بلال شرارة
ونحن صغار, كنا نلعب «الغميضة»، كان أحدنا يضع وجهه فـي موازاة عينيه على زنده ويغلقهما تماماً ثم يلتصق بـ (السمليحة).
و (السمليحة) هي اصطلاح يستخدمه أطفال القرى, ويطلقونه على الوضع الجانبي لـ (سنسال) حائط الحجارة حيث تتشكل مداخل المنازل, ويستخدمه الأطفال كنقطة الهدف فـي حال انكشاف الخصم أو انكفاء المسؤول عن حماية الهدف, من أجل أن يسجل احدهما علامة على الآخر، أو كما نصطلح على استخدامه فـي لغة السياسة اللبنانية (يعلم عليه).
ونحن صغار, كنا نلعب الغميضة وكان المسؤول عن السمليحة, أو من يقع عليه الدور يغمض عينيه ويعد من الواحد حتى العشرين أو حسبما نتفق, وبعد ذلك يفتح عينيه ويبدأ البحث عن افراد اللعبة بحذر, اذ عليه ان يحمي (السمليحة) ويكون سباقاً لوضع باطن الكف عليها قبل الخصم. كانت اللعبة تستغرق احياناً يوما بحاله, لكنها كانت جميلة ومشوقة, تستدرجك للكر والفر والتنقل والمداورة والمناورة. كانت تجعلنا نتعرف الحقول شبراً شبراً, والمنازل منزلاً منزلاً, والوجوه وجهاً وجهاً, وهو امر جعلنا فـي الكبر نتحول الى عرافـين نستقرىء الوجوه والايدي والقرارات، ولكن دون ان نتخلى عن مبدأ أمانة اللعبة بأن نغمض أعيننا تماماً ونحن نعد من الواحد الى العشرة وأحياناً ونحن نستمر فـي العد الى ما لا نهاية.
كبرنا, ولم تتغير اللعبة. هي كذلك (غميضة) فـي كل مجالات الحياة وخصوصاً فـي السياسة وبعضنا حتى الذي احترف اللعبتين الغميضة والسياسة, نسي انه كلما تقدمت به السن عليه ان يفتح عينيه اثناء العد لا ان يغلقهما, وعليه ان لا يدير ظهره تماماً لان البراءة عنصر حياة يتقمص الطفولة والطفولة فقط, وان ما ينمو مع الانسان ذاته التي تعيش المكيدة على غددها وتنتهز فرصتها لتضع باطن الكف على (السمليحة) وتغدر بأطفال الحي.
ونحن صغار فـي القرية, كنا نتعلم أن لعبة السياسة سقفها المختار والناطور, ولكن ونحن كبار، كبرت قرانا بنفس مسافة اعمارنا وتحولت الى مساحات بلدات ومدن, واصبحت تحتاج الى ادارات تشمل دورة الحياة اليومية على مستوى السياسة والانماء والاعمار والامن والتربية والصحة… الخ ونتيجة التركيبة الاجتماعية غير المتجانسة والمتطابقة والفوارق فـي المواطنية, نشأت التعارضات وكبرت اللعبة وأصبحت أوسع مدى…
الناطور تحول من (حامي الى حرامي), فاستتبع ذلك نشوء النواطير (والميليشيات), والمختار جمع السلطات بيديه ورفض التنازل. واستتبع ذلك نشوء مخاتير, واقتضى ذلك، البحث عن الحل بواسطة الحرب احياناً والحوار احياناً أخرى, ولا زلنا نتخبط بانتظار الوفاق الذي لا يتم باجماع المخاتير او النواطير الرسميين وغير الرسميين بل بوفاق واجماع الاطفال.
هل ترى ذلك ممكن؟ اخال ان ذلك من الصعوبة بمكان, خصوصاً وان التلوث قد اصاب الاطفال والارض والماء والزرع, واصبح المطلوب حالة اخصاب جديدة لاطفال لم يولدوا بعد, ولم يتعلموا من الكبار الغش فـي لعبة (الغميضة), فـيفتحون عيونهم أثناء العد التنازلي، ويضعون باطن كفهم على (السمليحة) ويخرجون من ارشيف مات فـي الذاكرة.
عذراً فأنا فـي كل مرة أعود فاستجدي القرية والطفولة من اجل حالة تماثل أو تطابق مع واقع نحاول استحضاره, ولكن لا اجد بدا من ذلك, فربما صادفت كلمتي الاخيرة يدا تصافحني, بدل ان تصفعني فاضطر لمعاملة صاحبها بأخلاقي وادير لها الخد الآخر.
وعذراً لهذه المرارة, فواقع الأمر ان دوري لم ينقطع كحام لـ ( السمليحة), الى درجة ان تقادم السن يجعلني اكاد اغفو وانا احاول ان اهديء نفسي اثناء تكرار العد من الواحد الى العشرة.
Leave a Reply