نبيل هيثم
ليست هي مجرّد نكسة انتخابية ولا حتى هزيمة سياسية. هي صفعة مذلّة تلقاها رجب طيب اردوغان على ايدي شعبه… وفـي قلبهم الأكراد.
ربما هذا ما يفسّر صمت اردوغان منذ صدور النتائج الاولية للانتخابات البرلمانية التركية يوم الاحد الماضي، وحتى كتابة هذه السطور. هو صمت تحوّل الى مادة للسخرية لدى الاتراك، الذين اخذوا يعدّون الساعات والدقائق والثواني التي غاب فـيها الرئيس – «السلطان» عن المشهد العام منذ الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، اي حال اتضحت الهزيمة الانتخابية لدى القائمين على الماكينة الانتخابية لـ«حزب العدالة والتنمية» فـي ذلك اليوم الذي شكل منعطفاً ليس على المستوى التركي فحسب، بل على مستوى الشرق الاوسط برمّته.
عشية ذلك «الاحد الاسود» على «حزب العدالة والتنمية»، نام اردوغان على حلم، او بالاصح على وهم: بعد 13 عاماً على وصوله الى حكم تركيا، كان هدف الرئيس التركي ان يحصل حزبه على غالبية برلمانية يهيمن من خلالها على ثلاثة اخماس مقاعد مجلس النواب، بما يسمح له بإجراء تعديل دستوري – تحت مسمّى «اصلاح» – يحوّل من خلاله النظام السياسي فـي البلاد من نظام برلماني، منصب رئيس الجمهورية فـيه شرفـي، الى نظام رئاسي، ينتزع من خلاله رئيس الجمهورية كل صلاحيات السلطة التنفـيذية، ليصبح، وفـي ظل هيمنة حزبية شبه كاملة، «سلطاناً» بكل ما للكلمة من معنى.
لكن اصوات الناخبين بددت الحلم / الوهم. 60 فـي المئة من الاتراك قالوا «لا» لـ«حزب العدالة والتنمية»، او بالاصح «لا» لطموحات مجنونة ترغب فـي تحويل بلادهم الى «سلطنة» لا آمر وناهي فـيها سوى رئيس – سلطان تجاوز كل الخطوط الحمراء، فـي الداخل والخارج، وفاحت من قصره روائح الفساد المالي والسياسي، وفضائح دعم الارهاب «الداعشي» وخنق الحريات العامة، وتلطخت جدرانه بدماء الابرياء من سوريا والعراق وصولاً الى مصر وليبيا.
ليل «الاحد الاسود»، بدا ان الحلم / الوهم قد تحوّل إلى كابوس لدى اردوغان: نسبة الثلاثة اخماس باتت 40.8 فـي المئة، اي اقل بتسع نقاط عن نسبة الخمسين فـي المئة. والنتيجة المحققة لم تبدد طموحات النظام الرئاسي فحسب، بل جعلت «حزب العدالة والتنمية» عاجزاً حتى عن تشكيل حكومة احادية.
وتبدو الارقام هنا مفـيدة لفهم المأزق الذي أوقع اردوغان نفسه فـيه، فـ«حزب العدالة والتنمية» حصل على 40.87 فـي المئة من الاصوات ( 258 من اصل 550 مقعداً)، وتلاه «حزب الشعب الجمهوري» (علماني) الذي حصل على 24.95 فـي المئة ( 132 مقعداً)، ومن ثم حزب «الحركة القومية» (يمين محافظ) الذي نال 16.29 فـي المئة (80 مقعداً) و«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي الذي نال 13.12 فـي المئة (80 مقعداً).
وربما تكون الارقام المتعلقة بـ«حزب العدالة والتنمية» اكثر تعبيراً فـي حال مقارنتها بانتخابات العام 2011، فقد ارتفع عدد الناخبين من 50 الى 54 مليوناً، لكنّ أردوغان الذي نال 21 مليوناً ونصف المليون فـي العام 2011، حصل هذه المرة أقل من 19 مليونا، أي انه خسر مليونين ونصف المليون من الكتلة التي صوتت له فـي العام 2011.
فـي المحصلة لم يعد «حزب العدالة والتنمية» قادراً على تشكيل الحكومة بمفرده، وهذا الامر يعني ان تركيا امام مفترق طرق يتضمن واحداً من اربع مسارات: الاول، تشكيل حكومة اقلية من قبل «حزب العدالة والتنمية»، فـي حال نالت الثقة البرلمانية، بعد تقديم تنازلات سياسية، وهو خيار سيء لاردوغان لأن الحكومة العتيدة ستكون ضعيفة ومكبلة ببرلمان تمتلك فـيه المعارضة الغالبية المطلقة. والثاني، هو تشكيل حكومة ائتلافـية مع واحد او اكثر من الاحزاب الاخرى الفائزة وهو خيار يبدو مستبعداً حالياً، وان حصل فسيكون «حزب العدالة والتنمية» مكبلاً بشريك يخالفه السياسات الداخلية والخارجية. والمسار الثالث هو تشكيل حكومة ائتلافـية ولكن من قوى المعارضة، وهو خيار ممكن نظرياً ولكن دونه صعوبات على ارض الواقع. ليبقى المسار الرابع وهو الدعوة الى انتخابات مبكرة فـي حال فشل تشكيل الحكومة، وهي انتخابات قد تفقد «حزب العدالة والتنمية» الكثير من الاصوات بعد صفعة «الاحد الاسود».
ولا بد من الاشارة هنا الى ان الهزيمة الاردوغانية لم تكن لتتحقق لولا «حزب الشعوب الديموقراطي» الذي خاض مغامرة محفوفة بالمخاطر، حين قرر خوض الانتخابات كقائمة حزبية فقط لا غير، بعدما كان الاكراد يخوضون الانتخابات فـي السابق كمستقلين. وتكمن فكرة المغامرة فـي ان الحزب الكردي كان اسير نسبة الـ 10 فـي المئة من الاصوات التي ينبغي على اي حزب سياسي الحصول عليها للدخول الى البرلمان. وفـيما لو اخفق الحزب الكردي فـي الحصول على هذه النسبة، فإن الاصوات التي حصل عليها كان من الممكن ان تؤول الى حزب اردوغان، ليبقى الاكراد خارج التمثيل البرلماني، وهو ما لم يحصل.
وفـي الواقع، فإن ما قاله الناخبون الاتراك كان «لاءات» اربع: «لا» لسياسات «حزب العدالة والتنمية»، «لا» لـ«سلطان» تحت مسمّى نظام رئاسي، «لا» للانفراد فـي الحكم، والأهم «لا» لتحويل تركيا الى بؤرة لتخريب منطقة الشرق الاوسط.
وعلى مستوى السياسة الخارجية، وربما يكون هذا المستوى الاهم، لم تكن الهزيمة الاردوغانية مفاجئة، اذا ما تتبعنا ما آلت اليه احوال حلفاء اردوغان فـي المنطقة العربية.
البداية كانت فـي مصر، حيث اسقط الشعب المصري نظام «الاخوان المسلمين»، الذي كان اردوغان احد ابرز عائلته – او اهمهم على الاطلاق – لتتهاوى بذلك الزاوية الاساسية فـي نظام «الاخونة» الذي سعى الرئيس التركي الى فرضه على الشعوب العربية.
اما المحطة الثانية فكانت فـي تونس ، حيث شكل انهيار حكم «حركة النهضة» ضربة قاضية لـ«الحلم الاردوغاني».
والمحطة الثالثة، وربما الاكثر حساسية، فتمثلت فـي صمود سوريا، الذي يعني بعبارة اخرى، فشل مخطط اردوغان لاسقاط نظام الرئيس بشار الاسد، تمهيداً للصلاة فـي المسجد الاموي فـي دمشق والمسجد الاموي فـي حلب، كما حلم اردوغان وافصح فـي بدء الازمة الدامية.
وفـي جانب مهم من سياسات اردوغان فـي سوريا كانت قضية عين العرب / كوباني، التي غض الرئيس التركي نظره عن الهجوم «الداعشي» عليها، لا بل سعى الى استثماره لتحقيق اهداف سياسية فـي الداخل والخارج. ومن المؤكد ان الصمود الكردي فـي كوباني اعاد شد العصب الكردي ورفعت من منسوب السخط على سياسات دعم الارهاب التي ينتهجها الحزب الحاكم.
وفـي المحصلة يمكن القول ان ما بعد «الاحد الاسود» سيكون مختلفاً عمّا قبله، ليس على مستوى تركيا فحسب، بل ايضاً على مستوى المنطقة العربية.
ومهما كان شكل الحكومة التركية الجديدة، فإن التغيير آت لا محال. ففـي ظل عدم قدرة «حزب العدالة والتنمية» على الانفراد بالحكم، والمعارضةالمطلقة لكل احزاب المعارضة لسياسات اردوغان – داود اوغلو الخارجية، ولا سيما فـي سوريا والعراق ومصر، واستعداد حتى حزب «الحركة القومية» للجلوس مع الرئيس السوري بشار الأسد، ورغبة الجميع فـي اغلاق حنفـية دعم الارهاب وإعادة اللاجئين الى سوريا، قد تفضي الانتخابات التركية الى تبدل دراماتيكي فـي المشهد السوري. ومن المؤكد ان هذه التغييرات فـي تركيا، وبعد فضائح تمرير السلاح للإرهابيين، ستفقد التنظيمات الجهادية، مثل «جبهة النصرة» و«داعش» و«جيش الفتح» وغيرها من دعم عسكري ركنت اليه طوال السنوات الثلاث او الابع الماضية لتوسيع سيطرتها، ليس فـي سوريا فحسب، بل ايضاً فـي العراق ولبنان مصر وليبيا.
كذلك فإن الزلزال التركي سيترك تأثيراً على مواقف أردوغان الإقليمية بالإضافة إلى الشأن الداخلي وسيتم مواجهة سلوك اردوغان العدائي الناجم عن نظرية إعادة إحياء «السلطنة العثمانية» وهو سلوك وضع اردوغان إلى جانب السعودية كعدوين رئيسيين للشعب السوري والنظام السوري ومحور المقاومة فـي المنطقة وجلب مصائب كبيرة للوطن العربي.
هكذا فإن نتائج الانتخابات التركية تحمل اكثر من رسالة الى الداخل والخارج، وابرزها سقوط مشروع «الاخونة» بدءاً بانهيار نظام محمد مرسي فـي مرسي، وسقوط «حركة النهضة» فـي تونس، واخيراً فـي تراجع شعبية «حزب العدالة والتنمية».
وفـيما يفترض ان تشكل الانتخابات عامل ارتياح للانظمة التي ناصبها اردوغان العداء، وخصوصاً نظام الرئيس السوري بشار الاسد ونظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فإن الارباك سيكون سيد الموقف فـي السعودية وقطر لا سيما بعد تشكيل المحور السني الاقليمي (السعودية- قطر – تركيا) لاستكمال الحرب على سوريا ومواجهة الجمهورية الاسلامية فـي ايران. ليل الأحد فـي 12 حزيران العام 2011، وبعد انتصاره فـي الانتخابات النيابية، وقف اردوغان على شرفة مقر «حزب العدالة والتنمية» ليقول: «بهذا الانتصار انتصرت آمال الشعوب فـي كل مكان. لقد انتصرت اسطنبول كما البوسنة الهرسك وازمير وبيروت وانقرة والشام وديار بكر ورام الله وجنين والضفة الغربية والقدس… وغزة انتصرت كذلك». ويمكن القياس على هذا الخطاب لتحديد مدى الهزيمة الاقليمية التي تكبّدها «السلطان» الوهمي.
كيف ربح الأكراد؟
صفعة كبيرة لاردوغان تمثلت فـي المفاجأة التي حققها أكراد تركيا، الممثلون سياسياً بـ«حزب الشعوب الديموقراطي»، الذي أكسبته الانتخابات الرئاسية الماضية، حين خاض رئيسه صلاح الدين ديمرطاش، جرأة مثيرة للدهشة، تبدّت فـي اندفاعة سياسية عبّر عنها قراره خوض الانتخابات الحالية ضمن قائمة حزبية، حصراً، أي من دون أي مرشحين مستقلين، وتجاوزهم عتبة العشرة فـي المئة، التي من دون الحصول عليها، كان يمكن للحزب الكردي ان يبقى خارج التمثيل البرلماني بالكامل.
وتأسس «حزب الشعوب الديموقراطي» فـي 15 تشرين الأول 2012. وهو يقدم التنظيم نفسه بوصفه حزبا لكل مكونات وأطياف المجتمع التركي، مؤكدا أنه لا يمثل هوية أو
عرقا بعينه، وينفـي أن يكون حزبا كرديا. غير أن الكثيرين يعتبرونه حزبا كرديا ونسخة عن «حزب السلام والديموقراطية» الكردي، لكنه موجه إلى مناطق تركيا
الغربية. كما أن هناك من يعتبره حزبا ذا توجه يساري فـي حين يتهمه آخرون بأنه قوة تنفذ قوانين حزب العمال الكردستاني.
ويكمن سر النجاح الكبير الذي حققه الحزب الكردي فـي سبع نقاط اساسية:
1- نجاحه فـي استقطاب أجناس وأعراق مختلفة من كافة طوائف الشعب التركي، بعدما فتح أبوابه أمام العمال والشباب والمعاقين، والمثليين جنسيا والمسيحيين والمهاجرين، والأتراك العرب وغيرهم، ما جعله مأوى للعديد من الأتراك الذين تنبذهم أحزاب أخرى.
2- تمثل النساء 50% من أعضاء هذا الحزب، فالحزب يعتمد بشكل كبير على المرأة، ويترأسه زعيمان هما صلاح الدين دميرطاش، وفـيغان يوكسال داغ، التي تمثل العنصر الانثوي، كما ان نصف مرشحيه فـي الانتخابات الأخيرة كانوا من النساء.
3- نجاح الزعيم الكردي دميرطاش فـي جلب تأييد ومساندة أحزاب تركية، حيث أعلن كل من «حزب المناطق الديمقراطية» و«حزب العمل» و«حزب الحركة العمالية» و«حزب العمال الاشتراكي الثوري» و«حزب إعادة إحياء الاشتراكية» و«حزب المستقبل اليساري» عن دعمها لـ«حزب الشعوب الديموقراطي».
4- رد فعل الحكومة التركية «البارد» كما أسموه، وحت المتواطئ، تجاه أكراد كوباني فـي سوريا، فضلا عن ذلك سلسلة الفضائح المستمرة التي تورط فـيها الحزب الحاكم والحكومة ودعمهم للجماعات الإرهابية وعلى رأسها «داعش».
5- دعوة زعيم «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار اوغلو المواطنين الأتراك الذين لن ينتخبوه بضرورة التصويت لـ«حزب الشعوب الديمقراطية».
6 – تمثيل برنامج «حزب الشعوب الديموقراطي» لاحلام الاتراك خصوصاً فـي ما يتعلق بالحريات.
7- الشخصية الكاريزمية لديمرطاش الذي وصفته الصحافة التركية بانه الوسيم القادر على القضاء على أحلام أردوغان.
سيناريوهات ما بعد الإنتخابات
فـي ضوء النتائج التي انتهت اليها الانتخابات البرلمانية فـي تركيا، فإن سيناريوهات تشكيل الحكومة تتخلص فـي اربعة:
1- ائتلاف يضم «حزب العدالة والتنمية» والقوميين:
إذا كان «حزب العدالة» سيدخل ائتلافا فان من المرجح أن يكون شريكه الأصغر فـي الائتلاف هو حزب «الحركة القومية» اليميني الذي يشترك معه بدرجة ما فـي الأيديولوجية القومية. ومن المرجح أن يسعى زعيم «الحركة القومية» دولت بهجلي الذي أبدى معارضته لطموحات أردوغان فـي إقامة نظام رئاسي فـي تركيا للحصول على تنازلات كبيرة فـي ظل هذا الترتيب بما فـي ذلك الحد من سلطات أردوغان.
وقد يوجه ائتلاف بين «حزب العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» ضربة لعملية السلام مع «حزب العمال الكردستاني» وستكون له تداعيات دراماتيكية على سياسات اردوغان تجاه سوريا.
2- تحالف واسع من المعارضة: إذا لم يمكن «حزب العدالة والتنمية» أن يشكل حكومة مستقرة فإن العرف فـي تركيا جرى على أن أردوغان قد يطلب من ثاني أكبر حزب فـي البرلمان وهو «حزب الشعب الجمهوري العلماني» أن يقوم بذلك. لكن لا يوجد إلزام دستوري بذلك ومن غير المؤكد أن أردوغان الذي بنى مسيرته السياسية على معارضة الحزب العلماني سيتخذ هذا المسار. وقد يتحد الحزب فـي ائتلاف مع «الحركة القومية» و«حزب الشعوب الديموقراطي». ولكن من غير المرجح أن ينحي حزب «الحركة القومية» و«حزب الشعوب الديمقراطي» الخلافات الجذرية بينهما.
3- حكومة أقلية يقودها «حزب العدالة والتنمية»: قد يحاول حزب العدالة والتنمية أن يشكل حكومة أقلية بدعم عدد كاف من نواب المعارضة يتيح له الفوز فـي اقتراع بالثقة فـي البرلمان. ومن المتوقع أن يكون حزب الحركة القومية هو أكثر الداعمين لهذا التحرك لكنه مرة أخرى سيحاول الحصول على تنازلات مثل ضمانات بإجراء انتخابات مبكرة.
4- انتخابات مبكرة: إذا لم يتم تشكيل ائتلاف فعال أو فشلت حكومة أقلية فـي الفوز باقتراع على الثقة خلال 45 يوما يمنح الدستور أردوغان سلطة الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة. وسيتعين إجراء هذه الانتخابات بعد الدعوة لها بتسعين يوما.
Leave a Reply