغارات المدوّية فـي ليالي الخوف، يقضونها فـي الملاجئ والمخابئ هرباً من لؤم وتوحش جيش الإحتلال الإسرائيلي وعملائه.
قبل الحروب الإسرائيلية وبعد الحكم التركي، برز العديد من الزعماء والوجهاء الطغاة فـي جنوب لبنان. وكان منهم زعيم معروف، تعجرف وطغى وعذّب الناس وأرهقهم بظلمه وتعسفه وفرض الضريبة والجباية على محاصيل الفلاحين وأراضيهم. مات وتلاه ابنه فـي الزعامة ولم يكن أحسن من أبيه قط، بل كان عهده أسوأ وأقسى، وسام «نواطيره» و«طراطيره» القرويين سوء الظلم والعذاب.
فـي أحد الأيام خرج فـي جولة على القرى يحث الناس لانتخابه ثانية ومؤازرته ليبقى زعيماً عليهم. وقف بعض الناس يتفرجون على المشهد قانطين ساكتين. بينما قلة قليلة من «الشبيحة»، كانت تدبك «وتحورب» وترقص أمام الزعيم الممتطي حصانه الأدهم، وبرزت من بين الجموع الحاجة حليمة، وبكل خفة ورشاقة رقصت أمام الزعيم متمنية له طول العمر والبقاء والنصر على خصومه فـي الانتخابات. إستغرب الزعيم كلامها وحماسها وتصفـيقها له، لأنه كان يعلم أنه لا أحد بين الناس يحبه. هي تتقصد أن تسخر منه وتهزأ به. قالت له: يا سيدي الزعيم، كان والدك ظالماً وقاسياً علينا فاستجاب الله دعاءنا وخلصنا منه فمات. وجئت أنت فـي محله وإذا بك أكثر ظلماً وقسوة من أبيك، وها أنا أدعو الله أن يبقيك وينجيك من كل سوء حتى لا يخلفك ابنك ويكون أسوأ منك.
وطبعاً هذا الحدث جرى فـي زمان غير هذا الزمان. جرى فـي زمن كان ظرفاء القوم فـيه أحراراً فـي اسواقهم وحقولهم وبيوتهم ويقولون ما يؤمنون به.
بعد تحرير جنوب لبنان من الإحتلال الإسرائيلي، روح المرحومة حليمة زارت أحد أحفادها فـي المنام وقالت له: «ما شفتك يوم جنازتي»؟؟ قال «والله يا ستي كنت مسافر، ان شاء الله عم تسمعي أناشيد الإنتصار والتحرير»؟؟ قالت له: يا حسرة قافلين عليّي بهالقبر المظلم البارد وأنا ميتة، ما سمعت شي. استحى حفـيدها أن يسألها كيف كان الحساب وأين هي الآن، لكنه قال لها: كيفك يا ستي طمنيني عن أحوالك؟. قالت روحها: «الحمدلله أنا منيحة، تخلصت من الوجع وضعف النظر، مثلما بتعرف، أنا الآن ميتة!»
Leave a Reply